«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

تنتشر الجماعات المتطرفة في الأردن بشكل رئيسي في خمس مناطق ومدن أساسية

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن
TT

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

يبدو أن نجاح الأجهزة الأمنية الأردنية في القبض على خلية تنظيم داعش داخل مخيمات اللجوء السوري في الأردن، تثير الكثير من التساؤلات حول خطورة استثمار الجماعات المسلحة مخيمات اللجوء الإنساني لتحقيق عمليات اختراق وتجنيد للحواضن الشعبية المختلفة. وهذا ما يدفعنا لطرح السؤال التالي: هل تشكل «داعش» تهديدًا حقيقيًا للأردن في ظل التهديدات المتواصلة التي تطلقها له، ما حجمها وطبيعتها؟
لا شك أن العالم أصبح اليوم بأسره ساحة مفتوحة لانتقال مَن يحلو لهم أن يتسموا بـ«المجاهدين» عبر الحدود، بأفكارهم وأجسادهم وأفعالهم غير مكترثين بالحدود التي يصفونها بـ«صنيعة الاستعمار / سايكس بيكو». ولقد كسروها بالآيديولوجيا عبر مختلف الحواضن (الاجتماعية والفكرية والدينية والأمنية والعسكرية) مستخدمين العالم الافتراضي، ثم الواقعي، لنشرها واعتبارها ساحة مشروعة لأعمالهم العنيفة، حتى باتت آيديولوجيا «فقه الدماء» معولمة عبر انتشار مؤيديها وأنصارها وفروع الجماعات التي تؤمن بها وأفعالها في مختلف أنحاء العالم.
تعتبر الساحة الأردنية كغيرها من ساحات الدول، عرضة لتهديدات الجماعات المسلحة، إذ أحبطت الأجهزة الأمنية عددا كبيرًا من المحاولات الفاشلة في تنفيذ هجمات «إرهابية»، في حين نجح تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» في تنفيذ ثلاث هجمات في الماضي غير البعيد استهدفت فنادق مدنية، ذهب ضحيتها نحو 60 شخصًا وجرح العشرات.
إلا أن الساحة الأردنية خصوصية تختلف عن غيرها من الدول الأخرى، حيث ارتبطت الكثير من القيادات الفكرية والميدانية بها، وهذه القيادات حاضرة بقوة إلى يومنا في المشهد العسكري والأمني والسياسي في المنطقة.
وبالتالي، فإن المعركة الأمنية بين أجهزة الدولة والناشطين من الجماعات المسلحة في أوجها. والمقاربة تتخذ مسار الرصد والمتابعة والملاحقة الأمنية والقانونية، إذ نشهد كيف أن الاعتقالات مستمرة وترتفع وتيرتها مع تجدد التهديدات أو المحاولات الفاشلة في تنفيذ هجمات أو عمليات تجنيد واستقطاب، كما تشهد أروقة محكمة أمن الدولة عشرات القضايا المتعلقة بالتنظيمات «الإرهابية».
ونشير هنا، إلى أن الأردن شكّل بالفعل حاضنة للأفكار وصناعة القيادات المتطرّفة، ويعزا ذلك إلى عوامل جيو - سياسية واجتماعية ودينية وغير ذلك. فالأردن من الدول المجاورة للأراضي الفلسطينية المحتلة، ولديها ارتباط قانوني إداري بفلسطين منذ «مؤتمر أريحا» عام 1949م، واستمر لفترة طويلة امتدت حتى لمرحلة ما بعد الاحتلال الصهيوني، جرى فكه عام 1988م بقرار من الملك الراحل الحسين بن طلال، بناءً على طلب من الدول العربية، على اعتبار أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
فضلاً إلى ذلك، ثمة جملة من الأسباب المولّدة للعنف والإرهاب التي تزامنت مع الدولة القطرية والنظم الشمولية، في فترات طويلة وصفت بالاستبداد والقمع والتنكيل، واستئثار السلطة والثروة بأيدي شريحة صغيرة تتوارثها.
وفي حقبة الثّمانينات أسهم «الجهاد الأفغاني» ضدّ الاحتلال السوفياتي في إعطاء زخمٍ كبير للمدارس المتطرفة، التي شارك فيها عبد الله عزّام، أحد أهم أقطاب ومنظّري التطرف، وهو الأردني المتحدّر من أصلٍ فلسطيني، وعمل على تأسيس «مكتب الخدمات»، منذ وصوله الى أفغانستان عام 1984.
تمكَّن عزام من استقطاب عدد كبير من الراغبين في «الجهاد» من شتى أنحاء العالم الإسلامي ومنها الأردن حيث بلغ عدد الأردنيين نحو الألف، وشكلت هذه الأعداد نواة حركية التطرف المعاصرة في الأردن. ثم، عقب حرب الخليج الثانية جاء من الخليج عدد من أتباع التيارات المتشددة، وبالنتيجة شهد عقد التسعينات انطلاقة التطرف الحركي الأردني. وهنا لا بد من ذكر أنه سبق أن أسّس محمد سالم الرحّال في بداية الثمانينات تنظيم «الجهاد الإسلامي» في الأردن، الذي يعدّ امتدادا للتنظيم الذي أسس في مصر. إلا أن الأجهزة الأمنية أقدمت على اعتقال أعضائه وتفكيك التنظيم وحله عام 1984م، وكانت بداية انتشار كتب مثل «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، وغيره من أدبيات تنظيمي «الجهاد الإسلامي» و«الجماعة الإسلامية» في الأردن.
ويعتبر أبو محمد المقدسي، أحد أهم منظري التطرف الحركي في الأردن، بالاشتراك مع أبو قتادة الفلسطيني، إذ تبلورت على يديهما هذه المدرسة في الأردن بعدما كانت مشتتة من دون روابط آيديولوجية واضحة، وتنظيمية صريحة. ولقد شهد الأردن عشرات الخلايا المتطرفة في مطلع عقد التسعينات، وفي مقدمتها جماعة «جيش محمد» و«الأفغان الأردنيين»، إلا أن الولادة الحقيقيّة لهذا التيار كانت مع ما عرف بقضية «بيعة الإمام» عام 1994م، وكان من أبرز أعضائه «أبو محمد المقدسي» و«أبو مصعب الزرقاوي» اللذين التقيا في باكستان في أوائل التسعينات، واتفقا على بدء العمل في الأردن فور عودتهما. وهو ما تحقق من خلال الدروس وتوزيع الكتب والنشرات التي كان يكتبها المقدسي، والتي تدعو إلى إقامة «الدولة الإسلامية» وفق منهجٍ ثوريٍّ، يستند إلى تكفير النّظام، والتحضير لتغييره عن طريق العنف الثوري، وقد نجحت هذه الحركة في استقطاب عددٍ من الأعضاء وتجنيدهم في صفوف الحركة، فشهدت التسعينات انتشارًا واسعًا للتيار المتطرف في معظم المدن الأردنيّة، كعمّان والزرقاء والسّلط وإربد ومعان.
وعلى الرغم من العداء الظاهر والتنافر الواضح بين النظام السياسي الأردني الجماعات والتيارات المتطرفة الأردنية، استطاع الطرفان تبني علاقة على نحو ما في التعامل أحدهما مع الآخر. ومعلوم أن ما أسهم في انتشار التيارات المتطرفة ونموها مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت على جملة من التحولات الأساسية في طبيعة النظام السياسي الأردني، ففي نهاية الثمانينات (1989) دخل الأردن أزمة اقتصادية خانقة أسفرت عن تدني سعر صرف الدينار ورفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، الأمر الذي أدخل الأردن في برنامج التصحيح الاقتصادي الهيكلي، وإخضاعه المباشر لسياسات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وهو ما أفضى بالتالي، إلى إلحاق الاقتصاد السياسي في الأردن بالسوق الرأسمالية العالمية، وحلول عصر العولمة. وكان الأردن قبل هذه الأزمة يعيش حالة من الأحكام العرفية (الطوارئ) التي تتسم بمنع التعددية السياسية وغياب الحياة البرلمانية والديمقراطية.
وتزامن مع حرب الخليج الثانية عودة مئات الأردنيين الذين شاركوا في «الجهاد الأفغاني» لإخراج السوفيات من أفغانستان، وهو ما أطلق عليه ظاهرة «الأفغان العرب»، حيث ظهر في هذه الفترة عدد من الجماعات المتطرفة المسلحة، كـ«جيش محمد» و«الأفغان الأردنيين» وصولاً إلى حركة «بيعة الإمام» 1994، التي مثلت ذروة التطرف الحركي في الأردن، وضمت في صفوفها يومذاك أبو محمد المقدسي وكذلك أبو مصعب الزرقاوي.
خلال التسعينات حوّلت عشرات الجماعات المتطرفة إلى محكمة أمن الدولة، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، شكّلت تحولاً في مسار الحركة المتطرفة في البلاد تمثل بظهور تيارين أساسين: الأول، يسعى إلى الاندماج في تيار التطرّف العالمي ويعتبر الزرقاوي أبرز ممثليه، وكان يتبنى استراتيجية قتالية لا مجال فيها للتصالح مع النظام الأردني والنظم العالمية. والثاني، اتجاه يميل إلى انتهاج مسار سلمي في الدعوة، ولا يرى ضرورة الدخول في مواجهة مسلحة مع النظام في الوقت الحالي ويمثله أبو محمد المقدسي، على الرغم من اشتراك التيارين في مجمل الآيديولوجيا النظرية المتعلقة بالواقع الاجتماعي والسياسي، كتكفير الأنظمة بآيديولوجياتها المختلفة، سواء كانت ديمقراطية أو اشتراكية أو قومية.
