«وجوه متتالية» شريط يعيد ترتيب المشاعر بريشة ديما رعد

لوحة المرأة الأنيقة من معرض ديما رعد
لوحة المرأة الأنيقة من معرض ديما رعد
TT

«وجوه متتالية» شريط يعيد ترتيب المشاعر بريشة ديما رعد

لوحة المرأة الأنيقة من معرض ديما رعد
لوحة المرأة الأنيقة من معرض ديما رعد

تبدلات كثيرة شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، إثر أحداث متسارعة لم تسمح له بالتقاط الأنفاس. فكما اندلاع ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، كذلك انتشار الجائحة والوطن المتأزم، تسببت جميعها بانقلابات في نمط العيش والمشاعر.
من هذه النقطة تنطلق ريشة الفنانة التشكيلية ديما رعد، ضمن معرضها «وجوه متتالية» (Faces in row) في غاليري «كاف» في بيروت. ومن خلال لوحات عملاقة رسمتها رعد بالأكليريك، مستخدمة فيها ألواناً فاقعة وجريئة، تعيد ترتيب مزيج من المشاعر. فالوجوه الموزعة هنا وهناك مؤلفة نحو 30 رسمة، تطبعك بنظراتها المعبرة. بالنسبة للفنانة، الوجه هو أول حروف التعبير، والمركز الأساسي لانطلاق أدوات الجسد والفكر. مرتكزة على لعبة الألوان تأخذنا رعد في رحلة فنية تجريدية، تتراوح بين الغموض والألم والحب والفرح والقلق وغيرها من مشاعر مشتتة حيناً ونافرة حيناً آخر.

جانب من معرض «وجوه متتالية» لديما رعد في غاليري «كاف»

لم تطلق ديما رعد عناوين أو أسماء على أعمالها الفنية، تاركة لناظرها فرصة أن يتبناها ويتفرس بها ويفك ألغازها. فهي كناية عن مجموعة حيوات تخاطبك بصمت رغم ثورة جامحة تطبعها.
تقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»، «لطالما لفتتني الوجوه إلى حد دفعني لتعقبها من دون ملل، أتفرس فيها وأقرأها من دون مجهود. فأنا أغوص فيها حتى الأعماق، ومع تجارب الحياة نمت عندي هذه الموهبة».
وجوه غاضبة وأخرى متألمة وثالثة فخورة بنفسها، ترمقك بنظرات واثقة مرات وحنونة ترأف بك مرات أخرى، جمعتها الفنانة التشكيلية في هذا الشريط الطويل. وبألوان الأخضر الممزوج مع الأزرق القاتم، وفي لوحات أخرى تخلط ما بين الأصفر والبرتقالي، تحاول أن تحدد جنس الوجه أهو لأنثى أم لرجل، لكنك تخفق.


لوحة تتراوح بين الحلم والحقيقة غيرتها ديما رعد في خطوط معاكسة

تعلق رعد في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «هي حالات وومضات حفرت في ذاكرتي بعيداً عن مفهوم الجندرية. وبرأي في عمق كل رجل تسكن امرأة والعكس صحيح، لذلك لا يمكننا أن نفصل بينهما».
تخبرك الفنانة اللبنانية قصة لوحاتها، فهي تؤنسنها وتتحدث معها وتتحداها: «أحياناً أحمل كتلة ألوان وأرميها عليها كي أشعر أنها ترد علي وتتفاعل معي. فـ(تنفلش) على سطحها وتغمرها بخطوط مجنونة».
أما سبب الأحجام الضخمة التي اعتمدتها في لوحاتها فهي لإبراز ملامح تلك الوجوه. «إنها تقفز أمام ناظرها بجرأة، بحيث لا يستطيع أن يغض النظر عنها. ليس من السهل استخدام هذه القياسات في لوحات تحكي عن وجوه فقط. فهذه المساحة الواسعة يمكنها أن تشتت اللوحة، إذا لم يتم التحكم بها وضبطها. كما أن الألوان يمكنها أن تترجم الصرخات والموضوع المتناول». وتشرح ديما مدى أهمية اللون في لوحاتها، وأنها تطلبت الجرأة لاعتماد الفاقع منها مع القاتم.
فهي خطيرة وبمثابة إشارات ترمز إلى صلابة القرار والشخصية القوية عند الفنان.
أشخاص مروا بحياة ديما رعد خلال السفر وحتى أيام حرب تموز، وانفجار مرفأ بيروت وأثناء الجائحة، استذكرتها جميعها وهي تجلس وحيدة في منزلها خلال الحجر المنزلي الذي فرضه «كوفيد». «حتى قبل الجائحة كنت أجلس مع تلك الوجوه أتذكر ملامحها. بدأت في ثنائيات بين المرأة والرجل، ولكن الصور تطورت مع الوقت في تفكيري وما عدت أفرق بين الاثنين. فالحالات التي أعبر عنها لا تتطلب هذا التحديد، فالذل والثورة والألم وغيرها لا تفرق بين الجنسين. هذه الموضوعات الكبيرة، الإنسانية والوجودية، لا تأخذ شكل ذكر أو أنثى».
تحاول أن تقرأ وجوه ديما رعد التي بينها ما تحيطه بهالة تلمسك عن قرب. «لكل إنسان هالة ما، فإما تعطيك ذبذبات إيجابية أو العكس. وهو ما يولد هذه الكيمياء أو العكس بينك وبين الآخر».
في أعمال أخرى تجمع رعد أكثر من شخصية في لوحة واحدة، معبرة عن جملة أحاسيس مبهمة: عيون جاحظة وغيرها حالمة، أو بالكاد تتمتع بحاسة البصر، تبحلق في مشاهدها، وكأنها تناديه لتخبره قصتها. ومرات تغيب العين ليبرز الفم أو الأنف وحتى الأسنان. فهي لم تتوان مرات عن تصوير وجوه شخصياتها بمربعات تتلون بالأحمر والأسود لامرأة أنيقة، أو تقوم بقلبها رأساً على عقب لتصوير الحلم وربطه باللانهاية.
مرات نادرة تركن ديما رعد إلى إبراز أقسام من الجسد مع تلك الوجوه التي تصورها. فهي ترى أن التعابير الأساسية وحتى لغة الجسد مركزها التحكمي هو الفكر. فكل ما نحاول التعبير عنه يبدأ من ملامح الوجه ليسري فيما بعد على أقسام الجسد. ولذلك ترى في لوحاتها حضوراً غامضاً للجسد، بالكاد تلمحه مرات، فيما يقفز أمام عينيك بقوة مرات أخرى.
«اللوحة تتطلب التأليف والتلوين والموضوع، وكل عنصر منها يحكي قصة ما تتمتع بمساراتها وخصوصيتها، مما يميز واحدة عن أخرى»، تقول ديما التي تعترف أنها عندما ترسم لوحاتها تخاطبها بكل اللغات الفنية. «هي حالة من الفوضى أعبر معها بخيالي وأصممها ضمن عالمي الخاص. أرسم بريشة مجنونة، فتفكيري ليس نمطياً وتجاوزت الذهن الأكاديمي».
لا ثرثرات في لوحات ديما رعد ضمن معرضها «وجوه متتالية»، بل محاكاة للإنسان المتعطش للحب والفرح والحلم. وقبل أن تغادر هذه اللوحات مودعاً، تعتقد لوهلة أنك ستغمرها إثر علاقة وثيقة تولد بينك وبينها، فهي تلمس قلبك من دون استئذان.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».