الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل

وسط تزايد الاستقطاب الدولي حيال الحرب الأوكرانية

الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل
TT

الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل

الهند «المحايدة» تجد نفسها في وضع وسيط محتمل

تسببت الأزمة الروسية ـ الأوكرانية، كما يبدو من «سيناريو» الأحداث، في استقطاب عميق في العالم. ووسط الفرز الحاصل في المواقف القائم على فكرة «معنا أو ضدنا»، يزداد اهتمام القوى المستقطِبة (بكسر الطاء) ببعض الدول المحايدة التي فضلت حتى الآن ألا تنحاز إلى أي طرف علانية. وفي طليعة هذه الدول الهند التي غدت مركزاً للاتصالات الدبلوماسية العالمية مع تفاقم الأزمة الروسية ـ الأوكرانية وتداعياتها. والواقع أن موقف الهند المحايد حتى اللحظة تجاه الأزمة يترافق مع سباق أميركي - أوروبي - روسي - صيني على التودد إليها. وشهد الأسبوعان الماضيان نشاطاً مستمراً لقادة العالم وكبار الدبلوماسيين الأجانب طلباً لدعم نيودلهي في «لعبة القوة» بين المعسكر المتسامح مع روسيا والمعسكر المناوئ لها، إلى جانب تحذيرات – وحتى تهديدات مبطنة – من جانب بعض القوى في سياق اجتذاب نيودلهي إلى صفها حيال هذه القضية الحساسة. وأوضحت مصادر من وزارة الخارجية الهندية أن «التركيز الأساسي لجميع هذه الاتصالات والمباحثات انصب على الحرب الجارية في أوكرانيا، والموقف السياسي للهند من الغزو الروسي، أو العقوبات الغربية الواسعة النطاق ضد روسيا، وإلى حد ما تأثير ذلك على السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

تجسد الفرز الكبير بين قيادات كلا جانبي الصدع الاستراتيجي إزاء الحرب الأوكرانية في المساعي الدؤوبة من الجانبين الروسي والغربي لإقناع الحكومة الهندية بمواقفهم وسياساتهم إزاء هذه القضية التي هزت السياسة العالمية، وبالذات المسرح الأوروبي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه بين القيادات العالمية التي زارت نيودلهي في غضون الأسبوعين الماضيين، رئيس وزراء اليابان ونائب مستشار شؤون الأمن الوطني الأميركي، بجانب وزراء خارجية بريطانيا والصين وروسيا. كذلك، شملت هذه الموجة من الزيارات وزراء خارجية كل من النمسا واليونان والمكسيك وسلطنة عُمان ومستشار الأمن الوطني الألماني والمبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي. وهو أمر يعتبره المسؤولون الهنود تأكيداً للمكانة السياسية المتزايدة الأهمية لبلادهم.
في الحقيقة كانت ثمة مخاوف بشأن تكثيف الهند مشترياتها من النفط من روسيا بتخفيضات كبيرة. وبديهي أن الغرب، على رأسه الولايات المتحدة الأميركية، لا يرغب مطلقاً في إقدام الهند على تكثيف مشترياتها من النفط الخام الروسي. وفي المقابل، تعمل حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، راهناً، بمرونة وقدر طيب من العقلانية، إذ إنها تصغي إلى جميع الأطراف لكنها تفعل ما تعتقد أنه الأفضل لمصلحتها الوطنية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نيودلهي امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة، محجمة عن إدانة الغزو الروسي، لكنها تواجه اليوم ضغوطاً متزايدة من الدول الغربية لمراجعة موقفها.
تهمة «الإكراه»
فيما يخص الولايات المتحدة، فإنها أرسلت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند إلى نيودلهي خلال الأسبوع الماضي، وأعقبت ذلك بإرسال داليب سينغ نائب مستشار الأمن الوطني للشؤون الاقتصادية الدولية. ولقد حاول سينغ إجبار السلطات الهندية على تغيير نهجها تجاه روسيا باستخدامه ما وصف بـ«لغة غير دبلوماسية». وخلال زيارته التي استغرقت يومين، حذر سينغ الهند من تعزيز العلاقات مع موسكو، وأوضح أن الهند قد تواجه خطر الوقوع في شبكة من العقوبات الثانوية إذا حاولت الدخول في تعاملات تجارية مع روسيا. ثم حذر من أنه «ستكون هناك عواقب» على الدول، بما في ذلك الهند، «التي تحاول الالتفاف على العقوبات أو تقويضها».
وضمن هذا الإطار يُذكر أن سينغ - الهندي الأصل - يُعد كبير المخططين الاستراتيجيين والعقل المصمم للعقوبات ضد روسيا في إدارة جو بايدن. وتعكس كلماته التعليقات التي أدلى بها مسؤولون من الاتحاد الأوروبي وألمانيا خلال زياراتهم نيو دلهي، هذا الأسبوع، والذين اعتبروا أنه لا يجوز للهند أن تسعى لجني مزايا اقتصادية من وراء العقوبات الغربية، وألا تسعى كذلك إلى تخفيف تداعيات هذه العقوبات أثناء الحرب.
من ناحية أخرى، أدان مبعوث الهند السابق لدى الأمم المتحدة، سيد أكبر الدين، كلام نائب مستشار الأمن الوطني الأميركي. وقال مستنكراً: «إذاً هذا صديقنا... ؟؟ هذه ليست لغة دبلوماسية، هذه لغة إكراه». كذلك شارك أكبر الدين مقطعاً في إحدى الصحف على حسابه على «تويتر» نقل عن داليب سينغ قوله: «ما لا نود أن نراه هو التسريع من وتيرة الواردات الهندية من روسيا فيما يتعلق بالطاقة، أو أي صادرات أخرى محظورة من جانب الحكومة الأميركية، أو أي عناصر أخرى من نظام العقوبات الدولي».
وبالمناسبة، قبل زيارة داليب سينغ، صرحت وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو أن اقتراح الحكومة الهندية باستخدام نظام الرسائل المركزي الروسي «إس بي إف إس» للسماح بالمعاملات المالية المرتبطة والمعدات العسكرية سيكون أمراً «مخيباً للآمال للغاية». وضغطت ريموندو، أيضاً، على الهند للانضمام إلى الولايات المتحدة ودول أخرى للوقوف في صف الشعب الأوكراني، بقولها: «لقد حان الوقت للوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، والوقوف إلى جانب الولايات المتحدة وعشرات الدول الأخرى التي تدافع عن الحرية والديمقراطية والسيادة مع الشعب الأوكراني، وليس تمويل وتأجيج ومساعدة الحرب التي يشنها الرئيس (الروسي فلاديمير بوتين)».
مع هذا، رغم تكثيف واشنطن جهودها لحشد الدعم الدولي من أجل عزل روسيا، رفضت نيودلهي، شريكتها المقربة داخل تحالف «كواد» (الذي يضم الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا)، الانضمام إلى التحالف ضد موسكو. وأكدت نيودلهي أنها لا تعتزم الإضرار بالعلاقات مع روسيا، ولم تُدن الإجراء الروسي ولم تنضم إلى قرارات الأمم المتحدة ضد روسيا.
ثمة مراقبون منتقدون يرون أن موقف الحكومة الهندية لا ينسجم مع طابعها الديمقراطي والتزام نيودلهي بالنظام الدولي القائم على القواعد، ولا يتوافق بشكل جيد مع شركائها الديمقراطيين في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة.
كذلك يلفت البعض إلى أن ديناميكيات العلاقات بين نيودلهي وواشنطن، التي سادت إبان «الحرب الباردة»، لا تزال تلوح في الأفق في الذاكرة الشعبية، عندما ساد اعتقاد قوي بأن واشنطن كانت مترددة إزاء التعاطف مع الهند، رغم كونها ديمقراطية تتبع نهجاً مماثلاً في التفكير. في هذا الصدد، فإن تحالف الولايات المتحدة مع باكستان ودعمها الكبير لإسلام آباد خلال حرب عام 1971 ضد الهند ما زال يثير الاستياء داخل الهند حتى بعد مرور 50 سنة.
أما فيما يخص بريطانيا، فإن وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس تجنبت توجيه أي تهديد مباشر للهند أثناء انعقاد «منتدى العقود المستقبلية الاستراتيجية بين الهند والمملكة المتحدة»، لكنها مع ذلك شددت على ضرورة تطبيق العقوبات الأميركية للضغط على الرئيس بوتين. وفي حين صرحت تراس بأنها «لا تلقي محاضرة» على الهند أو أي دولة أخرى حول كيفية الرد على الأزمة في أوكرانيا، فإنها أشارت إلى الحاجة إلى تقليل شراء النفط والغاز من روسيا.

