ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

التكنوقراطي المنفتح و«صلة مجلس النواب مع الخارج»

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني
TT

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

يغادر النائب والوزير السابق ياسين جابر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان اللبناني، ورئيس لجنة تطبيق القوانين فيه، الندوة البرلمانية بإرادته.
الاقتصادي والتكنوقراطي المنفتح يطوي صفحة امتدت لـ27 سنة في العمل الحكومي والنيابي، كرسته «عراباً» لتشريع «القوانين الإصلاحية»، و«صلة الوصل» بين لبنان والخارج، مرة عبر لجان الصداقة الأوروبية والبريطانية واليابانية، ومرة أخرى عبر تجمع نيابي لـ«ترميم» علاقات لبنان مع الكونغرس الأميركي. تجربتان في أبرز ملفين دقيقين على عاتق البرلمان، الملف الخارجي والملف المالي والاقتصادي، ويغادرهما جابر الآن محبطاً لعلمه بأن إرادة الإصلاح ليست فاعلة، وتجنباً لتكرار الانتقادات التي طالته، مع آخرين، في حراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
في العام 1995 تلقّى ياسين جابر، رجل الأعمال اللبناني المقيم في لندن اتصالات من لبنان عرضت عليه المشاركة في حكومة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، ورُشّح، بالذات، لأن يحمل فيها حقيبة «الاقتصاد والتجارة». عند تلك النقطة اتخذ جابر قراراً بالعودة إلى بيروت التي هجرها في العام 1979 إلى بريطانيا، وافتتح أعماله فيها.
كانت بيروت في ذلك الوقت تشهد صعوداً مدوّياً على صعيد إعادة الإعمار والإنماء. ولقد أغرى ذلك الصعود، كثيرين من اللبنانيين المهاجرين ليكونوا شركاء في هذه النهضة. وكان جابر واحداً منهم، كيف لا وهو يمثل جزءاً من مجتمع رجال الأعمال اللبنانيين الذين انتقلوا إلى العاصمة البريطانية إبان فترة الحرب، حيث أسهم خلال إقامته فيها بأواخر الثمانينات بتأسيس فرع «جمعية خريجي الجامعة الأميركية في بيروت» في لندن، وترأس الفرع لثلاث سنوات. غير أن معظم أولئك عادوا بعد نهاية الحرب من أجل للمشاركة في مسيرة النهوض السياسي والاقتصادي لبلد عاين الخراب والدمار، و«حاز فرصة» للنهوض بعد العام 1992.
مثّلت تلك الحقيبة التي حملها ياسين جابر في الحكومة، مستهل مسيرته في العمل السياسي، أتبعها بالترشح إلى الانتخابات عن المقعد الشيعي في النبطية (جنوب لبنان) وبات عضواً في كتلة «التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري. إلا أن هذا الدخول إلى البرلمان، لم يحجب الهدف الأساسي من دعوته إلى العمل السياسي، وهو المشاركة في حكومتين ترأسهما الحريري وزيراً للاقتصاد. إذ تلاقت دراسته كخريج في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركية في بيروت، وخبرته الواسعة في قطاع المال والأعمال في بريطانيا على مدى أكثر من 15 سنة، مع الرؤية السياسية للنهوض بلبنان في تلك الفترة. واستقر على رأس الوزارة حتى خروج الحريري من الحكومة للمرة الأولى في العام 1998 في عهد الرئيس الأسبق إميل لحود. وتحوّل جابر بعد ذلك إلى التفرغ للعمل البرلماني.

مشرّع لقوانين إصلاحية
وعلى الصعيد البرلماني، بدأ ياسين جابر مسيرته في لجنة المال والموازنة النيابية التي بقي فيها لمدة 24 سنة. ومنذ ذلك الوقت، يقول جابر «كنتُ جزءاً من النشاط التشريعي الهادف للعبور إلى الإصلاح المالي والاقتصادي». يصفه عارفوه بأنه «مهندس القوانين الإصلاحية» التي بدأت تتبلور بعد مؤتمر «باريس1»، حيث أصرّ المجتمع الدولي على إقرار القوانين الإصلاحية، وتنفيذها، وليس أولها إقرار «الهيئات الناظمة» لقطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني ولاحقاً النفط، كما أقر البرلمان في تلك الفترة قوانين إصلاحية أخرى مثل السوق المفتوحة لإلغاء الوكالات الحصرية.
جابر قال لـ«الشرق الأوسط» متذكراً وشارحاً «في تلك الفترة، كان الوضع صعباً. إذ أقيم مؤتمر (باريس1) لمساعدة لبنان بدفع من الرئيس الحريري، وعلى أثره، طالب المجتمع الدولي لبنان بإقرار القوانين الإصلاحية التي بدأنا بتشريعها في العام 2002. أقررنا حزمة القوانين الإصلاحية المطلوبة، لكن المؤسف أنه بعد عشرين سنة، لم تطبق هذه القوانين». ومن ثم، استتبعت بحزمة جديدة على مدار السنوات، منعها «قانون الأسواق المالية الحديثة» الذي أقرّ في العام 2011، وأتاح للقطاع الخاص العمل بالبورصات بمعزل عن الدولة، وتلاه التمهيد لقانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وصولاً في العام 2021 إلى إقرار «قانون الشراء العام» الذي «لم يكن أحد ليصدق بأنه يمكن أن يُقرّ». ولكن، بالفعل، جرى إقراره في العام الماضي، وكان يفترض أن يبدأ العمل به في يوليو (تموز) الفائت، إلا أنه حتى الآن لم يدخل حيّز التنفيذ. وهنا يُشار إلى أن جابر كان قد تقدم باقتراح القانون إلى المجلس النيابي، وأُعدّ هذا القانون في «معهد باسل فليحان» بالتعاون مع «البنك الدولي» و«الاتحاد الأوروبي» و«الوكالة الفرنسية للتنمية» و«وستمنستر فاوندايشن».

