دائماً ما يجد مايكل بوبليه طريقاً

دائماً ما يجد مايكل بوبليه طريقاً
TT

دائماً ما يجد مايكل بوبليه طريقاً

دائماً ما يجد مايكل بوبليه طريقاً

كان لمايكل بوبليه الكثير من الطرف ليشاركها في الدقائق الخمس الأولى من محادثة مرئية أخيرة. فهو يكره اضطراره لاستخدام الحمام في قاعة السينما، لأنه يرهق نفسه بفكرة فقدان نقطة حاسمة من العرض الجاري. لم يكن حساء الخضار الكريمي الذي اعتذر عن تناوله أمام الكاميرا رائعاً. كما أنه لم يكن مهتماً بفيلم «Matrix»، وهو الجزء الصادر لعام 2021 من سلسلة الخيال العلمي الشهيرة، ومع ذلك فهو يحب بطلها كيانو ريفز، الذي يعيش في الشارع نفسه بمدينة لوس أنجليس. رغم أنهما لم يلتقيا أبداً، في كل مرة يمر بوبليه وعائلته أمام منزل الممثل، يقولون بصوت عالٍ، «مرحباً كيانو».
أوضح المغني الشهير قائلاً: «إنه كندي أيضاً، إذا هنالك رغبة قوية في الإحساس بأننا متصلان بصورة من الصور».
وقد تمكن بوبليه، البالغ من العمر 46 عاماً في الخريف الماضي، من بناء مسيرته المهنية من خلال هذا النوع من التواصل. ربما رأيتموه في أحد عروضه التلفزيونية الخاصة بأعياد الميلاد، حيث يغني أغاني العيد إلى جانب نجوم مثل باربرا سترايسند، وجيمي فالون، وكيرميت ذا فروغ. وربما قد شاهدتم ظهوره المتعدد في برامج «ذا شو» أو «فاكتور إكس» أو «ثيرتي روك» أو «شارع سمسم»، أو في أي برنامج حواري آخر يطرأ على ذهنكم. إن الفنان الترفيهي التقليدي من السلالات الفنية المتلاشية، لكن بوبليه، المغني المتجانس على نحو استثنائي، الذي يمكنه الدخول في أي أغنية أو غرفة أو موقف بكل سلاسة، هو الذي بنى لنفسه هذا النمط الكلاسيكي.
بوبليه هو أشهر شخصية لإعادة تفسير أغاني الآخرين. ويستمد مذاقه من حشد عميق من العصور والأنواع: دين مارتن، ولويس بريما، وبي جيز، ونات كينغ كول، وجاستن تيمبرليك وغير ذلك الكثير. وفي ألبومه الجديد الذي صدر في 25 مارس (آذار) بعنوان «هاير»، يؤدي فيه أغنية «نايتنغيل سانغ إن بيركلي سكوير»، التي نالت شعبية كبيرة من غناء «فيرا لين» عام 1940، ثم تبعتها مباشرة أغنية «ميك يو فيل ماي لاف»، وهي أغنية بوب ديلان عام 1997، التي غنتها المطربة آديل بأداء لافت عام 2008.
إن الخط الفاصل لهذه الاختيارات التي تبدو متباينة هو صوته الطنان النابض، القادر على جذب أي وجميع المواد إلى عالم الرومانسية الحقيقية. وقد أكسبه التزامه الجاد بتقديم الأغاني المكتوبة لأجيال عديدة من العشاق شعبية واسعة بين مختلف فئات الجماهير. وقد أصدر 4 ألبومات بلغت المرتبة الأولى على قوائم مجلة «بيلبورد» الغنائية، وحققت مبيعات بأكثر من 70 مليون أسطوانة في مختلف أنحاء العالم، برغم عدم اتساقه قط مع الاتجاهات الفنية الشعبية المعاصرة في أي مرحلة من حياته المهنية.
يقول بوبليه بكل واقعية، «من الصعب تصنيف ما أفعله، يود الناس ذلك، ولكني حاربته طوال حياتي. أنا أعتبر نفسي مغنياً روحانياً يحب الأغاني الأميركية العظيمة، ولكنه يحب كتابة الأغاني الشعبية. إنه مكان غريب للغاية للعيش فيه».
نشأ شغف بوبليه بالكلاسيكيات منذ طفولته في بورنابي، بريتيش كولومبيا. كان جده، سباكاً، يعزف أغاني الأربعينات والخمسينات، ويشرح تاريخها لبوبليه الصغير، الذي «وقع في عشق ما يعنيه ذلك للجيل». في ذلك الوقت، وصف نفسه بأنه «طفل مهووس» لا يعبأ بمصادقة الفتيات، وقال إن اهتمامه المتزايد بهذه الموسيقى كان وسيلته للإحساس بالتفرد.
وقال: «لم أكن واحداً من أولئك الأشخاص الذين أرادوا ارتداء الملابس القديمة. لقد أثرت الموسيقى في نفسي. وهكذا عرفت، حتى في ذلك العمر، أن هذا كل ما أردته».
عزمه على ممارسة مهنة الغناء بأسلوب خارج عن المألوف، مثل موسيقى «الجاز»، قاده إلى بعض المسارات المهنية الملتفة. وقال إن حفلات الملاهي الليلية كانت «جيدة»، والأكثر تواضعاً كانت رحلات السفن السياحية وعروض مراكز التسوق، والأسوأ من ذلك كله كان البرقيات الغنائية، حيث كان يغني مقابل 20 دولاراً لعيد ميلاد طفلة محظوظة في سلسلة مطاعم «وايت سبوت» الكندية.
تعاقد بوبليه في عام 2000 للغناء في حفل زفاف كريمة براين مولروني، رئيس وزراء كندا السابق، حيث التقى هناك بالمنتج ديفيد فوستر. وفي نهاية المطاف، أقنع فوستر بضمه إلى شركة «وارنر» التابعة له، مع التنبيه بأن بوبليه عليه شخصياً تأمين الميزانية اللازمة لإصدار ألبوم جديد. وكانت النتيجة ألبوم «إل بي مايكل بوبليه» الصادر عام 2003، الذي وضع العديد من الأغاني المنفردة على قوائم مجلة «بيلبورد» لأغاني الشباب المعاصرة، وحصل الألبوم في نهاية المطاف على الأسطوانة البلاتينية.
عندما ذاع صيته، كان بوبليه يقترب من الثلاثين، شاباً بالنسبة إلى العالم، ولكن ليس كذلك في عالم الموسيقى. وفي حين كان بعض المسؤولين التنفيذيين لشركات الأغاني أقل شأناً في سنه، فإن الميزة الوحيدة كانت استعداده الدائم لمواجهة هذه اللحظة بتواضع مناسب، عندما أتت تلك اللحظة أخيراً. وقال: «تأخرت كثيراً عن هذا الحفل، حتى أنني كنت على حقيقتي تماماً». ولقد غرست سنوات المعاناة أخلاقيات العمل التي لا تعرف الكلل، والتي، إذ نسترجع الماضي، تأتي مع بعض المفاضلات. وأضاف: «لقد غفلت عن أي شيء لم يكن يمثل صعوداً لمسيرتي مهنية، فقد أصبحت أعظم موسيقي، وأعظم كاتب أغانٍ، وأعظم فنان ترفيهي. كل ما فعلته كان يتجه نحو هذا الهدف، ولم أتوقف قط عن شم رائحة الورود».
ولكن عندما برز زخمه التجاري بأغنية «لا أحد سواي» عام 2013، قال: «كانت تلك المرة الأولى التي شعرت فيها على الأرجح بالخوف»، وتوقف ليسمح للفكرة بالتلاشي، ثم استطرد: «شعرت بأن ذاتي الكاذبة بدأت تستجدي أقصى ما في وسعي - وبدأت أشك في نفسي ومن أكون وماذا أريد أن أفعل».
في عام 2016، علم أن ابنه الأكبر نوح، البالغ من العمر آنذاك 3 سنوات، كان مصاباً بنوع نادر من سرطان الكبد. قال بوبلي: «أذكر أنني كنت أفكر لأول مرة بأنني أستطيع رؤية كل شيء بوضوح تام. عندها بدأت أملك علاقة أكثر صحة مع هذا الشيء الذي أقوم به - هذا الشخص تصبح عليه عندما تذهب في جولة». (بعد أشهر من العلاج الكيميائي، دخل نوح الصغير في مرحلة خمود المرض).

* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)