- الهند... و«نفاق» الغرب
اللافت أن وزير الشؤون الخارجية الهندي، إس. جايشانكار، استجاب لهذه القضية في حضور تراس بالقول إن وسائل الإعلام والدول الأخرى تركز فقط على مشتريات الهند بينما تتجاهل مشتريات النفط المماثلة من جانب دول أوروبية.
وأثناء دفاع جايشانكار عن قرار شراء النفط الخام الروسي بأسعار مخفضة، أكد أنه من المهم للهند الحصول على صفقات جيدة بشأن إمدادات الطاقة، في وقت عانت الأسواق العالمية من الاضطراب. وتابع: «كنت أقرأ للتو تقريراً حول أنه في مارس (آذار) اشترت أوروبا، على ما أعتقد، كميات من النفط والغاز من روسيا بزيادة 15 في المائة مقارنة بالشهر السابق. وإذا نظرت إلى المشترين الرئيسيين للنفط والغاز من روسيا، أعتقد أنك ستجد معظمهم في أوروبا. أما الهند، فتحصل على الجزء الأكبر من إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط ونحو ما بين 7.5 في المائة و8 في المائة من الولايات المتحدة، بينما كانت المشتريات من روسيا في الماضي أقل من 1 في المائة». وأردف أن هناك «حملة» لاستهداف الهند لشرائها النفط الروسي.
وحقاً، تكشف الأرقام أن منشآت تكرير النفط الهندية اشترت أكثر عن 13 مليون برميل من النفط الروسي منذ بدء الحرب الأوكرانية في 24 فبراير (شباط)، في ارتفاع حاد عن العام الماضي، عندما اشترت الهند 16 مليون برميل من النفط الروسي خلال عام 2021 بأكمله. ويذكر أن مسؤولين من بنك روسيا، البنك المركزي في البلاد، التقوا بمسؤولين من بنك الاحتياطي الهندي لمناقشة آليات الدفع البديلة من خلال البنوك المحصنة من العقوبات الدولية. ومن المقرر أن يستخدم الجانبان الروبية ـ الروبل في سداد تكاليف صفقات تجارة النفط والمعدات العسكرية وسلع أخرى.

- زيارات روسية صينية
ظاهرياً، تظهر مثل هذه الزيارات الدبلوماسية وكأن نيودلهي تملك «العصا السحرية» التي تمكنها من إنهاء الحرب في أوكرانيا، وإعادة القوات الروسية إلى بلادها، وسد الفجوة الآخذة في الاتساع بين واشنطن وموسكو، وجعل أوروبا أكثر سلاماً، واستعادة وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها. لكن الحقيقة أن كلاً من واشنطن وموسكو، اللتين سبق أن دخلتا في مواجهة أثناء «الحرب الباردة»، تحاول إبقاء الهند إلى جانبها في «الحرب الباردة الجديدة» التي بدأت تتشكل ملامحها حالياً وتتسم بقدر بالغ من التعقيد.
وفي دراما دبلوماسية ساخنة، جاء وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، هو الآخر يطرق البوابة الهندية بعد زيارتي ليز تراس وداليب سينغ، اللذين قاما في العاصمة الهندية بمهمة مماثلة. وجذب تفاعل وزير الخارجية الروسي مع نظيره الهندي وأيضاً في لقائه مع رئيس الوزراء مودي الاهتمام الدولي، عندما سلط لافروف الضوء على إمكانية اضطلاع الهند بدور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا لحل الأزمة.
ومما قاله لافروف: «إن روسيا منفتحة على الهند للوساطة في أزمة أوكرانيا. لن يعارض أحد إذا دعمت الهند مثل هذه العملية، فالهند بلد مهم». وأردف أن موسكو مستعدة لمناقشة احتياجات الهند من النفط الخام إذا أرادت شراءه من روسيا. وفي إشارة لتقديره للنهج الهندي، نوه الوزير الروسي خلال مؤتمر صحافي بأن «السياسات الخارجية الهندية تتميز بالاستقلالية والتركيز على المصالح الوطنية الحقيقية والمشروعة».
من جهته، أعرب النائب السابق لمستشار الأمن الوطني الهندي، عن سعادته بما اعتبره «شهادة على الدبلوماسية الحاذقة للهند في ظل البيئة الدولية الراهنة وموقفها القائم على المبادئ». ويُذكر أن رئيس الوزراء الهندي مودي ظل على اتصال مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وبفضل التعامل المحايد هذا - حسب رسميين هنود – فإن نيودلهي تجد نفسها اليوم في موقع مركزي يمكنها من محاولة طرح حل القضية. وفي حين قوبل طلب وزير الخارجية الصيني وانغ يي لقاء الرئيس مودي بالرفض، فإن الأخير التقى لافروف وتلقى منه «رسالة شخصية» من الرئيس بوتين.
وأشار المسؤول الهندي السابق إلى أنه على مدى أربعة عقود من الترابط الوثيق بين روسيا والهند، اختار كل جانب تحاشي التدخل في النقاط الحساسة للآخر في المحافل الدولية، وسيتوجب على الهند تحديد مكانها بعناية في ظل الجغرافيا السياسية المتغيرة.

