تتأثر وأنت تستمع إلى نضال الأشقر تؤدي أغنية «حلوة يا بلدي» في نهاية الفيلم الوثائقي القصير «مدينتان»، لنجلها المخرج السينمائي عمر نعيم. فأسلوبها في الغناء لا يشبه صاحبة الأغنية الراحلة داليدا، إلّا أنّ البحة المعروفة بها، والإحساس المرهف الذي ينبع من أدائها، يلمسان الروح من دون استئذان. وعندما تختم مدندنة وهي مغمضة العينين: «أملي دايماً كان يا بلدي أني أرجع لك يا بلدي وأفضل دايماً جنبك على طول»، تستنتج أنّ نضال هي وطن من نوع آخر، مفعم بالأمل والحب، قد يقع، لكنه لا يلبث أن ينتصب.
«مدينتان» الفيلم الذي عُرض للمرة الأولى في صالة «مسرح المدينة» بمناسبة «اليوم العالمي للمسرح» ويقع في 27 مارس (آذار) من كل عام، هو بمثابة تكريم أراده مخرجه لأهله. وقدّم نعيم لفتة لبلده ومدينته بيروت. «لم أعش كثيراً في لبنان، فغالبية وقتي كنت بالخارج. لكنّ والدي نضال الأشقر وفؤاد نعيم أورثاني هذا الحب الكبير له. بالنسبة لي هما لبنان، وعبرهما كرّمت بيروت في فيلم (مدينتان)»، يقول عمر نعيم لـ«الشرق الأوسط»، الذي لم يتمكن من حضور عرض الفيلم في بيروت لوجوده في أميركا.
روجيه عساف من المخرجين المسرحيين الذين التقتهم كاميرا «مدينتان»
أكثر من 100 ممثل والعشرات من مخرجي المسرح ومن تقنيين يمرون أو يتحدثون في هذا الفيلم، فيروون تجربتهم ومعاناتهم مع المسرح في لبنان. أمّا بطلة الفيلم من دون منازع فهي نضال الأشقر، وتحكي فيه قصة مشوارها مع خشبة «مسرح المدينة». هذا الصرح الثقافي الذي حلمت بتأسيسه فرأى النور في عام 1994. على الرّغم من مصاعب كثيرة واجهتها. أمّا فؤاد نعيم الذي يشاركها البطولة، فكشف خلاله عن شخصيته الغامضة. فهو قلّما ظهر في وسائل الإعلام أو في حوارات ومقابلات، فشكلا معاً مزيجاً مختلفاً. نضال تمثل النار المشتعلة بحضورها الأخاذ وكلامها المتقن. أمّا فؤاد نعيم فكان الجبل اللبناني الشامخ الذي تتكئ عليه، ويشاركها هواجسها بثبات. ويعلق عمر: «نصفي يشبه أمي نضال، ونصفي الآخر معجون بشخصية والدي. فجزء الرجل الصحافي الباحث هو انعكاس لشخصية والدي، فيما الجانب العاطفي الذي يحب الناس، ويترجم مشاعره قولاً وفعلاً فورثته عن والدتي. لكن الاثنين هما فنانان بكل ما للكلمة من معنى، ومن خلالهما تعلقت بالمسرح. الفن الوحيد الذي كان غائباً عن منزلنا هو السينما. أمّا التلفزيون فكان ممنوعاً علينا أن نشاهده. عندما كبرت وأصبحنا نرتاد السينما، عرفت تلقائياً أنّي سأعمل في هذه الصناعة».
أكمل عمر دورة الفن عند والديه من خلال انتمائه إلى عالم السينما، وقدّم في مشواره المهني أكثر من فيلم سينمائي. حصد جوائز عالمية منها في «مهرجان دوفيل» حيث حصل على جائزة أفضل سيناريو عن فيلمه «الجرح الأخير»، وعنه أيضاً حصد جوائز أخرى. ومن أفلامه السابقة التي تناول فيها مدينة بيروت «المسرح الكبير... حكاية بيروت». ويقول عنه: «يومها أخبرت قصة الحرب في لبنان، من خلال هذا المسرح العريق الذي شهد دماراً كبيراً أثناءها».
وعن كيفية ولادة فكرة فيلم «مدينتان» يروي عمر نعيم لـ«الشرق الأوسط»: «بداية فكرت أن أنفذ فيلماً بمناسبة مرور 20 عاماً على تأسيس مسرح المدينة، يكون بمثابة وثيقة مصورة للأرشيف، أحكي فيه عن علاقة الفن بمدينة بيروت. حضرنا للفيلم قبل شهر من موعد الذكرى. كنا فريقاً كبيراً واشتغلت مع الممثلة كارول عبود منتجاً منفذاً. مع كارول وأمي وضعنا لائحة بأسماء المسرحيات والمسرحيين الذين سألقي الضوء عليهم. صورنا ساعات طوال، بإمكانها أن تولد أكثر من فيلم. ساعدتني في الفيلم زينة أبو الحسن واقترحت علي صناعة فيلم محدد أكثر، يتناول والدي ومهنتهما وقصة تأسيس مسرح المدينة. أعجبت بالفكرة لأنّها تزود الفيلم بهوية، فلا يعود شاملاً وطويلاً ومملاً».