وتنتشر الجماعات المتطرفة في الأردن بشكل رئيسي في خمس مناطق ومدن أساسية، هي: ضواحي العاصمة عمّان وبخاصة المناطق الشرقية، والمدن ذات الصفة الشعبية، مثل الزرقاء والرصيفة - التي سكنها الزرقاوي والمقدسي - والسلط ومعان وإربد، حيث كان ينتمي معظم الذين اعتقلوا على خلفية الانتماء لهذه الجماعات إلى هذه المناطق أو المدن.
ثم إن مثل هذه التيارات ظهرت في عمّان قديمًا، وبخاصة في المناطق الشعبية وبعض المخيمات الفلسطينية وبالذات، مخيم الوحدات ومخيم البقعة، حيث أبصر النور خلال فترة الثمانينات والتسعينات بعض التنظيمات المتطرفة وعلى رأسها ما عرف باسم تنظيم «جيش محمد»، الذي شكله أشخاص كانوا عادوا من المشاركة في القتال في أفغانستان، وقاموا بالتخطيط وتنفيذ عدة عمليات متفرقة استهدفت بعض دور السينما وأماكن بيع الخمور، واستهدفوا قساوسة وضابط مخابرات في منطقة بيادر وادي السير. وبرز من مدينتي عمّان المسؤول الشرعي في تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» عمر جمعة الذي اشتهر باسم «أبو أنس الشامي»، الذي قتل عام 2004م في غارة أميركية في العراق، كما اشتهر أيضا رئيس الهيئة الشرعية لدى تنظيم «جبهة النصرة لأهل الشام»، الدكتور سامي العريدي، الذي كان يسكن في عمّان الغربية، وبالتحديد في منطقة بيادر وادي السير.
أما عن مدينتي الزرقاء والرصيفة، من أبرز المدن التي ينشط فيها هذا الفكر المتطرف وانطلقت منهما جماعة «بيعة الإمام» التي أسسها المقدسي والزرقاوي. ويذكر أن الزرقاوي اسمه الحقيقي أحمد فضيل نزال الخلايلة واختار لقب «أبو مصعب الزرقاوي» كناية عن أن أصله من مدينة الزرقاء. ثم إن معظم الذين قتلوا في العراق كانوا يسكنون هاتين المدينتين، كما أن الذين قتلوا الدبلوماسي الأميركي كانوا يقطنون الرصيفة، ومحاولة «الخلية» التي خططت لاغتيال عدد من ضباط المخابرات منها أيضا.
وأما ما يتعلق بالشمال، وتحديدًا محافظة إربد وبعض القرى المحيطة بها، كان عدد من المنظّرين الثانويين يقطنونها. وعلى رأس هؤلاء عبد القادر شحادة الطحاوي، المعروف باسم «أبو محمد الطحاوي»، وكذلك الشيخ عمر مهدي زيدان، وأشقاؤه، وهو يتولى حاليًا مسؤولية هيئة المعاهد الشرعية في تنظيم داعش ومقره الموصل، وكان شقيقه محمود قد قتل في وزيرستان (بغرب باكستان) بواسطة الطائرات الأميركية، وكان عضو مجلس الهيئة الشرعية في جماعة طالبان باكستان، وله شقيق آخر اسمه إبراهيم مكث في سجن غوانتانامو ست سنوات على خلفية اعتقاله في أفغانستان بتهمة الانتماء لـ«القاعدة». أضف إلى هؤلاء محمد الزهيري، الذي يطلق عليه لقب «شاعر القاعدة» وهو يسكن في إربد.
أما عن العلاقة التي تربط المتطرفين في الأردن، الذين يصفون أنفسهم بـ«مجتمع الموحدين» من ناحية، والجماعات المتطرفة المسلحة في العراق وسوريا وفي مناطق أخرى من ناحية ثانية، لا تعدو في أغلب الأحوال أن تكون علاقة تلتقي في الأفكار ومنهجية العمل، ولا يوجد أي علاقة تنظيمية.
وبالنسبة لهذه المجموعات قد يصح أن توصف بأنها شبكة علاقات اجتماعية منتشرة في بعض المحافظات والمدن، وتصبح علاقة الفرد تنظيمية فور أن يقرر الالتحاق بالجماعات خارج الأردن، لأن من يتولى عملية التجنيد وتقديم الدعم اللوجيستي، لا بد وأن يحظى بعلاقة تنظيمية تنسق وترتب العملية، ونسبتهم لا تتجاوز الواحد في المائة من مجموعهم.
إن آيديولوجيا «فقه الدماء» أصبحت بالفعل عابرة للحدود دون قيود على حركتها وسط تنامي نشاطاتها عبر العالم الافتراضي في الشبكة العنكبوتية.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».