- موقع الصين
على صعيد آخر، بالنسبة إلى الصين، فإن وزير الخارجية وانغ قام أخيراً بزيارة إلى الهند لم يعلن عنها على الإطلاق، وسبق توجهه إلى نيودلهي زيارته لكل من إسلام آباد وكابُل. ويبقى التساؤل الأكبر: لماذا شعرت الصين بالحاجة إلى إرسال وانغ إلى الهند، بالنظر إلى العلاقات بين البلدين في التاريخ الحديث؟
في هذا الصدد، أعرب أمريتبال كور، الباحث لدى مركز الدراسات السياسية التابع لجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، عن اعتقاده بأنه «يكمن جزء من الإجابة في موقف الهند من الأزمة الروسية ـ الأوكرانية. وربما تنظر الصين إلى دبلوماسية الهند المستقلة كموقف إيجابي منفتح على موقفها، خصوصاً أن الصينيين يواجهون انتقادات متزايدة بسبب دعمها لروسيا. وبالتالي، من المهم للغاية الحصول على دعم الهند على هذا الصعيد».
علاوة على ذلك، يكمل الباحث كور: «تستضيف الصين قمة «بريكس» هذا العام وسيترك قرار الهند سواء بالحضور أو التغيب، انطباعاً كبيراً على قيادة الرئيس الصيني شي جينبينغ، خصوصاً مع الأخذ في الاعتبار التغيير الوشيك الذي يحدث في القيادة مرة كل عقد في الصين، والذي يسعى الرئيس شي لتفاديه. ولكن المؤكد أن روسيا والصين ترغبان في الحفاظ على الترتيبات الدبلوماسية الثلاثية بين روسيا والصين والهند و«منتدى منظمة شنغهاي للتعاون» ومجموعة «البريكس».
ومن جانبه، أشار سي. راجا موهان، الخبير في الشأن الصيني، إلى أن «الولايات المتحدة واليابان وأستراليا تريد أن تشارك الهند بقوة في منتدى تحالف «كواد»، في تحاول بكين قلب هذه الديناميكية من خلال محاولة إقناع نيودلهي بالانضمام إلى معسكر مناهض للغرب. ولقد سلطت زيارة وانغ المفاجئة الضوء على محاولة جديدة لسحب الهند بعيداً عن الغرب وعلى «مناورة» من غير المحتمل أن تنجح، لكن هذا لن يمنع سعي الهند للاستمتاع بحرب العطاءات الدائرة حولها. وتابع موهان: «من روسيا، تحصل الهند على نفط وأسمدة وسلع أخرى مخفضة السعر، في ظل مساعي موسكو الحثيثة لاجتذاب مشترين جدد. ومن الصين، تتطلع الهند إلى تخفيف حدة المواجهة العسكرية الصينية ـ الهندية في إقليم جبال الهيمالايا».


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.