حروب «تويتر» الثقافيّة... من يحارب من؟

لأوّل مرّة منذ مطبعة غوتينبيرغ توفّرت أداة لنقل الأفكار بسرعة هائلة

«تويتر»... الأشد حديّة ونزقاً من مواقع التواصل الأخرى
«تويتر»... الأشد حديّة ونزقاً من مواقع التواصل الأخرى
TT

حروب «تويتر» الثقافيّة... من يحارب من؟

«تويتر»... الأشد حديّة ونزقاً من مواقع التواصل الأخرى
«تويتر»... الأشد حديّة ونزقاً من مواقع التواصل الأخرى

قبل أقلّ من 20 عاماً، وبالتحديد في 21 مارس (آذار) 2006، تأسس في الولايات المتحدة موقع التواصل الاجتماعي الأزرق «تويتر». ومن يومها لم يعد العالم ذاته – أقلّه في فضاء ما صار يعرف بـ«الحروب الثقافيّة» – العالم من قبل. لقد افترس هذا الموقع الأنيق من حينها نقاط ضعف البشر سعياً لسرقة اهتمامنا والتأثير على سلوكياتنا ونظرتنا للأشياء وتوريطنا في صراعات وخلافات استقطابيّة بين معسكرات متناقضة لا يمكن جسرها. ويسهل بالطبع إلقاء اللوم هنا على الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي والخوارزميّات الخفيّة، ولكن هذا «الافتراس»، وإن عكس تغوّل تكنولوجيا الرأسماليّات المعاصرة على المجتمعات وهيمنة صناع الثقافة الغربيين على «عقل العالم»، لم يكن ليكتمل لولا خلل ما في تركيبة إنسانيتنا ذاتها، يدفع مئات الملايين منّا للانخراط طواعيّة في سلك «المُفتَرَسين». إذا لا بد أن ثمّة ما نحصل عليه من هوياتنا المكتسبة - تغريداً ومتابعة لتغريدات الآخرين - ويفسّر استثمارنا المستمر في الوقت والجهد والسمعة وانخراطنا السافر أحياناً في حروب «الثقافة» بلا هوادة ضد الآخر المُختلف.
ليست الحروب الثقافيّة – بغض النظر عن الحداثة النسبيّة للمصطلح المستخدم لوصفها والمستعار من أبشع مآثر البشر عبر التاريخ – بالأمر المستجدّ، فقد خبرها العالم في مراحل مختلفة، وانقسمت آراء الناس، في غير ما مفصل، حدّ التناقض المؤدي إلى الاقتتال لعل أقربها للذّاكرة مرحلة الحرب العالميّة الأولى وما تلاها في العشرينات من صعود للفاشيات، ومن ثمّ مرحلة الحرب الباردة بعد صمت مدافع الحرب العالميّة الثانية، التي خيضت بعض معاركها بالوكالة على الأرض، فيما أغلبها شنّ عبر أدوات ثقافيّة وفكريّة وإعلاميّة. وعلى سبيل التعريف المباشر، فإن القضايا التي تتحول حروباً ثقافيّة تشير دائماً إلى انقسام حاد في الآراء بشأن مسائل تستقطب الخلافات، ويتم اختزالها في كثير من الأحايين إلى معسكرين متباينين؛ مع أو ضد، نعم أو لا، أو ثنائيّات خير وشرّ، أو أبيض وأسود. وهذه تنعكس غالباً تمزقاً مجتمعياً يُعبّر عنه في وسائل الإعلام بمصطلحات «حربيّة» الإيحاء.
تجدد مزاج الحُروب الثقافيّة في القرن الحادي والعشرين بعدما أثارت المترتبات القاسية للأزمة الرأسماليّة العالميّة الأخيرة (2008) عواصف من غضب مست قلوب أكثريّات أُرهقت مادياً واجتماعيّاً من قبل الأنظمة الليبراليّة سعياً لإنقاذ الأقليّات الثريّة ومؤسساتها المالية الفاسدة من الاندثار. ولكن الجديد هذي المرّة أنّ الغضب الجماعي الشامل وجد ظاهرة جديدة ينفث من خلالها أنفاسه؛ مواقع التواصل الاجتماعي («تويتر»، كما «فيسبوك» الذي أطلق للعموم في 2006 وغيرهما). إذ لأوّل مرّة منذ مطبعة غوتينبيرغ، في النصف الأوّل من القرن الخامس عشر، توفّرت أداة ثوريّة لنقل الأفكار بسرعة هائلة إلى أعداد لا حصر لها من البشر بتكلفة ماديّة مباشرة لا تكاد تذكر، وضمنياً بالتالي سهولة التجييش والتلاعب بالمشاعر والعبث بالعقول.
بدأت الحروب الثقافيّة على «توتير» – الأشد حديّة ونزقاً من مواقع التواصل الأخرى، بسبب محدوديّة عدد الأحرف التي يمكن استعمالها للتعبير، وانعدام فرص التعديل على ما كتب سابقاً – على شكل استهدافات لأقليّات صغيرة، أو فئات لا تنسجم مع المزاج السريع الاشتعال للجمهور الأعرض، لكنّها سرعان ما تحولت ساحة لجدالات ومهاترات حول القضايا السياسيّة الأعم التي تثيرها الأيادي الممسكة بزمام «ريموت كونترول» وسائل الإعلام الرئيسة، ثم ما تلبث تنتقل إلى هشيم ينتظر الاشتعال على مواقع التواصل التي تتولى خوارزمياتها مكافأة الغضب، وتسهّل توصيل شراراته إلى كل من تتوسم فيهم - بعد طول مراقبة - قابليّة للاهتمام بالمتداول، لتنتقل الخلافات من ملعب السياسيين وقادة الرأي إلى بيوت الناس العاديين، ولاحقاً هواتفهم المحمولة (الذكيّة).
ويرى جيمس هنتر، وهو أحد أهم علماء الاجتماع المهتمين بهذه المنصّة السيبيريّة المستجدة للحروب الثقافيّة، أن هذا الانتقال إلى النطاق الأوسع لحجم المتورطين في الجدالات الاستقطابية ينقلها من حيّز الخلاف المحدد حول نقطة بعينها إلى تصورات متناقضة بالكليّة لمعنى العالم عموماً بحيث تنعدم تماماً فرص بناء جسور بين المعسكرات، وتتحول لقاءاتها إلى تبادل للشتائم والسخريّة، بينما يرتكس كل فريق إلى غرفة صدى تجتر ذات المفاهيم والأفكار بين أشخاص متشابهين يجمعهم غالباً العداء للمعسكر الآخر أكثر بكثير من توحدهم على مجال مشترك. وتفسّر ماريا سوبوليوسكا، أستاذة العلوم السياسية في جامعة مانشستر، بأن الحروب الثقافيّة لا تنشأ على أسس الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار ولا يطلقها بالضرورة طرف منهما دون الآخر، وإنما هي فجوات تتكوّن بين فئات المجتمع «بسبب تباين السرعات التي يحدث على إيقاعها التغيير الاجتماعيّ»، فبينما يتمسك المحافظون وكبار السنّ بالمألوف والمؤسس والماضي، تميل الأجيال الجديدة إلى المختلف والطارئ والمستقبلي، وبينهما – كما يقول غرامشي عن مجتمع مات قديمه، ولمّا يولد جديده بعد – تظهر الوحوش والمخلوقات الغرائبيّة التي لا شكّ يسهل توظيفها من قبل مستخدمين أذكياء، ومؤسسات، لتأجيج نيران الحرب بوتيرة مستمرّة. وفي عالم تسوده الفردانيّة الليبراليّة، فإنّ هنالك حافزاً جليّاً لقضاء ساعات في التصارع مع الآخرين وتوبيخهم وتقريعهم وإثبات وجهات النظّر الشخصيّة بغض النّظر عن صحّة مرجعيتها أو دقّتها، بلّ أصبح ذلك شكلاً مشروعاً ومحتفى به من الهويّة