طاف صديق لي العالم عدة مرات في رحلات عمل وسياحة وزواج متكرر، ولما عاد بعد سنين إلى العراق جاءني إلى محل عملي، غرفة من أربعة جدران لفحص المرضى. قال صديقي:
- أنتَ ما زلت في مكانك، وأنا لم يبق بلد في الكون يعتب علي!
وأراني جواز سفره، وكل أوراقه ملطخة بحبر تأشيرات الدخول. لكنها ليست بداية موفقة لكتابة مقال عن مهنة الطب. أليس كذلك؟ فلنجرب مدخلاً آخر:
الكتاب الجامع للعلوم الطبية هو «مبادئ هاريسون في الطب الباطني»، ومنه أقتبس لكم قصة طبيب يعمل في إحدى الولايات الأميركية، وقرر عمدة البلدة في ذلك اليوم منحه جائزة، وعمل حفلة تكريمية له، كما أن مجلس الأمناء اختار رفع اسمه على أحد الشوارع. انتهى الاحتفال في المساء، وقصد الطبيب مباشرة ردهة إنعاش المشفى الذي يعمل فيه، وكانت وفاة أحد الراقدين صدمة للطبيب لأنه لم يزره في ذلك اليوم، ويقوم بواجبه من مراجعة ومعاينة وفحص. جلس على السرير الفارغ، وحرر رقبته من ربطة العنق، وبدا عليه تأثر شديد. قال:
- كان ينبغي أن أكون بقربه، ولا أتركه يموت وحيداً!
هل وفقتُ في هذا المدخل للمقال؟ ها كم إذن باب جديد:
كتبتُ خمس مجاميع قصصية، في قصتين منها ذكرٌ للمهنة التي اتخذتها مصدراً للعيش. الأولى تحمل عنوان «امرأة»، وهي من النوع القصير جداً، وأنقلها لكم كاملة:
«الطبيب إسماعيل له رقبة ديك رومي، وعينان مظلمتان، يحمل حقيبته، يهرول إلى عيادته، يجفف عرقه وينظر إلى ساعته. لكن لا أحد في الانتظار، لا يراجعه أحد من المرضى طوال الشهر، تقريباً. كان حزيناً ومحبطاً، وفقيراً معدماً في الوقت نفسه. غابت الشمس خلف شبابيك العيادة. ثمة عنكبوت في الزاوية العليا للزجاجة، صاعداً هابطاً. نقرة من إصبع رشيق على الباب، ودخلت امرأة في خريف العمر ترتدي تنورة خضراء وبلوزة سوداء. كانت تعاني من ألم في الكتف. كيوبيد الصبي كان عند النافذة، رشق الاثنين بسهمه، وتقطرتْ من القلبين الدماء. المرأة ذات التنورة الخضراء أنقذت الدكتور البائس من قبره الأرضي، أخرجتْه إلى الحياة».
القصة الثانية طويلة، وتحكي عن حادثة جرت في بيت الصبي، راوي القصة:
«عمي سوادي ليس شقيق أبي، ولا يأتي لزيارتنا كثيراً. عندما رأيتُه هذه المرة كاد يغمى عليّ من هيبته. كان يرتدي حلة زرقاء طويلة تغطي رجله المقطوعة، وجاكيتة سوداء، وفوقها عباءة من الصوف رملية اللون». يعمل سوادي فلاحاً ضامناً للبستان الذي يملكه أبو الصبي. يقدم هذا الشاي إلى عمه، ويفهم من حديثه أنه كان يهون على أبيه تأثره بسبب الغَلة الشحيحة لهذه السنة:
«الحمد لله على كل حال. إن البشر يا أخي لا يقدرون ما وهبهم الله من نعمة العافية».
يقول العم، ولكن غضب الأب، ويظهر في القصة طبيباً ثرياً، لم يفتر. كان ساكتاً، ووجهه مقبض، متصلب، وكان توتراً مثل حد الموس في صمته. بُترت ساق الفلاح سوادي في الحرب، لكنه عاد إلى البستان يعمل بنفس الهمة والنشاط، ولكن فيضان النهر أغرق الأرض، وأمات الزرع.
«القانع في هذه الحياة الفانية يكون واثقاً من نفسه. نعم. يكون واثقاً كل الثقة»، يقول سوادي، وهنا يغضب الأب، ويزعق: «ما هذا الكلام المليء بالألغاز؟ لا تكلمني بهذه الطريقة من فضلك».
«على رسلك. أرجوك يا دكتور الأورام، لا ترفع صوتك علي، فأنا أديت واجبي بما يرضي الله ورسوله».
تزداد حدة الكلام، ويغادر الصبي الصالة إلى غرفته، لاجئاً إلى موسيقى جيوفاني، ويغدو كل شيء فيما حوله ساكناً إلا هذه الأنغام. كل نغمة تهبه من نفسها شارة عن نفسه، وتناجيه. ويشعر بحب عارم إلى عمه. «الوجه. الوجه. وجهه كان في أوج شاعريته، فيه نفس العاطفة التي تنقلها موسيقى العبقري جيوفاني». هل كان الصبي يمقت أباه؟ إنه لا يريد الاعتراف أمام نفسه بهذا الأمر. كانت أمه تطرق عليه باب غرفته لأن شجاراً عنيفاً كان يدور بين الأخوين. صاح الأب:
«أنت لص تافه. الجَلد وحده لا يكفي لعقابك».
ويصرخ به سوادي:
«أغلق فمك أيها الخنزير!».
ثم يقوم من مكانه، ويهوي بعكازه على رأس طبيب الأورام، ويظل يضربه إلى أن يفارق أخوه الحياة. حملت القصة اسم الموسيقار «جيوفاني».
اليوم هو اليوم العالمي للطبيب، وعليّ أن أتوجه إلى عملي. ولكي أدخل المشفى الصغير الذي أديره عليّ أن أختار باباً من بين الأبواب الثلاثة في المقال، فأيها أختار؟
حيرة طبيب في يومه العالمي
حيرة طبيب في يومه العالمي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة