الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل

وسط تزايد الاستقطاب الدولي حيال الحرب الأوكرانية

الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل
TT

الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل

الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل

تسببت الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، كما يبدو من «سيناريو» الأحداث، في استقطاب عميق في العالم. ووسط الفرز الحاصل في المواقف القائم على فكرة «معنا أو ضدنا»، يزداد اهتمام القوى المستقطِبة (بكسر الطاء) ببعض الدول المحايدة التي فضلت حتى الآن ألا تنحاز إلى أي طرف علانية. وفي طليعة هذه الدول الهند التي غدت مركزاً للاتصالات الدبلوماسية العالمية مع تفاقم الأزمة الروسية ـ الأوكرانية وتداعياتها. والواقع أن موقف الهند المحايد حتى اللحظة تجاه الأزمة يترافق مع سباق أميركي - أوروبي - روسي - صيني على التودد إليها. وشهد الأسبوعان الماضيان نشاطاً مستمراً لقادة العالم وكبار الدبلوماسيين الأجانب طلباً لدعم نيودلهي في «لعبة القوة» بين المعسكر المتسامح مع روسيا والمعسكر المناوئ لها، إلى جانب تحذيرات – وحتى تهديدات مبطنة – من جانب بعض القوى في سياق اجتذاب نيودلهي إلى صفها حيال هذه القضية الحساسة. وأوضحت مصادر من وزارة الخارجية الهندية أن «التركيز الأساسي لجميع هذه الاتصالات والمباحثات انصب على الحرب الجارية في أوكرانيا، والموقف السياسي للهند من الغزو الروسي، أو العقوبات الغربية الواسعة النطاق ضد روسيا، وإلى حد ما تأثير ذلك على السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

