«الذكورية» ما زالت سيدة الموقف في عالم النشر الغربي

ماري-آن سيغهارت
ماري-آن سيغهارت
TT

«الذكورية» ما زالت سيدة الموقف في عالم النشر الغربي

ماري-آن سيغهارت
ماري-آن سيغهارت

على هامش ترَقُّب إعلان القائمة القصيرة للنسخة الخمسين من جائزة «ولفونسون» البريطانيّة المرموقة التي تكرّم سنوياً أفضل الكتب المتخصصة في التاريخ، الصادرة حديثاً باللغة الإنجليزيّة، تلقت الجائزة مديحاً نادراً من الصحافة؛ ليس لدورها لناحية دعم النّشر في هذا المجال فحسب؛ بل أيضاً لمساهمتها البارزة في التعريف بأعمال مؤرخات نساء كثيرات مع زملائهن المؤرخين، وهي مسألة لطالما أثارت جدلاً واسعاً في المملكة المتحدة، بشأن النسب المتدنية لتمثيل الكاتبات في فضاء الجوائز الأدبيّة المتعددة التي تمنح في هذه البلاد، لا سيما بعدما أطلقت روائيات نساء جائزة سنوية للكتابة الأدبيّة، تخصص حصراً لروايات خطّت بأقلام نسويّة، احتجاجاً على قائمة قصيرة ذكوريّة محض لجائزة «بوكر» عام 1991.
لكنّ «ولفونسون» –الجائزة النخبويّة الطّابع– بمقاربتها الجندريّة المُتوازنة لن يمكنها بمفردها ردم الفجوة الشعبيّة الواسعة في استهلاك الكُتب التاريخيّة كما تُلحظ في الغرب؛ حيث تتفوق أرقام مبيعات كتب المؤرخين الذكور بشكل كاسح على كتب زميلاتهم المؤرخات. فمن المائة الأكثر مبيعاً العام الماضي كانت النسبة 81 إلى 19 في المائة، وهي ذاتها تقريباً منذ عدّة سنوات، في استمراريّة عنيدة تثير الاستغراب والتساؤلات عن سرّ هذه النّظرة المنحازة جندرياً بتطرّف في الغرب؛ لا سيما أوساط نخبه المثقفة التي تتعاطى القراءة والكتب. وكانت خمسة كتب تاريخيّة قد نجحت عام 2018 في الوصول إلى قائمة الكتب البريطانيّة الخمسين الأكثر مبيعاً، جميعها كانت لمؤرخين ذكور، بينما حصل كتاب يتيم عن المرأة والنفوذ (من تأليف ماري بيرد) على المرتبة الـ85 في تلك القائمة.
ولا يُعتقد بأن إجراء دراسة علميّة دقيقة لهذا الانحياز سيكشف عن جديد يخالف استنتاجات الناشرين حول التيار الغالب على اتجاهات اقتناء الكتب التاريخيّة، فالأمر محسوم بالنسبة إليهم: كتب المؤرخين تبيع أكثر من كتب المؤرخات.
وللمفارقة، فإن هذه الصورة المثيرة للتشاؤم ليست مقتصرة على مجال علم التاريخ حصراً، أو على المجتمع البريطاني دون غيره من العالم الأنغلوفونيّ. ففي الولايات المتحدة وجدت عالمة الاجتماع دانا بيث واينبرغ، وزميلها عالم الرياضيات آدم كابلنر، وكلاهما من كلية «كوينز» في جامعة «كوني»، في دراسة رائدة لأكثر من مليوني كتاب نشرت في أميركا الشماليّة بين عامي 2002 و2012، أن كتب المؤلفات النساء تباع بأسعار أقل بنسبة 45 في المائة من نظرائهن الذكور. ولا شكّ في أنّ تجذّر هذا الانحياز ينسحب في تأثيره -بشكل أو بآخر- على أجزاء أخرى من العالم بحكم الانتشار المعولم لاستعمال اللغة الإنجليزيّة في الثقافة والأكاديميا والنشر. فهل النساء عموماً أقل قدرة على التفكير والبحث من الرجال؟ أم أن الأمر مرتبط بصنعة الكتابة تحديداً؛ بوصفها تحتاج لموهبة لا تتوفر لهنّ؟ بالطبع فإن الإجابات العلميّة على مثل هذه التساؤلات حاسمة في وضوحها؛ إذ لا يوجد ما يبرر أي أساس لتفوّق جندر على آخر في القدرة على التفكير، أو الكتابة، وأن المسألة لا تعدو كونها معضلة ثقافيّة مجتمعيّة متوارثة جيلاً عن جيل، وذلك على الرغم من كل المظاهر الشكليّة البرّاقة بشأن تحرر المرأة في الغرب، وتحسّن مكانتها مجتمعيّاً.