قوانين لم تُنفّذ
هذه المسيرة في التشريع، والجهود في إقرار القوانين التي وضع جابر لبنة قسماً منها، لم تثمر أو تنفذ، شأنها شأن أكثر من 72 قانوناً جرى إقرارها في البرلمان على مدى السنوات السابقة ولم تُنفذ رغم الدفع من قبله، وهو رئيس لجنة تطبيق القوانين.
هذا الواقع يختصره جابر بالقول، إن المؤسف والدافع لليأس في لبنان أنه «حتى اليوم ليس هناك قرار سياسي بالإصلاح». ثم يوضح «في ملف الكهرباء، لم يتخذ أي قرار بالإصلاح، رغم صراخنا منذ ثماني سنوات عبر الإعلام وفي داخل المؤسسات... كذلك حين تم إقرار سلسلة الرتب الرواتب التي عارضناها، بالنظر إلى أنه يستحيل إقرار سلسلة رواتب جديدة في ظل عجز في الموازنة... حذّرنا ورفعنا الصوت، لكن لا رأي لمن لا يُطاع».

الاقتصاد والشؤون الخارجية
نشاط جابر في المجلس النيابي تركز في أهم محورين: الشأن الخارجي، والمحور الاقتصادي – المالي. وتجربة جابر وزيراً للاقتصاد في عقد التسعينات، ولاحقاً وزيراً للأشغال العام والنقل في العام 2004، لم تقتصر على رفده بخبرة تشريعية في إعداد القوانين الإصلاحية. فهذه التجربة، إلى جانب مرافقته لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في أسفاره الخارجية لإنقاذ الوضع اللبناني، مهّدت له لتشكيل مروَحة واسعة من العلاقات الخارجية، وفتحت له أبواب التعرف إلى المجتمع الدولي، استفاد منها في وقت لاحق حين زادت الضغوط الخارجية السياسية على لبنان.
أضف إلى ما سبق، أنه خلال تجربة جابر النيابية، كلفه رئيس مجلس النواب نبيه برّي - الذي هو أيضاً رئيس كتلته البرلمانية - ملفات خارجية كثيرة، بينها «مجموعة الصداقة مع لبنان في مجلسي العموم واللوردات البريطانيين»، كما ترأس «لجنة الصداقة اللبنانية - الأوروبية»، إلى جانب رئاسة «لجنة الصداقة البرلمانية اللبنانية - اليابانية» لنحو عشرين سنة. وهذا بجانب تمثيله البرلمان اللبناني في الجمعية اللبنانية - اليورومتوسطية حتى العام 2011.
بعدها، في فترة الأزمة السورية، توترت العلاقة بين لبنان والكونغرس الأميركي، على ضوء تجاذبات في السياسة الخارجية. وكان الاتجاه الأساسي لدى لبنان شرح الموقف اللبناني وترميم العلاقات مع واشنطن على مختلف المستويات. عندها، وخلال العام 2016، طلب رئيس المجلس النيابي من جابر ومجموعة أخرى من الزملاء تشكيل وفد كُلّف تصحيح تلك العلاقات، وإنشاء تجمع يترأسه جابر نظم رحلات متتالية إلى واشنطن، حيث عقدت لقاءات مع ممثلين في الكونغرس والمؤسسات الدولية... بينها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لشرح الموقف اللبناني وإعادة أحياء العلاقات.
يقول جابر، الذي بات منذ العام 2018، رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، إن اختياره من قِبل برّي لهذه المهام، جاء على خلفية تجربته مع الحريري، وقبلها لوجوده لفترة غير قصيرة في بريطانيا، حيث اكتسب قدرات التواصل مع الخارج، ومهارات الحوار والمباحثات. وفي هذا السياق، يشدد على أنه كان يمثل كتلة «التنمية والتحرير» والمجلس النيابي، وانخرط في هذا النشاط بتكليف ورعاية الرئيس نبيه برّي. ثم يوضح «دخلنا إلى الكونغرس الأميركي وطرحنا وجهة نظر لبنان بالظروف السياسية المحلية والإقليمية، وبالفعل أعطى ذلك الحراك مفعولاً إيجابياً لفترة».

