ستالين... «دودة الكتب» الذي قمع كتّاب عصره

«مكتبة ستالين» كتاب صدر حديثاً عن جامعة يال الأميركية

لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)
لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)
TT

ستالين... «دودة الكتب» الذي قمع كتّاب عصره

لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)
لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)

يستكشف الأكاديمي البارز، بروفسور جيفري روبرتس، الكتب التي قرأها الديكتاتور الأشهر في القرن العشرين، جوزيف ستالين (1878 - 1953)، وكيف قرأ الكتب التي حوتها مكتبته أو تلك التي استعارها من غيره من الرفاق، وماذا تعلم منها، وذلك بعد أن خاض روبرتس في الأرشيف الروسي، وكانت نتيجة البحث، كتاب صدر حديثاً عن جامعة يال الأميركية، بعنوان «مكتبة ستالين»، كشف فيه عن أن ستالين كان «دودة قراءة»، منذ صباه حتى تسلمه منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي لثلاثة عقود. لكن هل قربه هذا الشغف بقراءة الكتب، من الكتاب أنفسهم واحترم حرية الكلمة؟ هذا ما توفر من معلومات للأكاديمي البريطاني، الذي يعد مرجعاً عالمياً معترفاً به فيما يتعلق بستالين، وبتاريخ السياسة العسكرية والخارجية السوفياتية عموماً.

«مكتبة ستالين» الصادر عن جامعة يال

لعقود بعد وفاته في عام 1953، جعلت المصادر المتقطعة المتاحة للباحثين عن حياة جوزيف ستالين، شخصيته، أشبه باللغز. فهل كان ببساطة، الطاغية الوحشي الذي صوره السكرتير العام اللاحق، نيكيتا خروتشوف، في خطابه السري أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956؟ أم كان متوسط الثقافة والفهم، كما صوره غريمه ليون تروتسكي، في «سيرة ستالين» التي نُشرت بعد أن رتب الديكتاتور السوفياتي لاغتيال خصمه في المكسيك عام 1940؟
من الغريب أن نعرف الآن بعد سبعين سنة تقريباً على وفاته، ومن خلال هذا البحث العميق والجمع المثابر للأدلة من الوثائق، أن ستالين، «كان يؤمن إيماناً راسخاً بالإمكانيات الكبيرة للكلمات»، وقارئاً شرهاً منذ سن مبكرة، يلتهم كلاسيكيات الأدب الأوروبي جنباً إلى جنب مع النصوص القانونية للحركة الاشتراكية. تلقى تعليمه في معهد لاهوتي، لكنه وجد معياره الحقيقي في المكتبات الراديكالية في العاصمة الجورجية تبليسي. إيمان ستالين بقوة الكلمات يعود لسبب بسيط، وهو أن قراءة الكتب غيرت حياته وقادته إلى العمل السري الثوري في روسيا القيصرية.
قاده هذا النهم للكلمة، للقراءة طوال حياته، واضعاً لنفسه معدل قراءة يتراوح بين 200 إلى 500 صفحة يومياً. وكانت الكتب متناثرة حوله في كل مكان، في مكتبه بمقر الحكم في الكرملين، وفي مقر إقامة سكنه، وفي بيت الإجازات على البحر الأسود. وحسب الوثائق عن وفاته بجلطة دماغية، فقد حدثت وهو في مكتبته في 5 مارس (آذار) عام 1953، وسط ركام من الكتب على مكتبه وفوق الطاولات، غالبيتها تحوي تعليقات على هوامشها بخط يده، بأقلام ألوانها بين الأخضر والأزرق والأحمر. وحسب الوثائق، قد ترك حوالي 25 ألف كتاب، متنوعة بشكل مدهش، وقام بالتعليق على العديد منها في هوامش الكتاب أثناء قراءته، أو واضعاً خطوطاً تحت بعض الكلمات والجمل أو حول فقرة معينة، كاشفاً عن أفكاره ومشاعره ومعتقداته الخاصة، خصوصاً أنه لم يكن يسجل آراءه في يوميات ولا أصدر أي كتاب. وبالإضافة لنهمه في حيازة الكتب، التي كان بعضها شراء والآخر إهداءات، كان يستعير أيضاً من آخرين، وقد اشتكى الشاعر السوفياتي، دميان بيدني، من أن ستالين كان يترك على الكتب التي استعارها منه آثار بصماته الملوثة بالدهون.
بينما كانت اللغة الأم لستالين، هي اللغة الجورجية، إلا أن جميع الكتب الموجودة في مكتبته، تقريباً، كانت باللغة الروسية، كتب الغالبية العظمى منها، البلاشفة أو غيرهم من الاشتراكيين. وفي عشرينيات القرن الماضي، ركزت قراءات ستالين، في غالبيتها، على كتابات منافسيه لخلافة لينين في زعامة الحزب، لا سيما، غريغوري زينوفييف، ليف كامينيف، ونيكولاي بوخارين. وقد لقي الثلاثة حتفهم في عمليات التطهير الحزبي، بينما اغتيل ليون تروتسكي في المكسيك عام 1940، لكن كتبهم جميعاً بقيت على رفوف مكتبة ستالين جاهزة للمطالعة.
كان التاريخ من الاهتمامات الدائمة لستالين، خصوصاً التاريخ الروسي، مفتوناً بالمقارنات بين حكمه وحكم بطرس الأكبر (1672 - 1725)، أحد أهم قياصرة روسيا على مستوى القوة والإصلاح، وحكم إيفان الرهيب (أول من توج نفسه قيصراً في روسيا وصاحب الأفعال الوحشية في القرن السادس عشر).
يقول جيفري روبرتس، إن الكتاب الأكثر تميزاً في مجموعة ستالين، هو «تاريخ صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، ألفه مؤرخه المفضل، روبرت فيبر Robert Vipper، المتخصص في التاريخ القديم، الذي كتب أيضاً سيرة ذاتية لإيفان الرهيب.
خارج كتب التاريخ، كرس ستالين وقتاً طويلاً للقراءة عن العلوم واللغويات والفلسفة والاقتصاد السياسي. بعد الحرب العالمية الثانية، تدخل في المناقشات السوفياتية حول علم الوراثة والاقتصاد الاشتراكي والنظرية اللغوية. كان أكثر هذه التدخلات شهرة، دعمه لتروفيم ليسينكو، عالم النبات السوفياتي الذي جادل بأن الوراثة الجينية يمكن أن تتأثر بالعوامل البيئية. ومع ذلك، سخر ستالين بشكل خاص من وجهة نظر ليسينكو، القائلة بأن كل علم له «شخصية صفية»، حيث علق في الهامش: «هاهاها... والرياضيات؟ والداروينية؟»...
قرأ ستالين بطرق متنوعة. بعض الكتب قرأها من الغلاف إلى الغلاف، والبعض الآخر كان يتصفحها فقط. في بعض الأحيان بدأ في قراءة كتاب وفقد الاهتمام به بعد بضع صفحات، أو قفز من المقدمة إلى الخاتمة.