في عالم النشر، يتكشّف هذا التمييز الجندري من خلال عدّة أبعاد تتقاطع بين الناشرين والقراء أنفسهم؛ إذ يتم نشر كتب للمؤلفات الإناث بوتيرة أقل في معظم مجالات المعرفة، بينما تحظى الموضوعات التي يُرى أنها تقليدياً موجهة نحو المرأة -الروايات الرومانسية مثلاً- بتقدير أقل من قبل صناعة النشر كلها، وتكاد لا يعترف بها كأدب.
وغير الاختلافات في أسعار الكتب التي تنتجها المجموعتان ضمن النوع المعرفي نفسه، فإن الناشرين يدفعون معدّلاً للمؤلفات النساء الشهيرات بنسبة أقل بما يقارب 10 في المائة؛ مقارنة بما يدفعونه لزملائهن المؤلفين؛ وفق أرقام دراسة واينبرغ وكابلنر.
على أنّ هذا التمييز شبه المقنن في تفاهمات غير مكتوبة بين الناشرين، متجذّر أساساً في سلوك المستهلكين، كما يستشف من قراءة ظاهرة النشر المستقل عبر المتاجر الإلكترونية –كـ«أمازون» وأخواتها- إذ بعد استبعاد تحيّز الناشرين، ورغم تقلّص الفروق الجندريّة في الأسعار التي يضعها المؤلفون بأنفسهم، فإن القراء الذّكور ما زالوا على سلوكهم المعهود في تفضيل كتب وضعها الرجال وبشكل جليّ، عن كتب خطتها نساء، كما غلبة الشخصيات الذكوريّة على تلك النسائيّة فيما يشترونه من أدب أو سير ذاتيّة. وتكشف ماري-آن سيغهارت في كتابها «فجوة السلطة: لماذا تؤخذ النساء على محمل الجد أقل من الرّجال، وما يمكننا القيام به حيال ذلك– 2021» أن القراء الرّجال –وفق عدّة دراسات أكاديميّة في بريطانيا وهولندا وغيرهما- منحازون بشدة لأقرانهم؛ بحيث إن فرصة قراءة عمل كاتب تبلغ لديهم أربعة أضعاف فرصة القراءة لكاتبة، بينما تساوت القارئات النساء في إقبالهن على الكتب بين نتاجات الجنسين، دون انحياز جندري ظاهر. وتبني سيغهارت على هذه الظاهرة بين ظواهر مماثلة في المجتمعات الغربيّة، استنتاج كتابها الكلي بأن الإناث في الغرب لا يحصلن على ثقة مماثلة لتلك التي يحصل عليها الذكور، حتى في حال تساوي كفاءة الطرفين، ولا سيما أوساط مجتمع الذكور تحديداً الذي لا تكاد ثقته في المنجز الفكري النسوي تختلف عن ثقة الجمهور في العصر الفكتوري بمثل هكذا منجز.
ومما يفهم من «فجوة السلطة» الذي يضم مقابلات مع خمسين امرأة في مجموعة واسعة من المناصب العليا في الإدارة والسياسة -بما في ذلك هيلاري كلينتون نفسها– أن النساء في الغرب بمن فيهن أولئك اللواتي يتولين مناصب قياديّة نخبويّة، يعانين بشكل عام من تعرضهن لتمييز جندري يكاد يكون ظاهراً في مكان العمل، ينعكس بتمثلات متعددة، تبدأ بالتحرّش الجنسي الفادح، ولا تنتهي بانعدام الثقة في أدائهن، وإن تفوقن على زملائهن الذكور.
وبالطبع لا تنسحب هذه الخطايا الذكورية على جميع الرجال؛ لكن تكررها بأشكال متفاوتة في المواقع المختلفة يفقد بعض النساء الشعور بالأمان، وقد يكون تأثيرها التراكمي على سيكولوجيتهن هائلاً على المدى الطويل.
وبينما تتلعثم سيغهارت في تفسيرها لهذه المعضلة الثقافيّة العميقة التي تمسك بخناق الغرب إلى اليوم، ولا تستثني فضاءات المثقفين أو المواقع النخبوية من قبضتها، فإن آخرين يضعونها في سياقات تاريخيّة متفاوتة الامتداد من الانقلاب الذكوري الأوّل على السلطات الأموميّة الأولى في العصور السحيقة، إلى التأسيس اليهودي– المسيحي لثقافة الغرب المعاصر، وانتهاء بترافق تطور الرأسماليّة المتأخرة، مع تسليع النساء وتشييئهن وتغريبهن.
على أن ما قد يعنينا اليوم هو النّظر بصفة عقلانيّة لكميّة الهدر المعرفي التي ترافق سلوك التمييز الجندري؛ سواء في إطاره المجتمعي العام، أو أقلّه في نطاق جمهور القراءة واقتناء الكتب. وإذا كان الخبراء يحذرون هذا الجمهور الأخير من مغبّة التورّط في الانحياز المعرفي، وإغلاق النوافذ من خلال فارط الثقة بأعمال كاتب معيّن بشكل كلي، دون التعامل مع نصوصه مفردة بصفة نقديّة، واستطلاع نصوص آخرين حول القضيّة المعرفيّة نفسها، فلك أن تتخيّل كميّة الظلام التي يضع القراء أنفسهم طواعيّة فيها، عندما يستسلمون لنوازع بدائيّة سابقة على الحضارة، تصيبهم بعمى جندري يمنعهم من الاطلاع على نصوص قد تحمل إضافة نوعيّة لمجرد اختلاف جنس كاتبها.
وفقط عندما يبدأ الأفراد في كسر هذه الحلقة الجهنميّة بالتصويت من خلال تغيير نمط شرائهم للكتب، سيبدأ الناشرون في تعديل منهجهم التمييزي، والخروج من تفاهماتهم غير المكتوبة.



الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً

الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً
TT

الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً

الذكاء الاصطناعي بطلاً روائياً

تدور أحداث رواية «فضاء البنفسج» للكاتب المصري عبد الرحمن عاطف، داخل منعطفات زمن «ديستوبي» يتشارك الحياة فيه «هجين» من بقايا بشر ناجين من كارثة نووية، مع كائنات ذكية اصطناعياً، وكائنات «سايبرغ» cyborg مُحسنة ميكانيكياً، وهي تتشارك معاً في مصير كارثي جديد يقودهم خارج كوكب الأرض بحثاً عن فضاء مكاني بديل بعد شيوع اقتراب كارثة كونية جديدة. وعلى مدار السرد تتقاطع مسارات شخصيات ثلاث رئيسية في مواجهة هذا المصير المجهول المشترك.

تفكيك الإنسان

صدرت الرواية حديثاً عن دار «العين» للنشر بالقاهرة، وتقع في 244 صفحة. واللافت أن المؤلف يستثمر «شطحات» التقدم العلمي في علوم الطب الحيوي، والميكانيكا، والهندسة الجينية، والمعلوماتية، في بناء عالمه المستقبلي، الذي يسعى فيه لتأمل وجه البشرية المُشوش والمطموس وسط تلك الخريطة الآلية المعقدة، حيث يبدو الإنسان قابلاً للتفكيك، وكأنه محض قطع غِيار آلية، فتتم رقمنة وعيه، وتطويعه بطريقة بيولوجية ليسهل تجميده وحفظه لسنوات في مرحلة معملية تسمى بمرحلة «السُبات».

كما يُعاد تجهيزه لحياة جديدة بعد تبديل شرائح ذاكرته، حيث تبدو الذاكرة الذاتية للإنسان بما تحمله من مشاعر عديمة القيمة، يتم التخلص منها وزرعها في أجساد أخرى بشكل وظيفي، في مفارقات روائية عبثية تجعل الإنسان طوع الآلة وتطبيقاتها، وليس العكس.

وبالتوازي مع إظهار البشر كمحض فئران تجارب تفر من تبعات كارثة نووية إلى أخرى كونية بعد تردد اقتراب كارثة «انطفاء الشمس»، يضئ السرد حالات الاغتراب الجمعي التي تُخيم على أجواء الرواية. فالبشر يتواصلون عبر تقنيات ودوائر كهربائية، وتظهر مفارقات عبثية بين التطرف العلمي والرقمية الباذخة، وبين سيادة أوضاع تُحاكي العصور الوسطى في ظُلمتها، وكأن حضارة العالم تعود لبدائيتها، فتتم استعارة «هيراركية» قوانين الغابة، حيث يتم تقسيم المواطنين إلى طبقات متدرجة وفقاً لنظام هرمي يتم تقسيمه جينياً، فيجد بطل الرواية نفسه مُصنفاً بسبب جيناته ضمن الطبقة الأدنى، وهي طبقة «غاما»، ومحكوماً بقوانين تلك الطبقة الدنيا. ويتم توظيفه واستغلاله كترس في آلة ضخمة في سبيل قضايا لم يخترها ولا يفهمها دون مجال للتعاطف مع فردانيته، لتبدو قيم الجدارة، والأحلام، والتنافسية، والعدالة مُشوشة في ميزان هذا المجتمع الديستوبي، الذي فاقم من حصار الإنسان، وسط بطالة، وعوز، ورقابة تحاصره في الشارع والعمل، برصد كل قول وفعل لتقييم مدى استحقاقه لأن يكون «مواطناً صالحاً»، ليصبح تقييم الإنسان رهن تقييم الذكاء الاصطناعي له الذي يمنحه نقاطاً لصالحه ويخصم من رصيده إذا لزم الأمر، فالكل خاضع للتحليل تحت رحمة إحصاءات ونقاط رقمية.

محض أرقام

ويختار المؤلف تقنية تعدد الأصوات للاقتراب من واقع الاغتراب عن الذات والمكان، حيث يبدو «كل فرد محض رقم»، فيما تعكس شبكة العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع طبيعته المفتتة والفانتازية، فنرى فيه أبطال الرواية البشريين في تآلف كامل مع آلات الذكاء الاصطناعي؛ يتحدثون ويتجادلون، ويألفون القطط والكلاب الآلية في الشوارع، في زمن تلاشت فيه ملامح الحياة الطبيعية، حتى في أزهد صورها؛ حيث يتناول الناس الطعام في صورة «كبسولات». أما بطل الرواية المُصاب برُهاب اجتماعي، والواعي بأنه سليل البشرية التي انهارت بسبب كارثة نووية، فيبدو مستسلماً لحديثه المُتصل مع مُجسم لسيدة افتراضية بتقنية اصطناعية، تُبادله الحديث و«التعاطف» حيال صدمته بقرار تسريحه من العمل المفاجئ. وفي أحد مشاهد الرواية تدعوه للرقص معها فيستجيب: «مددت يدي وتظاهرت أنني ممسك بيد بشرية، رغم أنني كنت في الحقيقة قابضاً على امتداد بصري وهواء»، فيما تتناقش بطلة أخرى مُغرمة بتاريخ الفن مع مساعدتها الإلكترونية «أوليمبيا 9»، التي تفشل خوارزمياتها المتقدمة في تحليل لوحات «سلفادور دالي»، فيما يبدو «دالي» و«سيرياليته» ومضة من تاريخ بعيد لم يعد له أثر.

شرائح بدل العقول

يبدو هوس التحكم الرقمي من خلال تجريب «حكومة العالم» للبحث عن سبل للنجاة، التي باتت هاجساً كابوسياً بعد الكارثة النووية، فيجد أبطال الرواية أنفسهم منقادين لخوض رحلة خارج نطاق كوكب الأرض إلى آخر مجهول مع ترقب وقوع كارثة أخرى مع اقتراب «انطفاء الشمس»، وفرص وجود كائنات في هذا الكوكب الجديد، ورسم خريطة بديلة لفرصة الحياة في مكان مادي واقعي، في وقت تبدو فيه الرقمية قد ضاعفت من تعقيد علاقة الإنسان بالمكان، بعد أن مكنته عبر «الوهم» من كل شيء كما يصف بطل الرواية: «بنيت قصوراً وقلاعاً بها كل شيء أرغب فيه، صممت ألعاباً افتراضية، وتخيلت نفسي بداخل بعضها، لعبت وكنت أزيد من صعوبة المستويات حتى أجرب محاولات أخرى وأنجح فيها، حلقت في الهواء وتنفست تحت الماء، ولعبت الغولف على سطح القمر، جربت كل شيء حتى مللت، سألت نفسي ما الهدف من كل ذلك؟».

وهكذا، تضعنا الرواية أمام تلك المعضلة التي استحالت معها أجساد البشر لأطياف «هولوغرام»، وعقولهم لشرائح ذكية، وخيالهم لساحات افتراضية، وكأنها تضاعف الاشتياق لعالم بشري مألوف، وأجسام عادية غير خارقة، ربما لاستعادة مشاعر حقيقية لم يعد لها أثر، أو ربما حدثت في أضغاث حياة سابقة.