منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا قبل شهر، والذي تصر موسكو على وصفه بـ«العملية العسكرية الخاصة»، كانت معظم التحليلات تشير إلى أن النتائج التي ستترتب عليه، ستكون لها ارتدادات سياسية واسعة النطاق، خصوصاً على اليمين المتطرف، الذي كان «مفتوناً» بشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفيما توقع البعض أن تؤدي هذه الحرب إلى توجيه ضربة كبيرة لنظرة هؤلاء إلى «شخصية القائد الفذ»، سواء في الدول الغربية عموماً، أو في الولايات المتحدة، إلّا أنه لم يكن من الصعب، على الأقل من خلال المعاينة الشخصية لردود الفعل على هذه الحرب، ملاحظة مدى تأثير الدعاية السياسية الروسية على المواطن الأميركي خصوصاً لدى أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب أو حتى من بعض الأقليات العرقية الموجودة في البلاد. وبينما ردَّد بعض المحافظين المتشددين مزاعم الكرملين حول الحرب، كان بعض المواطنين العاديين مأخوذين بفكرة أن الولايات المتحدة وحلف الناتو هما المسؤولان عن دفع بوتين لشن حربه على أوكرانيا، «دفاعا عن النفس».
- اليمين المتشدد يناصر بوتين
بعض وسائل الإعلام الأميركية والمواقع الإخبارية اليمينية المحافظة، تبنت منذ اليوم الأول ادعاءات بوتين بأن هدفه هو «اجتثاث النازية» من أوكرانيا، في حين أن المؤسسة السياسية المحافظة في الحزب الجمهوري، اتخذت موقفاً مناقضاً، بعدما تبنت مع الديمقراطيين، خطاً متشدداً من الرئيس الروسي، دافعين باتجاه سياسات أكثر حزماً ضد روسيا. وهو ما عكسه استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «إبسوس» مع الإذاعة الوطنية الأميركية، أظهر أن حملات التضليل الروسية، فشلت عموماً في التأثير على أعداد كبيرة من الأميركيين، لتبني نظرية أن «النازيين» يحكمون أوكرانيا، ولم يتبنّ سوى 2% هذا الادعاء.
ومع اندلاع الحرب، قامت تلك المواقع الأميركية بتضخيم الدعاية الروسية ونشرها، الأمر الذي أدى إلى إعطاء الأميركيين اليمينيين المتشددين، صدقية لتأكيدات روسيا، من خلال تعزيز تلك الدعاية وتغذيتها، لإيجاد واقع بديل، عبر تصوير الغرب والولايات المتحدة، بأنهم مسؤولون ومحرّضون على ما يجري. وهو ما صبّ عملياً في مصلحة الرئيس الروسي في نهاية المطاف.
بيد أن الانقسام السياسي بين المحافظين واليمينيين المتشددين كان لافتاً أيضاً. وفيما كان قلة من الجمهوريين مقتنعين بأن بوتين في طريقه لغزو أوكرانيا، كان المتشددون يحمّلون إدارة الرئيس بايدن المسؤولية، متهمين إياها بالكذب وبتضخيم ما يجري على الحدود الأوكرانية من حشد للقوات الروسية. وأظهر استطلاع «إبسوس» أن غالبية الأميركيين يعتقدون أن الرئيس بايدن لم يقم بعمل جيد في تعامله مع الحرب. وقال الكثيرون منهم إنه كان شديد الحذر، رغم إجماع الغالبية على ضرورة الحذر من التورط في صراع واسع. ورغم ذلك، فقد أجمعت الغالبية على أن الشعب الأميركي يدعم أوكرانيا، «إلى حد ما». بيد أن الاستطلاع أظهر أيضاً رداً متسقاً بشكل ملحوظ مع الانقسام السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين، خصوصاً في النظرة إلى أداء الرئيس بايدن. فقد قال 80% من الجمهوريين إن أداءه كان ضعيفاً، مقابل 62% من الديمقراطيين قالوا إنه كان جيداً.
يقول بعض المحللين الأميركيين إن التساؤل المطروح اليوم هو «عمّا إذا كان اليمين المتطرف في الولايات المتحدة يؤثر على روسيا أم أن روسيا تؤثر عليه». وقد تكون الحقيقة أن بعضهم يؤثر على بعض. وهذا ما قد تكون له تداعيات بعيدة المدى، ويفاقم من حجم الاستقطاب في الولايات المتحدة، والتأثير على الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. غير أن الاختلاف بين الجمهوريين حول النظرة إلى روسيا، يمكن أن يؤدي إلى إحداث شرخ في صفوف حزبهم، بين من يؤيد بوتين ومن يعارضه، ويدعو إلى تكثيف رد الولايات المتحدة ودعمها لأوكرانيا. ويحمّل الكثير من المراقبين المسؤولية عن «عمق الدعاية الروسية ورسوخها»، لدى اليمين الأميركي، إلى كيفية تفاعله مع السياسات التي أرستها روسيا في التقارب مع هذه الشريحة، خلال السنوات العشر الماضية. وشكّلت الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 منعطفاً كبيراً في إظهار حجم التدخل الروسي، الذي «لم يجرِ التصدي له كما يجب». لا بل قام الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، الذي حظي بدعم بوتين خلال حملته الانتخابية، بالثناء علانية عليه، ووصفه بعد أيام على بدء الغزو بأنه «عبقري». وهو ما رأى البعض أنه ساعد على إضفاء نظرة إيجابية على بوتين، «الرجل القوي»، بين بعض الأميركيين.