إرادة الخروج... وإرادة سياسية
اليوم، يترك ياسين جابر البرلمان بإرادته. لقد قرر العزوف عن الترشح للانتخابات النيابية المقبلة، من غير أن يترك العمل السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يمارسه منذ سنوات طويلة، عبر مركز ثقافي افتتحه في مدينته النبطية، وغيره من المؤسسات.
أكثر من هذا، لم يخرج من البرلمان بسبب خلافات. بل اتخذ قراره الشخصي، على ضوء شعوره بالحسرة. وهو هنا يسأل بضيق «هل يُعقل أن هناك عشرات القوانين التي حفرناها بالصخر وكافحنا من أجل إقرارها، لم تصدر المراسيم التنفيذية لها، وهذا مع أن بعضها موجود منذ عشرين سنة، مثل إقرار الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء؟».
بعدها، يعود جابر بالذاكرة إلى الوراء، ليتحدث عن تجربة لبنان اليوم. يقول مسترجعاً شريط الأيام والسنين «حين وصلت إلى لندن في العام 1979، كانت بريطانيا تعيش حالة اقتصادية صعبة استلزمت منها توقيع برنامج مع (صندوق النقد الدولي)، مثلنا تماماً في هذا الوقت. يومذاك اتخذ الساسة البريطانيون قراراً بالإصلاح، وأجريت انتخابات عامة فاز فيها حزب المحافظين، وجاءت مارغريت ثاتشر إلى رئاسة الحكومة البريطانية... ونهضت بالبلاد حتى باتت واحدة من أكبر الاقتصاديات في القارة الأوروبية». ويتابع «... هذه التجربة بعثت فينا الأمل في ذلك الوقت، ولا تزال؛ لأنه متى توافرت الإرادة السياسية، سنكون قادرين على التغيير. لكن للأسف، هذه الإرادة غير موجودة. مشكلتنا في غياب الإرادة لا في النظام».

تضحية وحسرة
حسرة جابر اليوم، تنطلق من كونه مارس العمل السياسي 27 سنة، أهمل خلالها أعماله ونشاطاته الخاصة لصالح الشأن العام... ومع هذا، بعد 27 سنة «تعرّضت للانتقادات في 17 أكتوبر 2019، وطالتنا الشتائم مع الآخرين، وهذا أمر يدعو للأسف». ويستطرد فيقول «حين قررنا نحن خريجي الجامعة الأميركية العودة إلى لبنان والانخراط في العمل السياسي، كان يدفعنا الأمل الكبير. من جهتي، ضحيت من أجل الإصلاح والنهوض في البلد، وكنت مشرّعاً أعمل على هذا الصعيد. إلا أن ما يحزنني أننا وصلنا إلى طريق مسدودة، ولم نتمكن من تخليص لبنان من أزماته. لقد كانت أحلامنا كبيرة، لكنها اصطدمت بالكثير من العوامل التي حالت دون ريادة لبنان».
جابر كان قد أكد في بيان عزوفه عن الترشح للانتخابات المقبلة المقرر يوم 15 مايو (أيار) المقبل، أن الخروج من العمل النيابي «لا يعني الخروج من الحياة السياسية والعمل الاجتماعي»، متعهداً الاستمرار في خدمة الناس وخدمة لبنان. وخلال اللقاء مع «الشرق الأوسط» جدد القول، إنه موجود في العمل الاجتماعي والسياسي، خارج الندوة البرلمانية «لأننا جزء من لبنان»، وشدد على أن البلاد رغم الأزمة «ستكون قادرة على تحقيق إنجازات إذا ما توافرت الإرادة؛ فالإصلاح ممكن وغير مستحيل، لكن لا يبدو حتى الآن أن هناك رؤية واضحة للخروج من الأزمة بعد وصولنا إلى الانهيار». واختتم متسائلاً «هل يُعقل أن قانون الكابيتال كونترول لم يُقرّ حتى الآن بعد سنتين ونصف السنة على تفجّر الأزمة؟... بل، ولا يبدو أن هناك إرادة لتحقيق إنجازات... للأسف».

ياسين جابر... بطاقة شخصية
< يتحدّر من عائلة شيعية تعد إحدى أكبر عائلات مدينة النبطية، في جنوب لبنان
< ولد في مدينة لاغوس، العاصمة السابقة لنيجيريا، يوم 15 يناير (كانون الثاني) من عام 1951م
< والده رجل الأعمال المغترب في أفريقيا كامل جابر
< أنهى دراسته الثانوية في مدرسة الإنترناشونال كوليدج (الآي سي) في بيروت
< تخرَج في الجامعة الأميركية ببيروت، حاملاً درجة بكالوريوس آداب في الاقتصاد
< متزوّج من وفاء محمد العلي، وأب لأربعة أولاد هم: كامل وسارة وتمارا ونائل



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.