يروي روبرتس، استناداً إلى أبحاثه الواسعة النطاق في الأرشيف الروسي، قصة إنشاء مكتبة ستالين الشخصية وتجزئتها وإحيائها. كانت السمة المركزية للمبنى المنفصل الذي بني لستالين بين 1933 – 1934 عبارة عن مكتبة مساحتها 30 متراً مربعاً، بها أربع خزائن كتب كبيرة، كل منها برفوف عميقة بما يكفي لاستيعاب صفين من الكتب. كانت مجموعة ستالين كبيرة جداً، لدرجة أنه تم تخزين العديد من الكتب في هذا المبنى، ثم يتم إحضار ما يحتاجه منها حسب طلبه.
ولكونه مؤمناً حقيقياً بالآيديولوجية الشيوعية، كان ستالين متعصباً، كره أعداءه (البورجوازية وكبار المزارعين والرأسماليين والإمبرياليين والرجعيين والمعادين للثورة والخونة)، لكنه كره أفكارهم أكثر. وبعد إدانة خروتشوف لستالين في عام 1956، تم التخلي عن خطط الحفاظ على المكتبة في المنزل الريفي، وتفرقت كتبه (التي تضمنت مجلدات عن علم نفس الطفل والرياضة والدين ومرض السفلس الزهري والتنويم المغناطيسي، بالإضافة إلى أعمال أدباء مثل تورغينيف ودوستويفسكي)، فأصبح من الصعب إجراء دراسة شاملة لما كان يستمتع بقراءته.
يقول روبرتس، بأن العديد من الأكاديميين قبله، جابوا بقايا مجموعة ستالين، على أمل إلقاء نظرة على الطبيعة الحقيقية لهذا الديكتاتور، أو العثور على «مفتاح الشخصية التي جعلت حكمه وحشياً للغاية». لم يجد روبرتس أي أدلة، لكنه اقترح، أنه «باتباع الطريقة التي يقرأ بها ستالين الكتب، يمكننا أن نلمح العالم من خلال عينيه. قد لا ندخل في روحه، لكن علينا ارتداء نظارته».
لم يكتف ستالين بشغفه بالقراءة، فقد أصر على ضرورة أن يقرأ أفراد أسرته وزملاؤه، الكتب. فقد أعطى ابنه بالتبني نسخة من رواية «روبنسون كروزو» للبريطاني دانيال ديفو، التي نشرت عام 1719، مع إهداء برغبته «في أن يكبر ليكون بلشفياً واعياً وثابتاً ومقداماً». وأعطى ابنته نبذة مختصرة عن تاريخ الحزب الشيوعي، وأمرها بقراءته. قالت سفيتلانا التي (هربت فيما بعد إلى الغرب): «الكتابة مللتني كثيراً». وادعى سيرجو، نجل المفوض الأمني لستالين، لافرينتي بيريا، أن القائد السوفياتي عندما كان يزور شخصاً من دائرته المقربة، يقترب من مكتبته ويبدأ في تقليب الكتب، للتحقق من علامات تشير إلى أنه تمت قراءتها بالفعل.
وجد ستالين بين كتبه العزاء والغذاء الفكري، لكنه عزاء لم ينقذ أخلاقياته ولا جعله بضمير صاح، فقد قتل منافسيه في الحزب، وأنزل العقاب بالكثير من المواطنين السوفيات. ووفقاً للصحافي والكاتب الروسي، فيتالي شينتالنسكي، في كتابه «The KGB’s Literary Archive» (الأرشيف الأدبي للاستخبارات السوفياتية)، فقد قضى ما يقرب من 1500 كاتب خلال فترة «التطهير العظيم» (1936 - 1938). كانت حملة جوزيف ستالين، لترسيخ سلطته وفرضها على الحزب والأمة؛ وقد تم تصميم عمليات التطهير، أيضاً، لإزالة النفوذ المتبقي لليون تروتسكي والمنافسين السياسيين الآخرين داخل الحزب.
أعجب ستالين بالأدباء والكتاب، وأخبر مؤتمر الكتاب السوفيات عام 1934، أنه بينما كانت هناك حاجة إلى المهندسين المدنيين لبناء الاشتراكية، تطلب البلاد أيضاً «مهندسي الروح البشرية». غير أن تأميم صناعة النشر، كان من أوائل قرارات البلاشفة بعد استيلائهم على السلطة في روسيا عام 1917، وإدراكاً منهم لإمكانية استخدام الكلمات ضد النظام السوفياتي، فقد أنشأوا نظاماً رقابياً متطوراً للسيطرة على إنتاج الصحف والمجلات، ودور النشر والمطابع. ومع ذلك، أعفى ستالين نفسه من هذه الرقابة، واحتوت مكتبته الخاصة على العديد من المجلدات المحظورة التي ينتمي بعضها لأعدائه.
لم يحتفظ ستالين بمذكراته ولم يكتب مذكرات، لذلك أصبحت هذه المخطوطات والهوامش داخلها مستثمرة بأهمية أكبر مما تستحق. يحذر روبرتس من ذلك، مثل وضع ستالين خطوطاً تحت جملة منسوبة إلى جنكيز خان: «موت المهزوم ضروري لراحة بال المنتصرين»، أو افتراض أن الكلمة المبتكرة «المعلم»، على غلاف مسرحية عن إيفان الرهيب، تعني أن ستالين كان ينظر إلى هذا الطاغية على أنه نموذج يحتذى به. روبرتس الذي هو أستاذ التاريخ بكلية كورك الآيرلندية، قال في «مهرجان دبلن للتاريخ»، في 25 سبتمبر (أيلول) 2016، إن المقولة التي نسبت لستالين، ومفادها، أن «حالة وفاة واحدة مأساة... أما المليون فإحصائية»، هي في الحقيقة ملفقة.
لكن الإسناد «يلتقط سمة أساسية لستالين». فقد عاش مثقفاً في عالم من الكلمات والأفكار والنصوص. وفي هذا العالم، كانت هناك وفرة من التجريد، والقليل من التعاطف البشري وصحوة الضمير. كان من السهل عليه اتخاذ قرارات قاسية تؤثر على مصير الملايين، وتبريرها. «لقد ساعدته الكتب في عزله عن الحقائق الإنسانية التي صاحبت سعيه العنيف إلى المدينة الفاضلة».



البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟
TT

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

لطالما كانت البيوت، بأشكالها وأنماطها كافة، ظهير حيواتنا الأوفى، والسجل الرمزي الذي يؤرّخ لحظة بلحظة، لتحولات أعمارنا منذ صرخة الولادة وحتى ذبول الأنفاس. وسواء اتخذت البيوت شكل الكهوف والمغاور زمن الأسلاف البدائيين، أو شكل المنازل المتواضعة والبيوت الطينية البسيطة في الريف الوادع، أو ارتفعت قصوراً باذخة وأبنية شاهقة في المدن المعولمة، فهي تظل بالنسبة لقاطنيها، الحاضنة والكنف وفسحة الطمأنينة والملاذ الآمن.

وقد يكون الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، أحد أكثر الفلاسفة المعاصرين احتفاءً بالبيوت، وتغنياً بما تمثله من وداعة العيش ودفء الوجود الأصلي. وهو ما يبدو على نحو جلي، في كتابه الفريد «جماليات المكان»، حيث يؤالف على طريقته بين الفلسفة والشعر، وبين الحواس والحدوس، راسماً للبيوت صورتها المحمولة على أجنحة التأويل، ومتحدثاً عن دلالات المداخل وغرف الاستقبال والطعام والنوم، ومتنقلاً بين أحشاء الأقبية وفضاء الشرفات. والبيوت عند باشلار ليست الأماكن التي تحتوي على الزمن مكثفاً فحسب، بل هي الدروع الصلبة التي تعصم الإنسان من التفتت، و«تحميه من أهوال الأرض وعواصف السماء». والبشر الأوائل الذين كانوا يكبرون في أماكن مبهمة ومجهولة الأسماء، بدأوا بعد مكابدات طويلة وشاقة «يتعرفون إلى المكان ويستدعونه بحب ويسمونه بيتاً. كما أخذوا يلقون فيه جذورهم ويتوجهون نحوه بالحب، وحين يبتعدون عنه يُفضون بحنينهم إليه، ويكتبون عنه أشعار الشوق وكأنهم عشاق».

وإذا كان الشعراء والكتاب والفنانون قد أولوا البيوت الكثير من الاهتمام، وأفردوا لها عبر العصور الكثير من القصائد واللوحات والأغاني، فليس غريباً أن يتوقف الشعراء العرب ملياً عند ما وفَّرته البيوت لهم من مشاعر السكينة والأمان، وسط الخلاء الصحراوي المفتوح على المجهول، والمثخن بالوحشة والخوف والاقتتال الدائم. وسواء كانت طينية أم حجرية، خياماً أم مضارب، فقد سمى العرب البيوت منازل؛ لأنهم يدركون في قرارتهم أنهم سكانها المؤقتون الذين ينزلون في ضيافتها، ويحطون بين ظهرانيها رحالهم، ويودعونها أجسادهم الآيلة إلى موت محقق. والأرجح أن اتسام تلك الأماكن بالهشاشة، وافتقارها إلى الصلابة والثبات، هو الذي دفع العرب الأقدمين إلى أن يطلقوا اسم البيت، على السطر الشعري المؤلف من شطرين متناظرين، والذي يتكرر بالطريقة نفسها على امتداد القصيدة، كما لو أنهم رأوا في الشعر، الظهير الرمزي الذي يعصمهم من الزوال، ويوفر لهم سبل الالتئام وأسباب الخلود.

ومع أن امرأ القيس قد أعطى الأولوية للحبيب على المنزل، وهو يصعد سلم البكاء الطللي، فإن ذلك لا يقلل أبداً من قيمة المنازل، بقدر ما يؤكد على اعتبارها امتداداً لأجساد ساكنيها ووعاءً لأرواحهم، وخزاناً لذكرياتهم وحنينهم العصي على النفاد. ولهذا السبب حذا الشعراء اللاحقون حذو سابقيهم، فاحتفى أبو تمام بالبيوت التي سكنها بصورة متتابعة، جاعلاً الحنين إلى المنزل الأول، صورة من صور الحنين إلى الحبيب الأول الأول. وهو ما عبر عنه في بيتيه الشهيرين:

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزلِ

ومثلما فعل أبو تمام، هتف المتنبي بحرقة مماثلة:

لك يا منازل في القلوب منازلُ

أقفرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهلُ

ولعلنا في ضوء هذه التوطئة نستطيع أن ندرك السبب الذي يدفع الغزاة والمحتلين، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، إلى جعل البيوت جزءاً لا يتجزأ من غنائم الحرب، حتى إذا تعذر القبض عليها بصورتها السليمة، تم إحراقها وتحويلها رماداً، أو تدميرها وتسويتها بالأرض. ولعل ما فعلته قوى الاحتلال الإسرائيلي ببيوت غزة والضفة ولبنان، هو الشاهد الأبلغ على ما تقَدم. فما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها، بلا إنذار مسبق، أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟ وما الذي يعنيه انقضاض الطائرات المحملة بالقذائف الفتاكة على البشر الآمنين لتسوية أحياء كاملة بالأرض، ودون تمييز بين المقاتلين والبشر العزّل؟ ألا تعبّر النشوة الغامرة التي يعيشها الطيارون المطلون من شاهق على المدن والقرى المكلفين تدميرها، عن نزوع سادي، مماثل تماماً لذلك الذي انتاب نيرون، وهو يحوّل روما التي أحرقها لوحة بصرية ممتعة، أو لذلك الذي حمل في أحشاء طائرته قنبلة هيروشيما، منتشياً بمشهد المدينة التي تحولت خلال لحظات قليلة ركاماً؟ والمؤلم ألا يكون هذا النزوع مقتصراً على أفراد بعينهم، بل تتسع دائرته لتشمل الجماعة الإثنية أو السياسية التي يمثلونها، والتي لا ترضى بأقل من إبادة الآخر ومحوه من الوجود، بذرائع أسطورية ولاهوتية تم اختلاقها لمثل هذه الأهداف؟