تجسد الفرز الكبير بين قيادات كلا جانبي الصدع الاستراتيجي إزاء الحرب الأوكرانية في المساعي الدؤوبة من الجانبين الروسي والغربي لإقناع الحكومة الهندية بمواقفهم وسياساتهم إزاء هذه القضية التي هزت السياسة العالمية، وبالذات المسرح الأوروبي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه بين القيادات العالمية التي زارت نيودلهي في غضون الأسبوعين الماضيين، رئيس وزراء اليابان ونائب مستشار شؤون الأمن الوطني الأميركي، بجانب وزراء خارجية بريطانيا والصين وروسيا. كذلك، شملت هذه الموجة من الزيارات وزراء خارجية كل من النمسا واليونان والمكسيك وسلطنة عُمان ومستشار الأمن الوطني الألماني والمبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي. وهو أمر يعتبره المسؤولون الهنود تأكيداً للمكانة السياسية المتزايدة الأهمية لبلادهم.
في الحقيقة كانت ثمة مخاوف بشأن تكثيف الهند مشترياتها من النفط من روسيا بتخفيضات كبيرة. وبديهي أن الغرب، على رأسه الولايات المتحدة الأميركية، لا يرغب مطلقاً في إقدام الهند على تكثيف مشترياتها من النفط الخام الروسي. وفي المقابل، تعمل حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، راهناً، بمرونة وقدر طيب من العقلانية، إذ إنها تصغي إلى جميع الأطراف لكنها تفعل ما تعتقد أنه الأفضل لمصلحتها الوطنية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نيودلهي امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة، محجمة عن إدانة الغزو الروسي، لكنها تواجه اليوم ضغوطاً متزايدة من الدول الغربية لمراجعة موقفها.
تهمة «الإكراه»
فيما يخص الولايات المتحدة، فإنها أرسلت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند إلى نيودلهي خلال الأسبوع الماضي، وأعقبت ذلك بإرسال داليب سينغ نائب مستشار الأمن الوطني للشؤون الاقتصادية الدولية. ولقد حاول سينغ إجبار السلطات الهندية على تغيير نهجها تجاه روسيا باستخدامه ما وصف بـ«لغة غير دبلوماسية». وخلال زيارته التي استغرقت يومين، حذر سينغ الهند من تعزيز العلاقات مع موسكو، وأوضح أن الهند قد تواجه خطر الوقوع في شبكة من العقوبات الثانوية إذا حاولت الدخول في تعاملات تجارية مع روسيا. ثم حذر من أنه «ستكون هناك عواقب» على الدول، بما في ذلك الهند، «التي تحاول الالتفاف على العقوبات أو تقويضها».
وضمن هذا الإطار يُذكر أن سينغ - الهندي الأصل - يُعد كبير المخططين الاستراتيجيين والعقل المصمم للعقوبات ضد روسيا في إدارة جو بايدن. وتعكس كلماته التعليقات التي أدلى بها مسؤولون من الاتحاد الأوروبي وألمانيا خلال زياراتهم نيو دلهي، هذا الأسبوع، والذين اعتبروا أنه لا يجوز للهند أن تسعى لجني مزايا اقتصادية من وراء العقوبات الغربية، وألا تسعى كذلك إلى تخفيف تداعيات هذه العقوبات أثناء الحرب.
من ناحية أخرى، أدان مبعوث الهند السابق لدى الأمم المتحدة، سيد أكبر الدين، كلام نائب مستشار الأمن الوطني الأميركي. وقال مستنكراً: «إذاً هذا صديقنا... ؟؟ هذه ليست لغة دبلوماسية، هذه لغة إكراه». كذلك شارك أكبر الدين مقطعاً في إحدى الصحف على حسابه على «تويتر» نقل عن داليب سينغ قوله: «ما لا نود أن نراه هو التسريع من وتيرة الواردات الهندية من روسيا فيما يتعلق بالطاقة، أو أي صادرات أخرى محظورة من جانب الحكومة الأميركية، أو أي عناصر أخرى من نظام العقوبات الدولي».
وبالمناسبة، قبل زيارة داليب سينغ، صرحت وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو أن اقتراح الحكومة الهندية باستخدام نظام الرسائل المركزي الروسي «إس بي إف إس» للسماح بالمعاملات المالية المرتبطة والمعدات العسكرية سيكون أمراً «مخيباً للآمال للغاية». وضغطت ريموندو، أيضاً، على الهند للانضمام إلى الولايات المتحدة ودول أخرى للوقوف في صف الشعب الأوكراني، بقولها: «لقد حان الوقت للوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، والوقوف إلى جانب الولايات المتحدة وعشرات الدول الأخرى التي تدافع عن الحرية والديمقراطية والسيادة مع الشعب الأوكراني، وليس تمويل وتأجيج ومساعدة الحرب التي يشنها الرئيس (الروسي فلاديمير بوتين)».
مع هذا، رغم تكثيف واشنطن جهودها لحشد الدعم الدولي من أجل عزل روسيا، رفضت نيودلهي، شريكتها المقربة داخل تحالف «كواد» (الذي يضم الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا)، الانضمام إلى التحالف ضد موسكو. وأكدت نيودلهي أنها لا تعتزم الإضرار بالعلاقات مع روسيا، ولم تُدن الإجراء الروسي ولم تنضم إلى قرارات الأمم المتحدة ضد روسيا.
ثمة مراقبون منتقدون يرون أن موقف الحكومة الهندية لا ينسجم مع طابعها الديمقراطي والتزام نيودلهي بالنظام الدولي القائم على القواعد، ولا يتوافق بشكل جيد مع شركائها الديمقراطيين في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة.
كذلك يلفت البعض إلى أن ديناميكيات العلاقات بين نيودلهي وواشنطن، التي سادت إبان «الحرب الباردة»، لا تزال تلوح في الأفق في الذاكرة الشعبية، عندما ساد اعتقاد قوي بأن واشنطن كانت مترددة إزاء التعاطف مع الهند، رغم كونها ديمقراطية تتبع نهجاً مماثلاً في التفكير. في هذا الصدد، فإن تحالف الولايات المتحدة مع باكستان ودعمها الكبير لإسلام آباد خلال حرب عام 1971 ضد الهند ما زال يثير الاستياء داخل الهند حتى بعد مرور 50 سنة.
أما فيما يخص بريطانيا، فإن وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس تجنبت توجيه أي تهديد مباشر للهند أثناء انعقاد «منتدى العقود المستقبلية الاستراتيجية بين الهند والمملكة المتحدة»، لكنها مع ذلك شددت على ضرورة تطبيق العقوبات الأميركية للضغط على الرئيس بوتين. وفي حين صرحت تراس بأنها «لا تلقي محاضرة» على الهند أو أي دولة أخرى حول كيفية الرد على الأزمة في أوكرانيا، فإنها أشارت إلى الحاجة إلى تقليل شراء النفط والغاز من روسيا.