المهنيّة للمؤثرين وقادة الرّأي والسياسيين، على اليسار واليمين. ولعله من نافل القول الإشارة إلى أنّه من الصعب المشاركة في الحروب الثقافيّة دون ادعاء تفوق أخلاقي مزعوم أو اللجوء إلى ترديد ببغائي للأفكار (بل سرقة النصوص وإعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها)، أو كيل الشتائم ولصق الاتهامات بالشّر أو الغباء أو التفاهة على الغريم. وهنا ينبغي للناس أن يدركوا أنهم عبر تحقيرهم للآخر - البعيد مسافة - ومهما ساعدهم ذلك في التخفيف من حدّة العزلة والملل، أو الترقي الوظيفي، أو اكتساب الشهرة، أو لمجرّد شعور الضعفاء بالحاجة لعمل شيء ما كصرخة في وجه العالم الميؤوس منه، فإنّهم في المحصلّة يخوضون بالموازاة في مستنقعات تدمير ذاتي بطيء تجعل من الإنسان مع مرور الوقت أقل نبلاً، وأقلّ اعتياداً على ممارسة التعاطف الإنساني ذي الأهميّة القصوى في هذا العالم البارد والقاحل.
في مقابل هذه الصورة السوداويّة، فإن جرعة من الواقعيّة قدّمتها دراسة حديثة أجرتها كليّة كينغز في لندن، بالتعاون مع إحدى شركات الأبحاث الاستقصائيّة، واستهدفت قياس أعداد المشتركين بالفعل في الحروب الثّقافيّة بين المجموعات السكانيّة (في بريطانيا)، أظهرت أن «معظم الناس لا يتأثرون بشكل خاص بكثير من القضايا الخلافيّة، وكثير منهم يتخذ موقفا وسطاً أو متحولاً دون ثبات، أو لا يشارك مطلقاً، نحو 51 في المائة»، وهذا على الرغم من «الطفرة الهائلة» في متابعة تلك الحروب، فالأغلبيّة – كما في الغرب وأماكن أخرى – تميل إلى الاعتدال، وتتجنّب اتخاذ مواقف حادة، وأكثر حكمة عموماً من المتطرفين على جانبي الاستقطاب في التعاطي مع الأحداث والأزمات، اللذين سيتقاسمان - بالتساوي تقريباً – الـ49 في المائة الباقية. ولا شكّ أن فئة «الوسطيين» في بلاد العالم الثالث - حيث انتشار الهواتف الذكيّة وخدمات الإنترنت ما زال محدوداً في إطار طبقات ميسورة – تشكّل نسبة أعلى حتماً من المجموع الكلي للسكان في الغرب.
ولكن هل هذا التقسيم جعل البحث عن سياسات لوقف الاشتباكات الثقافية عملاً إيجابياً؟ بالتأكيد لا، إذ إنّ إدانة هذا الوضع بشكل شامل يخاطر بسدّ النافذة المفتوحة لفرصة النّقاش العام بشأن الاستحقاقات الأساسيّة الهامة للمجتمع (كحقوق الإنسان، وحماية العمال، وتوفير التعليم والرّعاية الصحية)، ما يجعل الانسحاب من حروب الثقافة كليّة عملاً أنانياً، بل لا أخلاقياً على مستوى ما، ولا يليق بالمواطن في المجتمعات الحديثة. فمن «المؤكد أنّه إذا لم توجد مشاركة إيجابيّة في الحروب الثقافيّة، على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن من المستحيل تجاهلها».
يقول البروفسور بوبي دافيي، من فريق دراسة كينغ كولديج؛ علينا أن نتعامل بعقلانيّة أكبر، وتقبلّ حقيقة أنّ اتخاذ موقف متعاطف مع قضيّة ما لا يتطلّب بالضرورة التجنّد لشن حرب لا تذر على أصحاب الضفّة الأخرى.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.