ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

التكنوقراطي المنفتح و«صلة مجلس النواب مع الخارج»

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني
TT

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

يغادر النائب والوزير السابق ياسين جابر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان اللبناني، ورئيس لجنة تطبيق القوانين فيه، الندوة البرلمانية بإرادته.
الاقتصادي والتكنوقراطي المنفتح يطوي صفحة امتدت لـ27 سنة في العمل الحكومي والنيابي، كرسته «عراباً» لتشريع «القوانين الإصلاحية»، و«صلة الوصل» بين لبنان والخارج، مرة عبر لجان الصداقة الأوروبية والبريطانية واليابانية، ومرة أخرى عبر تجمع نيابي لـ«ترميم» علاقات لبنان مع الكونغرس الأميركي. تجربتان في أبرز ملفين دقيقين على عاتق البرلمان، الملف الخارجي والملف المالي والاقتصادي، ويغادرهما جابر الآن محبطاً لعلمه بأن إرادة الإصلاح ليست فاعلة، وتجنباً لتكرار الانتقادات التي طالته، مع آخرين، في حراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
في العام 1995 تلقّى ياسين جابر، رجل الأعمال اللبناني المقيم في لندن اتصالات من لبنان عرضت عليه المشاركة في حكومة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، ورُشّح، بالذات، لأن يحمل فيها حقيبة «الاقتصاد والتجارة». عند تلك النقطة اتخذ جابر قراراً بالعودة إلى بيروت التي هجرها في العام 1979 إلى بريطانيا، وافتتح أعماله فيها.
كانت بيروت في ذلك الوقت تشهد صعوداً مدوّياً على صعيد إعادة الإعمار والإنماء. ولقد أغرى ذلك الصعود، كثيرين من اللبنانيين المهاجرين ليكونوا شركاء في هذه النهضة. وكان جابر واحداً منهم، كيف لا وهو يمثل جزءاً من مجتمع رجال الأعمال اللبنانيين الذين انتقلوا إلى العاصمة البريطانية إبان فترة الحرب، حيث أسهم خلال إقامته فيها بأواخر الثمانينات بتأسيس فرع «جمعية خريجي الجامعة الأميركية في بيروت» في لندن، وترأس الفرع لثلاث سنوات. غير أن معظم أولئك عادوا بعد نهاية الحرب من أجل للمشاركة في مسيرة النهوض السياسي والاقتصادي لبلد عاين الخراب والدمار، و«حاز فرصة» للنهوض بعد العام 1992.
مثّلت تلك الحقيبة التي حملها ياسين جابر في الحكومة، مستهل مسيرته في العمل السياسي، أتبعها بالترشح إلى الانتخابات عن المقعد الشيعي في النبطية (جنوب لبنان) وبات عضواً في كتلة «التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري. إلا أن هذا الدخول إلى البرلمان، لم يحجب الهدف الأساسي من دعوته إلى العمل السياسي، وهو المشاركة في حكومتين ترأسهما الحريري وزيراً للاقتصاد. إذ تلاقت دراسته كخريج في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركية في بيروت، وخبرته الواسعة في قطاع المال والأعمال في بريطانيا على مدى أكثر من 15 سنة، مع الرؤية السياسية للنهوض بلبنان في تلك الفترة. واستقر على رأس الوزارة حتى خروج الحريري من الحكومة للمرة الأولى في العام 1998 في عهد الرئيس الأسبق إميل لحود. وتحوّل جابر بعد ذلك إلى التفرغ للعمل البرلماني.