- الهند... و«نفاق» الغرب
اللافت أن وزير الشؤون الخارجية الهندي، إس. جايشانكار، استجاب لهذه القضية في حضور تراس بالقول إن وسائل الإعلام والدول الأخرى تركز فقط على مشتريات الهند بينما تتجاهل مشتريات النفط المماثلة من جانب دول أوروبية.
وأثناء دفاع جايشانكار عن قرار شراء النفط الخام الروسي بأسعار مخفضة، أكد أنه من المهم للهند الحصول على صفقات جيدة بشأن إمدادات الطاقة، في وقت عانت الأسواق العالمية من الاضطراب. وتابع: «كنت أقرأ للتو تقريراً حول أنه في مارس (آذار) اشترت أوروبا، على ما أعتقد، كميات من النفط والغاز من روسيا بزيادة 15 في المائة مقارنة بالشهر السابق. وإذا نظرت إلى المشترين الرئيسيين للنفط والغاز من روسيا، أعتقد أنك ستجد معظمهم في أوروبا. أما الهند، فتحصل على الجزء الأكبر من إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط ونحو ما بين 7.5 في المائة و8 في المائة من الولايات المتحدة، بينما كانت المشتريات من روسيا في الماضي أقل من 1 في المائة». وأردف أن هناك «حملة» لاستهداف الهند لشرائها النفط الروسي.
وحقاً، تكشف الأرقام أن منشآت تكرير النفط الهندية اشترت أكثر عن 13 مليون برميل من النفط الروسي منذ بدء الحرب الأوكرانية في 24 فبراير (شباط)، في ارتفاع حاد عن العام الماضي، عندما اشترت الهند 16 مليون برميل من النفط الروسي خلال عام 2021 بأكمله. ويذكر أن مسؤولين من بنك روسيا، البنك المركزي في البلاد، التقوا بمسؤولين من بنك الاحتياطي الهندي لمناقشة آليات الدفع البديلة من خلال البنوك المحصنة من العقوبات الدولية. ومن المقرر أن يستخدم الجانبان الروبية ـ الروبل في سداد تكاليف صفقات تجارة النفط والمعدات العسكرية وسلع أخرى.

- زيارات روسية صينية
ظاهرياً، تظهر مثل هذه الزيارات الدبلوماسية وكأن نيودلهي تملك «العصا السحرية» التي تمكنها من إنهاء الحرب في أوكرانيا، وإعادة القوات الروسية إلى بلادها، وسد الفجوة الآخذة في الاتساع بين واشنطن وموسكو، وجعل أوروبا أكثر سلاماً، واستعادة وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها. لكن الحقيقة أن كلاً من واشنطن وموسكو، اللتين سبق أن دخلتا في مواجهة أثناء «الحرب الباردة»، تحاول إبقاء الهند إلى جانبها في «الحرب الباردة الجديدة» التي بدأت تتشكل ملامحها حالياً وتتسم بقدر بالغ من التعقيد.
وفي دراما دبلوماسية ساخنة، جاء وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، هو الآخر يطرق البوابة الهندية بعد زيارتي ليز تراس وداليب سينغ، اللذين قاما في العاصمة الهندية بمهمة مماثلة. وجذب تفاعل وزير الخارجية الروسي مع نظيره الهندي وأيضاً في لقائه مع رئيس الوزراء مودي الاهتمام الدولي، عندما سلط لافروف الضوء على إمكانية اضطلاع الهند بدور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا لحل الأزمة.
ومما قاله لافروف: «إن روسيا منفتحة على الهند للوساطة في أزمة أوكرانيا. لن يعارض أحد إذا دعمت الهند مثل هذه العملية، فالهند بلد مهم». وأردف أن موسكو مستعدة لمناقشة احتياجات الهند من النفط الخام إذا أرادت شراءه من روسيا. وفي إشارة لتقديره للنهج الهندي، نوه الوزير الروسي خلال مؤتمر صحافي بأن «السياسات الخارجية الهندية تتميز بالاستقلالية والتركيز على المصالح الوطنية الحقيقية والمشروعة».
من جهته، أعرب النائب السابق لمستشار الأمن الوطني الهندي، عن سعادته بما اعتبره «شهادة على الدبلوماسية الحاذقة للهند في ظل البيئة الدولية الراهنة وموقفها القائم على المبادئ». ويُذكر أن رئيس الوزراء الهندي مودي ظل على اتصال مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وبفضل التعامل المحايد هذا - حسب رسميين هنود – فإن نيودلهي تجد نفسها اليوم في موقع مركزي يمكنها من محاولة طرح حل القضية. وفي حين قوبل طلب وزير الخارجية الصيني وانغ يي لقاء الرئيس مودي بالرفض، فإن الأخير التقى لافروف وتلقى منه «رسالة شخصية» من الرئيس بوتين.
وأشار المسؤول الهندي السابق إلى أنه على مدى أربعة عقود من الترابط الوثيق بين روسيا والهند، اختار كل جانب تحاشي التدخل في النقاط الحساسة للآخر في المحافل الدولية، وسيتوجب على الهند تحديد مكانها بعناية في ظل الجغرافيا السياسية المتغيرة.

- موقع الصين
على صعيد آخر، بالنسبة إلى الصين، فإن وزير الخارجية وانغ قام أخيراً بزيارة إلى الهند لم يعلن عنها على الإطلاق، وسبق توجهه إلى نيودلهي زيارته لكل من إسلام آباد وكابُل. ويبقى التساؤل الأكبر: لماذا شعرت الصين بالحاجة إلى إرسال وانغ إلى الهند، بالنظر إلى العلاقات بين البلدين في التاريخ الحديث؟
في هذا الصدد، أعرب أمريتبال كور، الباحث لدى مركز الدراسات السياسية التابع لجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، عن اعتقاده بأنه «يكمن جزء من الإجابة في موقف الهند من الأزمة الروسية ـ الأوكرانية. وربما تنظر الصين إلى دبلوماسية الهند المستقلة كموقف إيجابي منفتح على موقفها، خصوصاً أن الصينيين يواجهون انتقادات متزايدة بسبب دعمها لروسيا. وبالتالي، من المهم للغاية الحصول على دعم الهند على هذا الصعيد».
علاوة على ذلك، يكمل الباحث كور: «تستضيف الصين قمة «بريكس» هذا العام وسيترك قرار الهند سواء بالحضور أو التغيب، انطباعاً كبيراً على قيادة الرئيس الصيني شي جينبينغ، خصوصاً مع الأخذ في الاعتبار التغيير الوشيك الذي يحدث في القيادة مرة كل عقد في الصين، والذي يسعى الرئيس شي لتفاديه. ولكن المؤكد أن روسيا والصين ترغبان في الحفاظ على الترتيبات الدبلوماسية الثلاثية بين روسيا والصين والهند و«منتدى منظمة شنغهاي للتعاون» ومجموعة «البريكس».
ومن جانبه، أشار سي. راجا موهان، الخبير في الشأن الصيني، إلى أن «الولايات المتحدة واليابان وأستراليا تريد أن تشارك الهند بقوة في منتدى تحالف «كواد»، في تحاول بكين قلب هذه الديناميكية من خلال محاولة إقناع نيودلهي بالانضمام إلى معسكر مناهض للغرب. ولقد سلطت زيارة وانغ المفاجئة الضوء على محاولة جديدة لسحب الهند بعيداً عن الغرب وعلى «مناورة» من غير المحتمل أن تنجح، لكن هذا لن يمنع سعي الهند للاستمتاع بحرب العطاءات الدائرة حولها. وتابع موهان: «من روسيا، تحصل الهند على نفط وأسمدة وسلع أخرى مخفضة السعر، في ظل مساعي موسكو الحثيثة لاجتذاب مشترين جدد. ومن الصين، تتطلع الهند إلى تخفيف حدة المواجهة العسكرية الصينية ـ الهندية في إقليم جبال الهيمالايا».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.