حيرة طبيب في يومه العالمي

حيرة طبيب في يومه العالمي
TT
20

حيرة طبيب في يومه العالمي

حيرة طبيب في يومه العالمي

طاف صديق لي العالم عدة مرات في رحلات عمل وسياحة وزواج متكرر، ولما عاد بعد سنين إلى العراق جاءني إلى محل عملي، غرفة من أربعة جدران لفحص المرضى. قال صديقي:
- أنتَ ما زلت في مكانك، وأنا لم يبق بلد في الكون يعتب علي!
وأراني جواز سفره، وكل أوراقه ملطخة بحبر تأشيرات الدخول. لكنها ليست بداية موفقة لكتابة مقال عن مهنة الطب. أليس كذلك؟ فلنجرب مدخلاً آخر:
الكتاب الجامع للعلوم الطبية هو «مبادئ هاريسون في الطب الباطني»، ومنه أقتبس لكم قصة طبيب يعمل في إحدى الولايات الأميركية، وقرر عمدة البلدة في ذلك اليوم منحه جائزة، وعمل حفلة تكريمية له، كما أن مجلس الأمناء اختار رفع اسمه على أحد الشوارع. انتهى الاحتفال في المساء، وقصد الطبيب مباشرة ردهة إنعاش المشفى الذي يعمل فيه، وكانت وفاة أحد الراقدين صدمة للطبيب لأنه لم يزره في ذلك اليوم، ويقوم بواجبه من مراجعة ومعاينة وفحص. جلس على السرير الفارغ، وحرر رقبته من ربطة العنق، وبدا عليه تأثر شديد. قال:
- كان ينبغي أن أكون بقربه، ولا أتركه يموت وحيداً!
هل وفقتُ في هذا المدخل للمقال؟ ها كم إذن باب جديد:
كتبتُ خمس مجاميع قصصية، في قصتين منها ذكرٌ للمهنة التي اتخذتها مصدراً للعيش. الأولى تحمل عنوان «امرأة»، وهي من النوع القصير جداً، وأنقلها لكم كاملة:
«الطبيب إسماعيل له رقبة ديك رومي، وعينان مظلمتان، يحمل حقيبته، يهرول إلى عيادته، يجفف عرقه وينظر إلى ساعته. لكن لا أحد في الانتظار، لا يراجعه أحد من المرضى طوال الشهر، تقريباً. كان حزيناً ومحبطاً، وفقيراً معدماً في الوقت نفسه. غابت الشمس خلف شبابيك العيادة. ثمة عنكبوت في الزاوية العليا للزجاجة، صاعداً هابطاً. نقرة من إصبع رشيق على الباب، ودخلت امرأة في خريف العمر ترتدي تنورة خضراء وبلوزة سوداء. كانت تعاني من ألم في الكتف. كيوبيد الصبي كان عند النافذة، رشق الاثنين بسهمه، وتقطرتْ من القلبين الدماء. المرأة ذات التنورة الخضراء أنقذت الدكتور البائس من قبره الأرضي، أخرجتْه إلى الحياة».
القصة الثانية طويلة، وتحكي عن حادثة جرت في بيت الصبي، راوي القصة:
«عمي سوادي ليس شقيق أبي، ولا يأتي لزيارتنا كثيراً. عندما رأيتُه هذه المرة كاد يغمى عليّ من هيبته. كان يرتدي حلة زرقاء طويلة تغطي رجله المقطوعة، وجاكيتة سوداء، وفوقها عباءة من الصوف رملية اللون». يعمل سوادي فلاحاً ضامناً للبستان الذي يملكه أبو الصبي. يقدم هذا الشاي إلى عمه، ويفهم من حديثه أنه كان يهون على أبيه تأثره بسبب الغَلة الشحيحة لهذه السنة:
«الحمد لله على كل حال. إن البشر يا أخي لا يقدرون ما وهبهم الله من نعمة العافية».
يقول العم، ولكن غضب الأب، ويظهر في القصة طبيباً ثرياً، لم يفتر. كان ساكتاً، ووجهه مقبض، متصلب، وكان توتراً مثل حد الموس في صمته. بُترت ساق الفلاح سوادي في الحرب، لكنه عاد إلى البستان يعمل بنفس الهمة والنشاط، ولكن فيضان النهر أغرق الأرض، وأمات الزرع.
«القانع في هذه الحياة الفانية يكون واثقاً من نفسه. نعم. يكون واثقاً كل الثقة»، يقول سوادي، وهنا يغضب الأب، ويزعق: «ما هذا الكلام المليء بالألغاز؟ لا تكلمني بهذه الطريقة من فضلك».
«على رسلك. أرجوك يا دكتور الأورام، لا ترفع صوتك علي، فأنا أديت واجبي بما يرضي الله ورسوله».
تزداد حدة الكلام، ويغادر الصبي الصالة إلى غرفته، لاجئاً إلى موسيقى جيوفاني، ويغدو كل شيء فيما حوله ساكناً إلا هذه الأنغام. كل نغمة تهبه من نفسها شارة عن نفسه، وتناجيه. ويشعر بحب عارم إلى عمه. «الوجه. الوجه. وجهه كان في أوج شاعريته، فيه نفس العاطفة التي تنقلها موسيقى العبقري جيوفاني». هل كان الصبي يمقت أباه؟ إنه لا يريد الاعتراف أمام نفسه بهذا الأمر. كانت أمه تطرق عليه باب غرفته لأن شجاراً عنيفاً كان يدور بين الأخوين. صاح الأب:
«أنت لص تافه. الجَلد وحده لا يكفي لعقابك».
ويصرخ به سوادي:
«أغلق فمك أيها الخنزير!».
ثم يقوم من مكانه، ويهوي بعكازه على رأس طبيب الأورام، ويظل يضربه إلى أن يفارق أخوه الحياة. حملت القصة اسم الموسيقار «جيوفاني».
اليوم هو اليوم العالمي للطبيب، وعليّ أن أتوجه إلى عملي. ولكي أدخل المشفى الصغير الذي أديره عليّ أن أختار باباً من بين الأبواب الثلاثة في المقال، فأيها أختار؟



حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة
TT
20

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر في المسلسل، ولأنه يشكل، أيضاً، صورة مصغرة لمقام سردي في رواية «غراميات شارع الأعشى». لا يشغل هذا الجزء سوى دقيقة وعدة ثوان من زمن سرد «عزيزة» (لمى الكناني) في الحلقة الأخيرة. وأعني «عزيزة» الصوت بلا جسد، التعليق الصوتي (voice-over)، الذي يأتي من خارج عالم الحكاية، ومن زمن غير زمن الأحداث فيها؛ وعلى نحو متقطع، يرافق المُشاهدَ من الدقائق الأولى إلى الدقائق، بل الثواني، الأخيرة من المسلسل، وليس «عزيزة» الشخصية، صاحبة «فيه شوط طق، فيه شوط مصري»، التي تعيش وتغني وترقص وتقلد سعاد حسني وتتصرف بتهور وتقع في الغرام بدون توقف في عالم الحكاية.

الصمت بعد «عرس الدم»

لو كنت عضواً في الفريق الذي يُشكِّل «المخرج الضمني» لـ«شارع الأعشى»، لجعلت الصمتَ يعقب فاجعة «عرس الدم»، مُنهياً به المسلسل، فلا يبقى في المشهد الأخير سوى صفحات دفتر مذكرات عزيزة والهواء يقلِّبها ويحركها، ثم تستقر مفتوحة وخالية من أي كتابة، في رمزية لنهاية مفتوحة، قد تطلق العنان لخيال المُشاهد ليكتب فيها النهاية التي يتخيلها، أو النهايات، فما إن يستقر على نهاية، حتى تظهر على شاشة خياله نهاية أخرى. سيكون المشاهد حينئذ في وضع يشبه إلى حد ما وضع قارئ رواية «غراميات شارع الأعشى» بنهايتها المفتوحة: «تمددت روحه (أبو فهد) في الغناء... صار وجه الجازي يظهر له من الضوء المنعكس في أعمدة الكهرباء المحاذية للشارع. يسوق سيّارته البويك على مهل... ويدخل من الشارع الملتوي متجهاً إلى بيته، وصوت الحب عالق في أذنه، ويبتسم وحده في السيارة، ويفكر في حبّة الخال السوداء ويغني وحده: (ماهقيت ان البراقع يفتنني)». وتنتهي الرواية بصوت محمد عبده. ويبقى ما يُحتمل حدوثه لـ«أبو فهد» والجازي مشرعاً للتخيلات والتآويل. أتساءل مبتسماً في هذه اللحظة، لماذا لم يختر «أبو فهد» أغنية أخرى يستمع إليها، أو لماذا لم تختر الروائية بدرية البشر أغنية مثل «أنا أشهد أن البدو حلوين حلوين/ وخفة الدم زودتهم حلاوة». وأضحك ضحكة صغيرة صامتة من الفكرة التي أخفقتُ في إبقائها خارج النص، مع الأغنية التي تعود تاريخياً إلى ما قبل زمن أحداث المسلسل بسنوات قليلة.

دفتر «عزيزة» يغري بإعادتها

أما في المسلسل، فيبدو أن الدفتر الملطخ بدم عواطف (آلاء سالم)، أوحى لـ«المخرج الضمني» فكرة إنهاء المسلسل بصوت «عزيزة» الساردة، حتى بعد أن تغادر «عزيزة» الشخصية في الداخل «شارع الأعشى»، وتغيبها ظلمة الطريق في رحلة الهروب.

اللافت أن «عزيزة» الساردة (voice-over narrator)، تبدو مختلفةً في الثواني الأخيرة. فلم تعد الذات/ الأنا الساردة التي تستمد مادة سردها وتعليقها من تجربتها، وتجارب من حولها، ومن الأحداث التي تشهدها وتتفاعل معها، كما يتجلى في الاقتباس التالي وفيه تصف، في بداية الحلقة الأولى، بدايات الأيام في حياة أسرتها: «كان يومنا يبدأ لما يُشغِّل أبوي الرادو... صوت إبريق الفواح يتداخل مع أصوات الأغاني اللي بينَّا وبينها بحور... من إذاعة لندن أصوات تملأ بيتنا وتفيض (على) شارع الأعشى».

يشعر المشاهد، و«عزيزة» تتكلم خلال الثواني الأخيرة، أنه يستمع إلى ساردة مختلفة، ساردة ذات معرفة تتجاوز الأحداث في ماضيها وماضي أسرتها، معرفة تحيط بما لم يحدث بعد، وبما يحتمل حدوثه في المستقبل، حين تعلق بنبرة تشي بتأكدها مما تقول: «بنات الأعشى باقين... حكاياتهم وأحلامهم هي اللي ما تموت... راجعين يعبون باقي صفحات دفتري... راجعين ومكملين مشوارنا... معكم». بالإضافة إلى تمدد حدود معرفة عزيزة لتبدو كساردة عليمة، يدرك المشاهد أنها، وخلال هذه الثواني بالذات، تملك وعياً ميتاقصياً، بأنها وبنات «شارع الأعشى» الأخريات شخصيات يعشن في حكاية، في عالم تخييلي، وأن حكايتهن لم تنته بعد، وأنهن عائدات في حكاية، وربما، حكايات أخرى، وتعي بذاتها ساردةً، وبأن هنالك متلقين ينصتون لما تقول، فتوجه كلامها إليهم: «راجعين ومكملين مشوارنا معكم... انتظرونا». لا أتذكر أنها خاطبت المشاهد مباشرة، وبهذه الطريقة من قبل، أو تلفظت بما يدل على وعي «ميتاقصي» بأنها والآخرين شخصيات خيالية في حكاية. في رأيي إن تلفظها الأخير فعل سردي نشاز، غير متسق نوعياً مع تعليقاتها السابقة. ربما يدل على ارتباك المخرج الضمني من ناحية، وعلى حرصه على إنهاء المسلسل بإعلان «برومو» لموسم ثانٍ من ناحية أخرى.

إلهام علي
إلهام علي

في انتظار بنات «شارع الأعشى»

سينتظر المشاهدون عودة بنات «شارع الأعشى»، ولكن هل تعود «عزيزة» الساردة، باختلافها الأخير، الذي اخترقت به أحد أعراف السرد الواقعي بإطلالتها الصوتية بإعلانٍ عن موسم ثان، يفترض ألا يعلم أحد به سوى المخرج الضمني؟ وهل تعود أيضاً بوعي ميتاقصي؟ أم أن تلك اللمحة «الميتاقصية» العابرة حدثت بدون قصد ووعي من المخرج الضمني؟

بالرغم من عنصر المفاجأة فيه، إن تحول «عزيزة» الساردة، ولو لثوانٍ في النهاية، أمر يمكن تَقَبُله إذا ما قورن بظهور الإرهابي المنشق جزّاع/منصور (نايف البحر) ومجيئه إلى «شارع الأعشى» للبحث عن أمه. ظهوره في واقع الحكاية يحدث بطريقة تشبه تطعيم شجرة بغصن من شجرة أخرى ولكن بأيدٍ غير ماهرة ومرتبكة؛ وإدخاله في عالم الحكاية متكلف وتنقصه السلاسة، وإيواؤه في بيت «أبو إبراهيم» (خالد صقر) تحت ذريعة وفاء «أم متعب» (إلهام علي) لأمه (ريم الحبيب)، واستمراراً للعب «أبو إبراهيم» دور «السنيد» (sidekick) لـ«أم متعب»، كلها أمور تتحدى قدرة المشاهد على تعطيل عدم التصديق. بدخول جزّاع فضاء وزمان الحدث ليكون حبيباً آخر لعزيزة تحقق معه حلمها في الهروب، يبدأ الترهل بالنفاذ إلى بنية المسلسل السردية والبطء إلى إيقاع حركة الأحداث إلى حد إثارة الملل في المشاهد.

تحولات صوت «عزيزة»

يشكل تحول «عزيزة» غير المسبوق إلى ساردة عليمة نقطة التقاء وتشابه بين المسلسل ورواية بدرية البشر. يُذَكر بتحول «عزيزة» الساردة بضمير المتكلم في الرواية إلى ساردة عليمة في فصول خمسة في الرواية (22، 13، 11،10 ،7). (ناقشت الموضوع في مقالة عن التقنية السردية في «غراميات شارع الأعشى»، نُشِرَت في صحيفة اليوم في 2016-05-07).

تراوح «عزيزة» في الفصول الخمسة بين سرد الشخصية (character narration) بضمير المتكلم بمحدودية المعرفة المرتبطة به تقليدياً في السرد الواقعي، والسرد العليم بضمير الغائب. فتروي في الفصل السابع، على سبيل المثال، حواراً قصيراً يدور بين الجازي ومزنة في بيت «أم متعب»، بينما هي فوق سطح بيتهم، وتنقل حواراً، لم تشهده، بين وضحى ومزنة في سوق الحريم، وكأنما تفتح في رأس ضاري كوة كالكوى الصغيرة في جدار سطح بيتهم تطل خلالها على أفكاره حين تروي: «بينما لا يجد في منزله سوى امرأة لا يلمس منها إلا حنانها، لأن قوتها الخفية تتحرك فقط في رأسها ولسانها. لا يعرف إلا هذه المرأة التي عملت طويلاً من أجلهم، فيرهقه شعوره بأنه عاجز عن تولي الأمر عنها» (الفصل 7، ص 66). ليس في هذا الفصل الذي يبدأ بصوتها «خرج والدي بعد صلاة العصر وركب سيارته، وقبل أن يدير محركها اكتشف أن مكان الراديو فارغ»، ما يدل على أن «عزيزة» تتوقف عن السرد، لتكمل الساردة العليمة المهمة. ويتكرر هذا المقام السردي في الفصول الأربعة الأخرى.

يرى عالم السرد البلاغي جيمس فيلان أن «سرد الشخصية أرض إنتاج خصبة للسرد المضاد للمحاكاة، غير الطبيعي، خصوصاً لاندلاعات المضاد للمحاكاة (antimimetic) المتفرقة داخل السرد الذي يكون المحاكي (mimetic) شفرته المهيمنة» (بويطقيا السرد غير الطبيعي، 197). يمكن القول إن اندلاعات المضاد للمحاكاة في أداء «عزيزة» بانتقالها من سرد الشخصية إلى السرد العليم هي «إفاضات/ paralepses» بلغة جيرار جينيت، أي سرود معلومات وأحداث تتجاوز محدودية معرفتها، ونقل ووصف ما لا يمكن لها إدراكه مثل أفكار ومشاعر ضاري، ليكون الناتج تمثيلاً سردياً مضاداً للمحاكاة (antimimetic narrative representation)، حسب تنظير علماء السرد غير الطبيعي مثل برايان ريتشاردسون وألبر جان. في رواية البشر، يتجاور المحاكي مع المضاد للمحاكاة، حيث يبدو الأخير تعبيراً عن تمرد على مواضعات السرد الواقعي.

هذه الكتابة حصيلة جولة ممتعة في «شارع الأعشى» في الرواية والمسلسل، وكأي كتابة لم تتسع لكل ما يراد كتابته، ما يعني أنها وكأي كتابة، أيضاً، تخلق الحاجة إلى كتابة أخرى تكملها. ربما تكون الكتابة الأخرى عن موسم ثان من مسلسل «شارع الأعشى»!

* ناقد وكاتب سعودي