إن أكثر ما يُشعر المرء بالصدمة في هذه المحرقة التي تسمى حرباً، أن ذلك الذي أطلق بالأطنان صواريخه وقنابله المتفجرة فوق غزة أو بيروت، متسبباً بانكماش المباني على نفسها كالصفيح، لم يقْدم على ذلك بتأثير نوبة غضب أو خروج عصبي عن السيطرة، بل فعل ذلك عامداً ومدفوعاً بدم الآيديولوجيا البارد، وبحقه المزعوم في إبادة المئات من «الأغيار» حتى لو كان الهدف متعلقاً بواحد أو أكثر من أعدائه المقاتلين، أو مقتصراً في أغلب الحالات على الشبهة المجردة. وللمرء أن يتساءل كيف لذلك الشخص الذي ينتمي إلى أسرة يعيش في كنفها، أو بيت يأنس إلى هدوئه الوادع، أن يعود إلى بيته، أو يعانق بعد ارتكاب مجزرته الدامية، زوجته وأطفاله المتلهفين إلى عودته، دون أن تخزه لسعة الندم، أو يفكر قليلاً بزوجات مماثلات وأطفال مماثلين، كانت لهم هناءات عيش مماثلة، قبل أن ينقلهم بلحظة واحدة إلى خانة العدم.

ولو كان البيت الذي يتهدم، مؤلفاً من حجارته وإسمنته وسقوفه وأراضينه الصغيرة لهان الأمر. لكنه يضم بين جنباته، الحيوات التي كانت تضرب مع المستقبل مواعيد من أحلام خالصة ورجاء متجدد. وهذه البيوت التي لم يعد لها أثر، هي سجل سكانها الحافل بالمشقات والمسرات والأنفاس والدموع ورعشات اللذة أو الخوف، وغيرها من التفاصيل والذكريات التي لا تنضب.

ولعلني لا أجد ما أختتم هذه المقالة أفضل من استعادة قصيدة «البيوت»، التي كنت قد كتبتها في حرب مشابهة.

ما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها بلا إنذار مسبق أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟

البيوت طيورٌ تزقِّمُ أفراخها لوعةً

كلما ابتعدوا عن حديد شبابيكها المائله

والبيوت جسور الحنين التي تصل المهدَ باللحد،

ريشُ المغامرة الأمّ،

طين التكاثرِ،

سرُّ التماثل بين الطبيعة والطبع،

بين الجنازة والقابله

والبيوت سطورٌ

يؤلّفنا بحرها كالقصيدة بيتاً بيتا

لكي نزِن الذكريات بميزانها

كلما انكسر اللحنُ أو تاهت البوصله

والبيوت جذورٌ تعود بسكانها دائماً

نحو نفس المكان الذي فارقوهُ

لتعصمهم شمسها من دوار الأعالي

ومن طرقاتٍ تشرّدهم في كسور المكانْ

والبيوتُ زمانْ

يقسّم دقاتهِ بالتساوي على ساكنيهِ

لكي يسبحوا بين بيتين:

بيت الوجود وبيت العدمْ

وكي يعبروا خلسة بين ما يتداعى وما يلتئمْ

والبيوت رحِمْ

توقنا للإقامة في أرخبيل النعاس،

للتماس مع البحر من دون ماءٍ

لكي نتشاكى حرائقنا الأوليةَ،

أو نتباكى على زمنٍ

لن يعود إلى الأرض ثانيةً

والبيوت فراديسنا الضائعه

تواصَوا إذن بالبيوت،

احملوها كما السلحفاةُ على ظهركمْ

أين كنتمْ، وأنّى حللتمْ

ففي ظلها لن تضلّوا الطريقَ إلى بَرّ أنفسكمْ

لن تملُّوا حجارتها السودَ

مهما نأتْ عن خطاكمْ مسالكها اللولبيةُ،

لن تنحنوا فوق مهدٍ أقلّ أذىً

من قناطرها المهمله

ولن تجدوا في صقيع شتاءاتكمْ

ما يوازي الركون إلى صخرة العائله

وحرير السكوتْ

تواصوا إذن بالبيوت

استديروا ولو مرةً نحوها

ثم حثُّوا الخطى

نحو بيت الحياةِ الذي لا يموتْ