- مواقع يمينية تعوّض «روسيا اليوم»
كان بالإمكان الاستماع إلى وجهات نظر بعض الأميركيين الحادة المدافعة عن روسيا، في أي احتكاك أو مناقشات عادية. وبدا واضحاً حجم تأثير محطة «روسيا اليوم» الناطقة بالإنجليزية، في الأيام الأولى للحرب، على اليمينيين الأميركيين، قبل منعها من السلطات الأميركية. حتى المواطنين الأميركيين من أصول روسية، وبعضهم من الأقارب الشخصيين، كانوا يدافعون بضراوة عن وجهة نظر بوتين وادعاءاته حول أسباب الحرب. وهو ما قد لا يكون مفاجئاً من الناحية «الوطنية» والشعور بالتضامن الطبيعي في مثل هذه الظروف. غير أن تولي وسائل الإعلام الأميركية المحافظة هذا الدور، عوّض هؤلاء وغيرهم من الأميركيين اليمينيين المتطرفين، غياب المحطة الروسية، وأسهم أخيراً في الترويج لاتهامات روسية عن خطط أميركية «مبيّتة» لتطوير أسلحة بيولوجية مع الأوكرانيين، الأمر الذي يخشى أن يكون مقدمة لقيام بوتين باستخدامها فعلاً في حربه، مع تعثر حملته العسكرية، ومراوحتها في أوكرانيا بعد نحو شهر. ويُظهر استطلاع «إبسوس» أن نظرية مؤامرة روسية أخرى بأن الولايات المتحدة تدير مختبرات بيولوجية في أوكرانيا، تحظى بقبول واحد من كل 10 مشاركين في الاستطلاع، في حين قال 33% إن هذا الادعاء خاطئ، بينما قال أكثر من نصفهم إنهم لا يعرفون شيئاً عن هذا الادعاء.
ولعل ما جرى خلال تفشي جائحة «كورونا»، يكشف أيضاً محاولات روسيا لتقويض الثقة بالولايات المتحدة ومؤسساتها السياسية والصحية، وباللقاحات التي تفوّقت فيها على غيرها من الدول، خصوصاً على اللقاحات الروسية التي بدت متخلفة بشكل كبير عن التصدي لتفشي الوباء، حسب بعض الخبراء الصحيين. وحفلت مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من الحملات المعادية للقاحات، كانت في غالبيتها روسية المصدر، حسب تحليلات بحثية، وحظيت بمتابعات واسعة من اليمين الأميركي المتطرف الذي خاض، ولا يزال، معارك واسعة مع سياسات الإغلاق والتطعيم والوقاية التي فرضتها الحكومة الفيدرالية.
مع بدء الحرب في أوكرانيا، وخلافاً لنفي الرئيس الروسي المتكرر نيته غزوها، وبدء ظهور صور الحرب وبشاعتها، بدا واضحاً أن غزوه لا يحظى بشعبية كبيرة بين الأميركيين. ويُظهر استطلاع «إبسوس» أن معظم الأميركيين يولون اهتماماً وثيقاً بأوكرانيا. وقال 90% منهم بشكل صحيح، إن روسيا هي التي غزت أوكرانيا، و80% منهم يعرفون أن الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات اقتصادية رداً على ذلك.
وتصاعدت ردود الفعل الغاضبة ضد أولئك الذين يقفون إلى جانب بوتين. ورفض الكثير من المحافظين وقوف اليمينيين إلى جانب روسيا في الحرب، ودحضوا ادعاءاتهم عن النازيين الجدد المتفشين في أوكرانيا، وعن أن الرئيس الأوكراني «المدمن على المخدرات»، الذي أصبح «دمية» في يد الأميركيين، هو المسؤول عن الحرب. وهو الوصف الذي تبناه المذيع الشهير في محطة «فوكس نيوز»، تاكر كارلسون، الذي قال إن أوكرانيا، هي «دمية مطيعة في يد وزارة خارجية الرئيس بايدن». وقال تقرير صحافي أميركي إن برنامجاً إخبارياً تلفزيونياً روسياً يدعى «60 دقيقة»، يحمل الاسم نفسه للبرنامج الشهير على محطة «سي بي إس» الأميركية، تحدث عن تعزيز العلاقة بين روسيا والمقدم كارلسون، بصفته أحد «المعارف الصديقة». وقام ببث مقاطع من برنامجه، الذي أشار فيه إلى أن الولايات المتحدة هي التي دفعت باتجاه الصراع في أوكرانيا. لكن في المقابل وصف نيل كافوتو، المضيف الشهير هو الآخر على محطة «فوكس نيوز»، هذه الاتهامات بأنها «انتقادات مجنونة مبالغ فيها بشكل لا يصدق»، مشيراً إلى توقيع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، اليهودي، قانوناً لمكافحة معاداة السامية في الخريف الماضي.
حرب أوكرانيا تكشف «عمق» تأثير بوتين باليمين الأميركي المتطرف
الانقسام بين المحافظين والمتشددين يهدد بشرخ الجمهوريين قبيل الانتخابات النصفية
حرب أوكرانيا تكشف «عمق» تأثير بوتين باليمين الأميركي المتطرف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة