زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»

في كتابها «الشعر العربي المعاصر من منظور إيكولوجي»

زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»
TT

زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»

زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»

ثمة فرق بين دراسة علاقة الشاعر بالطبيعة وهذا كلاسيكي، وما يسمى بـ«النقد الإيكولوجي». فالصنف الثاني يُعنى برصد صدى التحولات البيئية الناتجة عن النشاط البشري، في العمل الأدبي، ومدى قدرة الكاتب على إثارة وعي القارئ بالدور الذي تلعبه الطبيعة، باعتبارها الفضاء المحيط بالإنسان.
تعتمد الباحثة الدكتورة زهيدة درويش جبور على ما سبقها من «نقد إيكولوجي»، لتبحر في شعر اثني عشر شاعراً عربياً معاصراً، ناظرة في حساسياتهم الخاصة تجاه ما يحيط بهم، وكيفية تعاطيهم، مع الطبيعة، وانعكاسها في نتاجاتهم. وفي كتابها الجديد «الشعر العربي المعاصر من منظور إيكولوجي» الصادر عن «دار جروس برس ناشرون» في لبنان، تعود إلى أشعار أنور سلمان، نزيه أبو عفش، وديع سعادة، علي جعفر الصادق، شوقي بزيع، عبد العزيز المقالح، جودت فخر الدين، إبراهيم نصر الله، عيسى مخلوف، سيف الرحبي، أديب صعب، فوزي يمين.
وبعد أن تمر على الشعراء واحداً تلو الآخر، تصل الباحثة إلى ملامح مشتركة تجمع هؤلاء الشعراء، «أهمها الحدس بوحدة الكائنات والتوق لاستعادة التناغم المفقود». فالقصائد، على تنوع الجغرافيات العربية الآتية منها تعبر عن «قناعة بأن الإنسان، إنما هو جزء من هذا الكون، ووجه من وجوه لا حصر لها لتجليات تلك الطاقة الخفية الكامنة في النبات والحيوان، بل والجماد». وما يجمع هذه التجارب الشعرية أيضاً هو بعدها الروحاني والقيمي الذي «يتكامل مع ما تختزنه من سمات جمالية ترقى بها على سلم الإبداع الفني.

القرية بيت القصيد

القرية بنقائها وعذوبتها لا تزال كما الحال منذ ستينات القرن الماضي، هي الملجأ والملاذ. فعند شوقي بزيع في ديوانه «صراخ الأشجار»، تعود بك القصائد إلى «الحقل» و«السنبلة» و«ورق الشجر». إذ يقول: «كل قصائدي منقوعة بحليب ذاك العالم الصيفي. كل رؤاي أكمَلها، تطاير شعر سنبلة على أفق الحنين».
عند الراحل أنور سلمان نجد النزعة نفسها. فقد امتاز شعره بلغة غنائية تستبطن وعياً عميقاً بأهمية الطبيعة. وبقي الشاعر ملتزماً بالقيم الإنسانية، متسامياً، باحثاً عن الجمال: «بي حنين إلى تراب قريتي... إلى عهد بيادر القمح ومعاصر العنب والزيتون!... بي حنين إلى السواعد السمراء تضرب معاولها في صدر الأرض، فتملأها بالعافية». الشعراء اللبنانيون عموماً، تكاد قصائدهم تكون معجونة بعناصر الطبيعة المتنوعة، التي تلفهم في قراهم وجبلهم وبحرهم.
وديع سعادة في شعره، يرى في الطبيعة وسيلة ليملأ الفراغ الذي يعاني منه العالم، ولديه قناعة بأن الشعر هو لغة الأخوة الإنسانية التي تصنع الانسجام والتناغم، بين الإنسان ومحيطه الطبيعي، في سعي للحفاظ على الكوكب. وكذلك فوزي يمين فخلاص الذات عنده يتحقق بـ«استعادة السلام المفقود بين الإنسان ومحيطه الطبيعي». يقول يمين: «أفتح باب القصيدة لتدخل الشمس، وأدعو أول شجرة أصادفها لتجلس معي على الطاولة، وتعزز جذورها عميقاً في البلاط. فيعود سطحي الورق وغرفتي الغابة». وهو إضافة إلى ذلك يخلط المرارة بالسخرية في العديد من قصائده، ومنها: «تنفّس، البس ثيابك، اشرب قهوتك، واخرج، تابع، تنفّس، عند كل صباح، اقلب الصفحة».

