قضايا ارتبطت بالشعر العربي في أزمنته المختلفة

قضايا ارتبطت بالشعر العربي في أزمنته المختلفة
TT

قضايا ارتبطت بالشعر العربي في أزمنته المختلفة

قضايا ارتبطت بالشعر العربي في أزمنته المختلفة

يشكل كتاب «لماذا يخذل الشعر محبيه؟» للشاعر محمود قرني، حوارية متعددة الزوايا والرؤى حول جدلية الشعر والحياة. يتأمل من خلالها المؤلف مجموعة من القضايا المهمة، التي ارتبطت بالشعر العربي في ماضيه وحاضره ومستقبله، وهي قضايا تشكل في بعدها الإنساني والمجتمعي خطوط تماس بين الشعر في شتى اللغات والثقافات.
الكتاب صدر أخيراً عن دار الأدهم للنشر بالقاهرة في 115 صفحة، من القطع المتوسط، ومن أبرز القضايا التي يناقشها: وظيفة الشعر وتحولاتها الأسطورية، الشعر وأسطورة الرجل الأبيض، الشعر وحماقاته، أمل دنقل وقصيدة الرفض، جوائز الشعر أم مأتمه، والت ويتمان شاعر الديمقراطية الأميركية وديمقراطية صغار المنتجين، لماذا يستدعي شعراء قصيدة النثر محمد مندور... إلخ.
يعتمد قرني على التساؤل قيمة معرفية، من خلالها يدير حواريته واشتباكه مع كل هذه القضايا، ولا يغفل طبيعة المسافة التي يعاني منها الشاعر، بينه وبين مجتمعه، ففي مقدمته التي حملت العنوان نفسه الذي وسم الكتاب، يقر بأن الشعر غامض، لأن هذه طبيعته، حتى ولو كان بسيطاً، فهو ابن التمرد. ويدلل على ذلك بالشاعر الألماني هولدرلين، ورفضه للعالم الحديث كله، وكذلك الشعراء الصعاليك العرب الذين أدمنوا «حياة الاختطاف العابرة»، وقدموها على نمط الاستقرار النسبي، وكأنهم ينتصرون لـ«اللا نظام».
ويخلص في ختام مقدمته إلى أنه ليس مهمة أحد في هذا الكون جعل الشعر مفهوماً، أو جعل مثل هذه الإشكاليات موضع احتفاء لدى القارئ، «فالشعر كما أنه ليس ذاكرة للبساطة، فهو في المقابل ليس ذاكرة للكثافة أو احتقار الحقيقة، وفي كلا الحالين ثمة ما يمنحنا مبرراً معقولاً لإعادة طرح السؤال: لماذا يخذل الشعر محبيه؟».
ومن ثم تبدو حرية الشاعر والبحث عنها، واستكشاف مكنوناتها وعثراتها، هي الحجر الأساس الذي يبني قرني عليه الإجابة عن سؤاله الشائك الملتبس. ففي مقالته المعنونة: لماذا يستدعي شعراء قصيدة النثر محمد مندور، الناقد الأدبي المعروف بانفتاحه الفكري ورؤيته المتجددة لقضايا الإبداع، يشير إلى مقال مندور «نسمات شعرية» المنشور بجريدة «الجمهورية» في يناير (كانون الثاني) 1962، باعتباره «واحداً من أعلى تمثيلات الحرية التي منحنا هذا العقل المنفتح والمتجدد في وقت صعب وخطر، ولم يكن من الملائم فيه، على أي نحو، إعلان الانحياز لقصيدة النثر»، لافتاً إلى أنه في التوقيت نفسه قصيدة الشعر الحر (التفعيلة)، كانت قد استوت على عرش الشعر العربي، وكان تمدد تيار طليعي يتبنى قصيدة النثر لدى مدرسة «شعر» اللبنانية قد أثار صراعات بين مركزين مؤثرين للثقافة العربية هما: بيروت والقاهرة.
ويلفت قرني في هذا السياق إلى أن مقالة مندور كانت بمثابة تطبيق عملي لحلم طه حسين بالتجديد الشعري، ويذكر بمقدمة لويس عوض لكتابه «بلوتولاند»، ودعوته إلى ثورة دائمة على الثوابت الجمالية للقصيدة العربية، أيضاً مقدمة الشاعر اللبناني أنسي الحاج لديوانه «لن»، ويرى أنهما كانا أكثر ثورية من موقف مندور وطه حسين الذي كان بمثابة دعوة للبناء على منجز السابقين. ويخلص إلى أن الحرية التي دافع عنها وانحاز لها مندور ليست حرية المبدع فحسب، وإنما هي حرية الناقد أيضاً، بما تتجاوز من شكل القول إلى مضامين التفكير.
لا يتوقف النظر إلى الحرية عند هذا الإطار فيما يطرحه الكتاب، وإنما تبدو الهاجس الجوهري للشعر والحارس له ضد ما يتعرض له من عداوات، التي تصبح أكثر قسوة حين تأتي من الشعراء أنفسهم. وهو ما يتبدى في مقالة بعنوان «من ينقذ الشعراء الكبار من أنفسهم»، التي يعلق فيها المؤلف على موقف الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، من لجنة الشعر واستقالته منها، ومعه ثمانية من أعضائها بعد سيطرتهم عليها لسنوات عديدة، ورفضهم لتشكيلها الجديد في مطلع عام 2013 عقب الثورة المصرية، الذي تم في إطار ديمقراطي. ويتعرض الكتاب للشاعر والت ويتمان، وارتباطه بالحلم الأميركي، والترجمات العربية لشعره، ومدى وعي المترجمين بأبعاد هذا الحلم، وشخصية ويتمان نفسه، وينوه هنا بذكاء الشاعر سعدي يوسف، بخاصة في مقدمته التي صدر بها ترجمته لمختارات من شعر ويتمان، فرغم حبه له إلا أنه توقف أمام مفاصل مؤثرة في اختيارات ويتمان السياسية وانحيازاته الفكرية. وفي استعراضه لكتاب «اللا طمأنينة» للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، يربط بين شعر بيسوا وبين ذوقه الجارح للواقعية، مؤكداً أن تجربته في هذا الكتاب تمثل إجابة عميقة على إشكاليات قصيدة النثر المصرية والعربية، ويذكر أن بيسوا يرى أن الفن كله متحصل في النثر باعتباره الكلمة الحرة التي يتمركز فيها العالم.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي