مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

قائد «القيادة الوسطى » يشدد على أهمية «الوفاء بالتزامات » واشنطن تجاه حلفائها

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»
TT

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

يكاد يكون قائد «القيادة الأميركية الوسطى» (سينتكوم)، أحد أبرز الشخصيات العسكرية الأميركية الممثلة والفاعلة والمؤثرة، في التعبير عن الموقف الأميركي في منطقة عمليات هذه القيادة. ولطالما حظيت «جولات» قائدها على دول المنطقة، بمتابعات دقيقة؛ لمعرفة اتجاهات بوصلة تلك القيادة، في أوقات السلم والحرب معاً.
وإذا كان الموقف الأميركي الرسمي، غالباً ما تعبر عنه وزارة الخارجية، سواء بشخص وزيرها أو ممثليه ومساعديه، أو من الموفدين الخاصين والشخصيين من البيت الأبيض، فإن خصوصية منطقة العمليات التي تغطيها «سينتكوم»، كانت تعطي قائدها موقعاً متقدماً في تقديم «ضمانات»، عن مدى التزام الولايات المتحدة بتعهداتها السياسية والأمنية في تلك المنطقة. غير أن التبدلات الاستراتيجية التي توالت على نظرة الولايات المتحدة إلى أولوياتها السياسية والتحديات التي تواجهها، في ظل صعود الصين كأكبر «منافس» استراتيجي لها، ألقت بشكوك عميقة على تلك الالتزامات. وأدت في السنوات الأخيرة إلى حصول تغييرات وتداعيات على دور القيادة المركزية وعملياتها في المنطقة، وأولويتها بالنسبة إلى العقيدتين العسكرية والسياسية لأميركا.

اليوم، مع تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، بدا أن «المناقشات العميقة» التي يجريها قادة البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)، ويعبّرون عنها بشكل علني، تشير إلى أن «إعادة» نظر جارية، لتقييم مدى صوابية الاستمرار في سياسة الابتعاد عن المناطق «الهامشية» وصلاحيتها، في الرد على التحديات التي عادت لتفرض نفسها بقوة. هذا ما عبر عنه الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، في شهادته قبل أيام أمام مجلس النواب، عندما حذّر من أن المرحلة المقبلة، قد تشهد «احتمال نشوب صراع دولي كبير بشكل متزايد».
ومع تولي الجنرال مايكل كوريلا مقاليد قيادة منطقة عمليات القيادة الوسطى، تطرح تساؤلات عمّا إذا كانت قيادته ستحدث فارقاً، وتحمل تغييراً في نظرة الولايات المتحدة إلى المنطقة؟ فالرجل جاء إلى مقر الاحتفال في تامبا بولاية فلوريدا، (مقر القيادة الوسطى)، آتياً مباشرة من مهمة الإشراف على نشر القوات الأميركية في أوروبا، بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
من نافل القول، أن الاستراتيجية الأميركية التي جرى تبنيها مبكراً، منذ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وحافظ عليها الرئيس دونالد ترمب، كانت تشير إلى أن القارة الأوروبية ومنطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، لم تعد أولوية. وبالتالي، تتحول الطاقات والموارد نحو مواجهة الصين في منطقة المحيطين الهادي والهندي. ورغم أن الرئيس الحالي جو بايدن، لا يزال حتى اللحظة، ملتزماً بتلك الاستراتيجية، فإن المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي، أعلن الجمعة الماضية أن «الأحداث الأخيرة في أوروبا، غيرت الكثير من الأمور، بما في ذلك كيفية تفكير الولايات المتحدة في وضع قوتها الحالي». وقال إن «التغيير في الوضع الأمني في أوروبا قد يعني وجود قوة أميركية في أوروبا مختلفة عما كان متصوراً في البداية قبل غزو روسيا لأوكرانيا». وأردف «البيئة الأمنية مختلفة الآن. وأعتقد أننا نعمل على افتراض أن أوروبا لن تكون كما هي «بعد الآن»... «لذلك؛ ربما لا ينبغي أن يكون لدينا النظرة نفسها إلى وضعنا في أوروبا».

- من هو مايكل كوريلا؟
في بطاقة تعريفه المنشورة على موقع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ومواقع إلكترونية أخرى، فإن اللواء مايكل «إريك» كوريلا، القائد الخامس عشر للقيادة الأميركية الوسطى، المولود عام 1966 في ولاية كاليفورنيا، نشأ في إلك ريفر بولاية مينيسوتا، وخدم في سلاح المشاة بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت عام 1988، وحصوله على درجة البكالوريوس في هندسة الطيران. وبعدها حصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة ريجيس، ودرجة الماجستير في دراسات الأمن القومي من الكلية الحربية الوطنية.
وخلال حياته المهنية، قاد كوريلا وحدات العمليات الخاصة المحمولة جواً، والميكانيكية، وقوات «سترايكر»، ووحدات العمليات الخاصة المشتركة في القتال وحفظ السلام وعمليات النشر التشغيلية. وشارك في الهجوم المظلي في بنما، وخدم في عملية «عاصفة الصحراء» في العراق، وعملية «استعادة الأمل» في هايتي، والعملية المشتركة في كوسوفو ومقدونيا، وعملية «العزم المشترك» في البوسنة والهرسك، وعملية «حرية العراق»، وعملية «الحرية الدائمة» في أفغانستان، وعملية «العزم المتأصل» في العراق أيضاً.
لقد أمضى كوريلا نحو عقد من الزمن من 2004 إلى 2014 في قيادة العمليات التقليدية والخاصة في العراق وأفغانستان، التابعة لمنطقة القيادة الوسطى. فعام 2005، عيّن في العراق قائداً لكتيبة «سترايكر» في فرقة المشاة الخامسة والعشرين. وحصل على «النجمة البرونزية» بعد معركة في مدينة الموصل، التي «أصيب فيها ثلاث مرات، لكنه واصل إطلاق النار على المتمردين أثناء توجيه قواته». وكان قائداً سابقاً للفوج 75 (راينجر).
ومن العام 2012 إلى 2014 كان مساعد القائد العام لقيادة العمليات الخاصة المشتركة. وشغل من العام 2016 حتى 2018، منصب القائد العام للفرقة 82 المحمولة جواً، التي نشرت الشهر الماضي في الجناح الشرقي لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو). ومن العام 2018 وحتى 2019 شغل منصب رئيس أركان القيادة الوسطى، ليتولى بعدها قيادة الفيلق 18 المحمول جواً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ومسؤولية الإشراف على نشر القوات الأميركية في ألمانيا، استجابة للأزمة الروسية – الأوكرانية نهاية عام 2021 وبداية 2022.
في احتفال تسليم وتسلم مقاليد القيادة الأميركية الوسطى الجديدة، بين كوريلا والقائد السابق الجنرال كينيث ماكينزي، في أول أبريل (نيسان) الحالي، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، إن «المنطقة التي تغطيها قيادة (سينتكوم)، هي المكان الذي نحمي فيه الممرات المائية لكي تتدفق التجارة العالمية». وأضاف «إنها المكان الذي نحارب فيه الإرهابيين الذين يهددون مواطنينا، والمكان الذي نعمل فيه مع شركائنا لمواجهة الاضطراب من إيران ووكلائها».
وتابع أوستن «إن القيادة الوسطى أمر أساسي لأمننا، وأساسية لاستعداداتنا ولتنفيذ مهمتنا». وشدد على أن «الشراكات التي تعقدها (سينتكوم) في المنطقة، بالغة الأهمية وتركز عليها»، في إشارة إلى العلاقات التي تربطها مع دولها، خصوصاً بعد ضم إسرائيل إليها.
هذا، وعُدّ كلامه عن إيران و«دورها المزعزع للاستقرار» مع وكلائها في المنطقة، مؤشراً على «تحفظات» العسكريين الأميركيين عن السياسات المتبعة معها، والصعوبات السياسية التي تواجهها إدارة الرئيس جو بايدن في «تسويق» العودة إلى اتفاق نووي مع إيران، في ظل استبعادها مناقشة كل من برنامجها الصاروخي الباليستي وسياساتها الإقليمية، وعلاقاتها المتوترة مع دول المنطقة المعترضة.
ولفت أيضاً كلام الجنرال كوريلا، القائد الجديد لـ«سينتكوم»، الذي قال إن «خصومنا يبحثون عن أي مؤشر على تذبذب التزام أميركا بالأمن الجماعي في المنطقة... أعداؤنا مستعدون للاستفادة من أي فرص تظهر، يجب ألّا نمنحهم أياً منها». وذلك في ترداد لكلام سلفه الجنرال ماكينزي عن ضرورة «إظهار التزاماتنا تجاه حلفائنا». وأردف كوريلا «إن القيادة الوسطى يجب أن تشارك في ضمان استمرار التجارة العالمية في المنطقة، ويجب أن تضمن أيضاً ألا تؤدي التهديدات هناك، إلى تطوير القدرة على إلحاق الضرر بالوطن الأميركي».
للعلم، توالت تصريحات مسؤولي «البنتاغون» خلال الأيام الماضية، التي تتحدث عن دور الولايات المتحدة في منطقة عمليات القيادة المركزية الوسطى، لتعلن نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، دانا سترول، أن إيران هي المصدر الرئيس للاضطراب في المنطقة، في حين لا يزال تنظيم «داعش» يشكل أيضاً تهديداً، على الرغم من عدم سيطرته على أراض في العراق وسوريا. وبينما لفتت إلى أن وزارة الدفاع «تدعم الجهود الدبلوماسية» لوزارة الخارجية لتهدئة النزاعات الجارية في المنطقة، أكدت أن منطقة الشرق الأوسط «تعد مسرحاً رئيسياً للتنافس» مع الصين.

- نظرة جديدة للمنطقة
في الآونة الأخيرة، بدأت بعض الأصوات تتحدث عن ضرورة تغيير النظرة إلى منطقة عمليات القيادة الوسطى، «التي ارتبطت تاريخياً بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة المبنية على خريطة ذهنية ضيقة، موروثة عن حقبة سنوات الحرب الباردة الأولى». ويقول تقرير لمجلة «فورين أفيرز»، إن واشنطن، بإداراتها ومؤسساتها السياسية وجامعاتها ومراكز فكرها، نظرت إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي، بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا، استناداً إلى الاستمرارية الجغرافية، والتفاهمات المنطقية للمنطقة، وتاريخ القرن العشرين. إلا أن هذه الخريطة أصبحت قديمة بشكل متزايد، حيث تعمل القوى الإقليمية الرائدة خارج الشرق الأوسط التقليدي، بالطريقة نفسها التي تعمل بها داخله. ثم إن العديد من المنافسات الأكثر أهمية فيها، تلعب الآن خارج تلك الحدود المفترضة.
ويضيف التقرير، أن «البنتاغون» لطالما عرفت هذا الأمر؛ وهو ما أدى إلى فصل القارة الأفريقية عن منطقة عمليات «سينتكوم» عام 2007، وإنشاء القيادة الأميركية في أفريقيا. ورغم ذلك، لا تزال المنطقة التي تغطيها القيادة الوسطى، تشمل أيضاً جيبوتي، وإريتريا، وإثيوبيا، وكينيا، وباكستان، والصومال، والسودان.
أيضاً يقول التقرير، إن هذا الاختلال الدراماتيكي في النظر إلى المنطقة، يشير إلى خطورة التمسك بنموذجها «القديم»، على صنع السياسات والمؤسسة العسكرية الأميركية. فهو ليس فقط خارج نطاق السياسة الحالية والممارسة العسكرية، بل إنه يعوق أيضاً محاولات مواجهة العديد من أكبر التحديات اليوم... من أزمات اللاجئين المتسلسلة إلى حركات التمرد الإسلامية، إلى الدور الذي تقوم به الدول الإقليمية الكبرى، كإيران وتركيا وحتى إسرائيل، التي باتت تساهم بشكل متنامٍ في إعادة تشكيل المنطقة.
ومع تحول إيران إلى واحدة من أكثر القوى الإقليمية خطورة على استقرارها، في ظل طموحاتها الإمبراطورية وتزايد علاقاتها مع الصين وروسيا، يتساءل البعض عمّا إذا كان لا يزال ممكناً احتواء خطرها من دون اعتماد سياسات تستلهم ما يجري تنفيذه في مواجهة طموحات روسيا «القيصرية»؟
وغني عن القول، أن في طليعة أهداف السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط إبان «الحرب الباردة»، كانت الحفاظ على الوصول إلى النفط في شبه الجزيرة العربية، وحماية إسرائيل وإبعاد النفوذ السوفياتي. ورغم الاضطرابات التي شهدتها المنطقة منذ الثورة الإيرانية، وأحداث «11 سبتمبر (أيلول)»، حافظت سياسة واشنطن لعقود عديدة على تدفق النفط وعلى الاستقرار، وعلى تعريفها القديم للمنطقة.
ولكن مع تراجع واشنطن عن الاهتمام بها، وتعميق الدول الخليجية الغنية لاستثماراتها وروابطها العميقة مع دول أخرى في الغرب، وتنامي روابطها مع آسيا، وتكثيف إيران نشر شبكاتها بالوكالة ونفوذها في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، وخوضها منافسة متزايدة مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وبناء شراكات مع دول في آسيا، وخاصة الصين... صار على واشنطن أن تتعامل مع بكين أيضاً. فالصين تفكر في الشرق الأوسط بشكل مختلف عنها. وهو ما ضاعف من فرص سوء التفاهم الخطير، ناهيك عن المبالغة في تقدير آثار «الانسحاب الأميركي».
أيضاً في تقييم للنتائج الأولى للحرب في أوكرانيا، قال مسؤول دفاعي الأسبوع الماضي، إن قادة «البنتاغون» باتوا «يشعرون بثقة جديدة في القوة الأميركية». وأردف «منذ عقد من الزمن، كان قادة البنتاغون يراقبون بقلق متزايد الحصار في أفغانستان، وصعود الصين كقوة عالمية وبرنامج التحديث العسكري الروسي الطموح، وتحديات القوى الإقليمية الأخرى»... «كان الإجماع في بكين وموسكو وحتى بين البعض في واشنطن أن حقبة (الهيمنة الأميركية العالمية) تقترب بسرعة من نهايتها». ولكن اليوم عادت الثقة بالقوة الأميركية، مدفوعة بالفاعلية المفاجئة للقوات الأوكرانية المدعومة من الولايات المتحدة، والخسائر الفادحة لروسيا في ساحة المعركة، والدروس التحذيرية التي يعتقد أن الصين «تأخذها في الاعتبار» من هذه الحرب. ونقل عن وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، تقييماً مشابهاً قائلاً إن كلاً من (الرئيسين الصيني والروسي) شي (جينبينغ) و(فلاديمير) بوتين وصفا الولايات المتحدة بأنها «في حالة انحدار»، ومشلولة سياسياً ومتشوقة للانسحاب من بقية العالم. قبل أن يضيف «إلا أن بعد الذي جرى في أوكرانيا على شي أن يتساءل عن جيشه في هذه المرحلة (...) مقاومة الأوكرانيين يجب أن تجعله يتساءل عمّا إذا كان قد قلل من أهمية عواقب هجوم عسكري على تايوان». وهو ما قد يكون مؤشراً على احتمال أن تخضع سياسات واشنطن في منطقة عمليات القيادة الوسطى لإعادة نظر هي الأخرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.