الاختلال بين الإنسان ومحيطه
تقول د. زهيدة درويش جبور إنها لا تتوقف فقط عند كيفية تعامل الشعراء المعاصرين مع الطبيعة، وإنما المهم «معرفة المساحة التي احتلتها في نتاجاتهم، كحضور حي يحاوره الشاعر ويدخل في علاقة تفاعل معه». وهذا يساعد على «جلاء موقف الأديب من قضايا وإشكاليات تتعلق بالبيئة، والتنبيه إلى الأضرار الناتجة عن اختلال العلاقة بين الإنسان ومحيطه الطبيعي، وعن الانعكاسات السلبية للتطور التكنولوجي حين لا يواكبه تطور على مستوى القيم الإنسانية والروحية».
حين نصل إلى العراق مع الشاعر والناقد علي جعفر العلاّق، نجد أن مفرداته مستلة من وداي الرافدين كـ«النهر» و«الريح»، و«الخضرة»، و«المطر»، حيث «تلبس الريح حنين الشجرة، وتغطي خشب الأيام بالوهم». وهو لا يتوقف عن استيحاء بيئته الأولى ببساطتها وحنوها. فقد نشأ على الألفة مع الحيوان والنبات والتعاطف مع الفقراء وضعاف المخلوقات: «أعدنا حيث كنا: من رعاة الغنم والتحنان والبرد... يخالط نومنا خوف بدائي من الله، إن لم نبتسم للطير في الفلوات، أو تِهنا على أحدِ...».

التصدي للخراب
أما نزيه أبو عفش فالشعر عنده هو «توثيق بالصورة والصوت لنبض القلب الإنساني». أما الشعراء فوظيفتهم: «الانتباه للحياة». هذا الكلام على بساطته، عميق ينغرز في الروح، إذ يعتبر أبو عفش أن رسالة الشعر أن «يجعلنا تعساء بشكل أفضل». وربما أن قصائد هذا الشاعر هي من بين الأكثر مواءمة، لما يرمي إليه النقد الإيكولوجي، حين يرصد عند الأدباء صدى الكوارث التي يتسبب بها البشر لبعضهم بعضاً: «سيأتي برابرة آخرون، يأكلون النساء كعرانيس الذرة، ويشربون الدماء بالشلمون، ويطلقون القنابل النووية بالمقاليع وأقواس النشاب. سيأتي الماضي».
أبو عفش له للكون «نظرة المتصوفة من أهل الحلول»، أما الطبيعة، فهي «الترياق ضد السوداوية التي تجتاح الوعي حين يغرق في ظلمة العالم». يقول: «تداووا بجمالي قالت الخجولة - الوردة».
اختيارات بديعة، للدكتورة زهيدة درويش، بنت عليها دراستها، التي أرادتها عربية، ومتعددة. فمن عُمان، يرى سيف الرحبي أن الشاعر، يشبه «الناسك في حدائق الروح» وهو يقيم في الأقاصي حيث «العزلة تاج الحياة، -والسماء كوكب العري الأنقى». والرحبي وإن مال إلى استلهام الطبيعة العمانية بخضرتها وبحرها وصحرائها، إلا أنه كما أبو عفش مشغول بهذا الظلام الوجودي الذي يطبق على البشر: «ستة وعشرون مرّت، وأنت تذرع الأفق بقدم مكسورة، ورأس غارق في الجحيم. تمشي مغمض العينين، في طرقات مليئة بالذئاب».

المقالح و«الرسالة البيئية»
من اليمن عبد العزيز المقالح الذي جعل الحب كلمة سرّه، ومفتاح دواوينه. ولد وترعرع في المقالح، واحدة من أخصب قرى اليمن، وهي لم تفارقه أبداً. في ديوانه «كتاب القرية» خص المقالح، بسبع وسبعين لوحة شعرية «تشكّل سجلاً للحياة هناك وتصويراً لجغرافيا القرية الطبيعية والبشرية وتدويناً لعاداتها وطقوسها». لكن الأهم هو حضورها القوي في وجدان الشاعر «من سقف قريتنا يتدلى النهار، ومن ضوئها تصعد الشمس، مغسولة بالندى والتعاويذ، حاملة ماء فضتها من ينابيعنا». وتعتبر زهيدة درويش أن المقالح نجح في تضمين قصائده «رسالة بيئية» لا بل إن «كتاب القرية» يدخل في نطاق «الأدب البيئي». وتقصد بهذا المصطلح «الأدب الذي يسعى إلى دحض مقولة ثنائية الإنسان والطبيعة التي قامت عليها العقلانية الغربية» منذ أطلق ديكارت صرخته الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود». وأفضت إلى اعتبار الإنسان سيداً على الطبيعة.
كل الأماكن صالحة، لتجعلك باحثاً عن سحر الطبيعة حتى لو قضيت طفولتك في مخيم للاجئين كما إبراهيم نصر الله، أو عشت في مدينة كعمّان، فقصص الأمهات والجدّات كفيلة بنقل هذا الإرث. تقول د. درويش أن نصر الله «ابتدع في قصائده وطناً يعوضه عن الوطن الممنوع، وطناً أرضه وشمسه وبحره وسماؤه ومياهه وبيّاراته جغرافيا عاطفية، مرسومة بحبر الكلمات...» فالشهداء عنده «كلما شفّوا – تطايروا - تراباً إلى الفضاء». و«في التراب مذاق، البحار، الندى والغيوم... مذاق المدى والمطر. مذاق السهول، الجبال، السفوح: مذاق البشر».
بالعودة إلى الشعراء اللبنانيين الذين يستحوذون على نحو نصف الكتاب، نلتقي عيسى مخلوف، «يقطف الضحك من أشجار البساتين المحيطة بالنهر». وتصفه الباحثة بأنه من الشعراء الندرة الذين تجتمع في قصائدهم الفنون على تنوعها. كما أن الطبيعة تسحره ومفتون بالحدائق. رومانسية مخلوف، تجعله من الشعراء الذين يرون في حروب اليوم امتداداً للوحشية البشرية، وفي سلوكنا اليومي ما يستحق الإدانة: «سنفتح الخزائن على فراء المعاطف، على الأحزمة والأحذية الجلد. سنرتدي، الليلة، الحيوانات المقتولة قبل الذهاب إلى الاحتفال».
أما عند جودت فخر الدين، فللطبيعة مكانة محورية. «ولا حواجز تفصل بين كتابة الذات ووصف المشهد الطبيعي والتفكير في ماهية الشعر ولغة القصيدة». «طبيعتي بعيدة مثل البراري. وديعة مثل الحدائق. خجولة مثل ورود على وشك الذبول... طبيعتي هي الجلوس مثل سنديانة، والوقوف مثل حورة». يختلف عنه أديب صعب في أنه يتوسل الطبيعة مساحة لعبادة الله والتأمل في عظمة وجمال الخالق، وفي شعره نزعات صوفية روحانية: «وما الشعر إن لم يكن صلوات. وما الصلوات، غير شعر يفيض من القلب، يرسم وجه الحياة». وغالباً ما تتحول قصيدة الوصف إلى ضرب من ضروب العبادة: «يضرب الفجر خيامه - بين غابات الظلال- العصافير علامة - لمدى يمتد، والنور ابتهال».
«النقد الإيكولوجي» كمصطلح، ظهر للمرة الأولى في نهاية سبعينات القرن الماضي، في مقالة للباحث الأميركي ويليام روكرت تحت عنوان «الأدب وعلم البيئة: تجربة في النقد الأدبي»، وبقي يتداول من حينها، خاصة في الأوساط الأكاديمية الأنجلوسكسونية، دون أن يحقق اختراقاً كبيراً. وجد المصطلح طريقه إلى النقد العربي حين طبق على الرواية والقصة. محاولة الدكتورة زهيدة درويش جبور، تطبيق «النقد الإيكولوجي» على الشعر العربي المعاصر، تكتب لها، وتجعلنا نتساءل إن لم يكن شعراؤنا هم بطبيعتهم من عشاق البيئة وحماتها، حتى قبل أن تطلق الصرخات المهددة بزوال الكوكب.



في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».