نشاهد في فيلم «مدينتان» أول قبلة تلفزيونية بين نضال الأشقر وفؤاد نعيم على الشاشة الصغيرة ضمن مسلسل «نساء عاشقات» في عام 1974، مروراً بمسرحيات لعبت بطولتها نضال الأشقر، وأخرى أخرجها زوجها فؤاد نعيم، إضافة إلى لمحة عن بيروت التي تئن تحت ثقل فساد حكامها ونفهم سبب إطلاق هذا الاسم عليه من فحوى حديث أجراه عمر مع والدته ضمن الفيلم. شرحت تقول: «(مسرح المدينة) هو بمثابة مدينة ضمن مدينة، له مساحته وفريقه وعماله. إنّه مدينتي النظيفة المنظمة والعادلة، التي تبحث عن تزويد أهلها بالفرح. هنا وتحت سقف هذا المسرح يجتمع اللبنانيون على اختلاف مشاربهم. ولا يمكنك أن تفرق بين المسيحي والمسلم والدرزي وغيرهم. جميعهم يلتقون هنا بهدف الاستمتاع بالفن، فلا دين ولا طائفة تفرقهم. لطالما حلمت بإنشاء مسرح من هذا النوع، يكون فسحة حرية لأبناء مدينتي».
نضال الأشقر بطلة فيلم «مدينتان» من دون منازع
تطغى شخصية نضال الأشقر على الفيلم وترن كلماتها في أذن مستمعها كجرس إنذار. تضع النقاط على الحروف وتحكي الأمور كما هي. لا تستسلم لليأس ولا تقبل الخضوع، فهي سيدة المسرح بكل ما للكلمة من معنى. أمّا فؤاد نعيم الذي عندما ينكب على عمله يبقى بعيداً عن الأضواء، نشعر أنّه لا يحب أن يفارق الكواليس. نلمس حرفيته كمخرج، خلال بروفات لمسرحية «الملك يموت» ليوجين يونيسكو من بطولة جورج خباز. يومها كان يحضرها لتفتتح ذكرى مرور 20 عاماً على تأسيس مسرح المدينة. وبروح الفكاهة والقليل من السخرية وكثير من الواقعية، يمر عرض الفيلم ومدته 60 دقيقة بسرعة هائلة، وكأنّها لا تتجاوز الدقائق القليلة.
يحزن مشاهد «مدينتان» مرات، عندما يدرك ما جناه عليه حكامه، وتمر أمامه الصور البشعة عن بيروت النفايات والكابلات وانقطاع التيار الكهربائي. وكأنّ كاميرا المخرج تصور بيروت اليوم. وبين حين وآخر يصرّ عمر نعيم على تذكيرنا بطبيعة حكام لبنان، إذ ينقلنا بصورة مفاجئة إلى مجلس النواب. هناك يدور مسلسل أو فيلم من نوع آخر. نرى عملية انتخاب رئيس الجمهورية التي تكررت مرات ومرات قبل أن يكتمل النصاب وعملية الاقتراع. وعندما يتحدث أحد التقنيين القدامى في مسرح المدينة، محمد فرحات عن ذكرياته مع المسرح، لا ينسى أن يشبه مفاتيح «ميكسر» الصوت التي يستخدمها خلال عرض المسرحيات بالنواب اللبنانيين. فيقول: «عدد هذه المفاتيح 128 تماماً كعدد نوابنا، هم موجودون نعم على هذه اللوحة، ولكن من دون جدوى».
تمر كاميرا المخرج على أكثر من رائد وأستاذ مسرحي، من بينهم روجيه عساف. يقول في أحد حواراته مع المخرج عمر نعيم: «أعشق لبنان ولا يمكنني أن أعيش خارجه. ولكن مع الأسف لم يستطع أولادي أن يرثوا هذا الحب عني. جميعهم هاجروا فلم يستطيعوا تحمل كل هذه المصائب». يوافقه المخرج كريم دكروب على معاناته هذه عندما يسأله عمر؛ كيف يرى مستقبل أولاده في لبنان؟ فيرد: «لا أحب أن يحققوا أحلامهم فيه خوفاً من أن ينكسروا».
مشاهد مؤثرة كما أحاديث مشوقة ولقطات طريفة يجمعها فيلم «مدينتان»، الذي لا تتوانى نضال الأشقر عن الاعتراف علناً بأنّها لم تعد تنتظر أي شيء من بلدها لبنان. فهي قطعت الأمل من حكامه ولا خلاص بالنسبة لها إلّا من خلال تغيير جذري.
لكن؛ ما أكثر ما ترك أثره عند المخرج خلال تصويره الفيلم؟ يرد: «هناك مقاطع كثيرة تركت أثرها الكبير عليّ؛ خصوصاً عندما تعترف والدتي بأنّ لا أمل بلبنان هي التي تربَيت على تفاؤلها الدائم ببلاد الأرز. كذلك تأثرت بحديث محمد فرحات وبالتشبيه الذي قدمه عن نوابنا ومفاتيح (ميكسر) الصوت. الذين تحدثوا جميعاً، بمن فيهم والديّ، يحاولون أن يعيشوا بكرامة، ولكنهم يدركون بأنهم يموتون رويداً رويدا».
يفكر عمر بتصوير فيلم ثالث يجمعه مع «المسرح الكبير» و«مدينتان» ليؤلف منها فيلماً طويلاً. ويختم: «ورثت حب لبنان من والدي. وهو أمر ثابت في أعماقي وله علاقة بقوة وصلابة أمي نضال، وكذلك تصميمها من أجل تحسين الواقع وحياة الناس ونقلهم من العتمة إلى الضوء. مؤلم ما نعيشه في هذه البلاد التي تشهد تراجعاً مستمراً، وحده الفن متشبث بالمدينة من أجل حياة أفضل».