مشرّع لقوانين إصلاحية
وعلى الصعيد البرلماني، بدأ ياسين جابر مسيرته في لجنة المال والموازنة النيابية التي بقي فيها لمدة 24 سنة. ومنذ ذلك الوقت، يقول جابر «كنتُ جزءاً من النشاط التشريعي الهادف للعبور إلى الإصلاح المالي والاقتصادي». يصفه عارفوه بأنه «مهندس القوانين الإصلاحية» التي بدأت تتبلور بعد مؤتمر «باريس1»، حيث أصرّ المجتمع الدولي على إقرار القوانين الإصلاحية، وتنفيذها، وليس أولها إقرار «الهيئات الناظمة» لقطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني ولاحقاً النفط، كما أقر البرلمان في تلك الفترة قوانين إصلاحية أخرى مثل السوق المفتوحة لإلغاء الوكالات الحصرية.
جابر قال لـ«الشرق الأوسط» متذكراً وشارحاً «في تلك الفترة، كان الوضع صعباً. إذ أقيم مؤتمر (باريس1) لمساعدة لبنان بدفع من الرئيس الحريري، وعلى أثره، طالب المجتمع الدولي لبنان بإقرار القوانين الإصلاحية التي بدأنا بتشريعها في العام 2002. أقررنا حزمة القوانين الإصلاحية المطلوبة، لكن المؤسف أنه بعد عشرين سنة، لم تطبق هذه القوانين». ومن ثم، استتبعت بحزمة جديدة على مدار السنوات، منعها «قانون الأسواق المالية الحديثة» الذي أقرّ في العام 2011، وأتاح للقطاع الخاص العمل بالبورصات بمعزل عن الدولة، وتلاه التمهيد لقانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وصولاً في العام 2021 إلى إقرار «قانون الشراء العام» الذي «لم يكن أحد ليصدق بأنه يمكن أن يُقرّ». ولكن، بالفعل، جرى إقراره في العام الماضي، وكان يفترض أن يبدأ العمل به في يوليو (تموز) الفائت، إلا أنه حتى الآن لم يدخل حيّز التنفيذ. وهنا يُشار إلى أن جابر كان قد تقدم باقتراح القانون إلى المجلس النيابي، وأُعدّ هذا القانون في «معهد باسل فليحان» بالتعاون مع «البنك الدولي» و«الاتحاد الأوروبي» و«الوكالة الفرنسية للتنمية» و«وستمنستر فاوندايشن».

قوانين لم تُنفّذ
هذه المسيرة في التشريع، والجهود في إقرار القوانين التي وضع جابر لبنة قسماً منها، لم تثمر أو تنفذ، شأنها شأن أكثر من 72 قانوناً جرى إقرارها في البرلمان على مدى السنوات السابقة ولم تُنفذ رغم الدفع من قبله، وهو رئيس لجنة تطبيق القوانين.
هذا الواقع يختصره جابر بالقول، إن المؤسف والدافع لليأس في لبنان أنه «حتى اليوم ليس هناك قرار سياسي بالإصلاح». ثم يوضح «في ملف الكهرباء، لم يتخذ أي قرار بالإصلاح، رغم صراخنا منذ ثماني سنوات عبر الإعلام وفي داخل المؤسسات... كذلك حين تم إقرار سلسلة الرتب الرواتب التي عارضناها، بالنظر إلى أنه يستحيل إقرار سلسلة رواتب جديدة في ظل عجز في الموازنة... حذّرنا ورفعنا الصوت، لكن لا رأي لمن لا يُطاع».

الاقتصاد والشؤون الخارجية
نشاط جابر في المجلس النيابي تركز في أهم محورين: الشأن الخارجي، والمحور الاقتصادي – المالي. وتجربة جابر وزيراً للاقتصاد في عقد التسعينات، ولاحقاً وزيراً للأشغال العام والنقل في العام 2004، لم تقتصر على رفده بخبرة تشريعية في إعداد القوانين الإصلاحية. فهذه التجربة، إلى جانب مرافقته لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في أسفاره الخارجية لإنقاذ الوضع اللبناني، مهّدت له لتشكيل مروَحة واسعة من العلاقات الخارجية، وفتحت له أبواب التعرف إلى المجتمع الدولي، استفاد منها في وقت لاحق حين زادت الضغوط الخارجية السياسية على لبنان.
أضف إلى ما سبق، أنه خلال تجربة جابر النيابية، كلفه رئيس مجلس النواب نبيه برّي - الذي هو أيضاً رئيس كتلته البرلمانية - ملفات خارجية كثيرة، بينها «مجموعة الصداقة مع لبنان في مجلسي العموم واللوردات البريطانيين»، كما ترأس «لجنة الصداقة اللبنانية - الأوروبية»، إلى جانب رئاسة «لجنة الصداقة البرلمانية اللبنانية - اليابانية» لنحو عشرين سنة. وهذا بجانب تمثيله البرلمان اللبناني في الجمعية اللبنانية - اليورومتوسطية حتى العام 2011.
بعدها، في فترة الأزمة السورية، توترت العلاقة بين لبنان والكونغرس الأميركي، على ضوء تجاذبات في السياسة الخارجية. وكان الاتجاه الأساسي لدى لبنان شرح الموقف اللبناني وترميم العلاقات مع واشنطن على مختلف المستويات. عندها، وخلال العام 2016، طلب رئيس المجلس النيابي من جابر ومجموعة أخرى من الزملاء تشكيل وفد كُلّف تصحيح تلك العلاقات، وإنشاء تجمع يترأسه جابر نظم رحلات متتالية إلى واشنطن، حيث عقدت لقاءات مع ممثلين في الكونغرس والمؤسسات الدولية... بينها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لشرح الموقف اللبناني وإعادة أحياء العلاقات.
يقول جابر، الذي بات منذ العام 2018، رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، إن اختياره من قِبل برّي لهذه المهام، جاء على خلفية تجربته مع الحريري، وقبلها لوجوده لفترة غير قصيرة في بريطانيا، حيث اكتسب قدرات التواصل مع الخارج، ومهارات الحوار والمباحثات. وفي هذا السياق، يشدد على أنه كان يمثل كتلة «التنمية والتحرير» والمجلس النيابي، وانخرط في هذا النشاط بتكليف ورعاية الرئيس نبيه برّي. ثم يوضح «دخلنا إلى الكونغرس الأميركي وطرحنا وجهة نظر لبنان بالظروف السياسية المحلية والإقليمية، وبالفعل أعطى ذلك الحراك مفعولاً إيجابياً لفترة».

إرادة الخروج... وإرادة سياسية
اليوم، يترك ياسين جابر البرلمان بإرادته. لقد قرر العزوف عن الترشح للانتخابات النيابية المقبلة، من غير أن يترك العمل السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يمارسه منذ سنوات طويلة، عبر مركز ثقافي افتتحه في مدينته النبطية، وغيره من المؤسسات.
أكثر من هذا، لم يخرج من البرلمان بسبب خلافات. بل اتخذ قراره الشخصي، على ضوء شعوره بالحسرة. وهو هنا يسأل بضيق «هل يُعقل أن هناك عشرات القوانين التي حفرناها بالصخر وكافحنا من أجل إقرارها، لم تصدر المراسيم التنفيذية لها، وهذا مع أن بعضها موجود منذ عشرين سنة، مثل إقرار الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء؟».
بعدها، يعود جابر بالذاكرة إلى الوراء، ليتحدث عن تجربة لبنان اليوم. يقول مسترجعاً شريط الأيام والسنين «حين وصلت إلى لندن في العام 1979، كانت بريطانيا تعيش حالة اقتصادية صعبة استلزمت منها توقيع برنامج مع (صندوق النقد الدولي)، مثلنا تماماً في هذا الوقت. يومذاك اتخذ الساسة البريطانيون قراراً بالإصلاح، وأجريت انتخابات عامة فاز فيها حزب المحافظين، وجاءت مارغريت ثاتشر إلى رئاسة الحكومة البريطانية... ونهضت بالبلاد حتى باتت واحدة من أكبر الاقتصاديات في القارة الأوروبية». ويتابع «... هذه التجربة بعثت فينا الأمل في ذلك الوقت، ولا تزال؛ لأنه متى توافرت الإرادة السياسية، سنكون قادرين على التغيير. لكن للأسف، هذه الإرادة غير موجودة. مشكلتنا في غياب الإرادة لا في النظام».

تضحية وحسرة
حسرة جابر اليوم، تنطلق من كونه مارس العمل السياسي 27 سنة، أهمل خلالها أعماله ونشاطاته الخاصة لصالح الشأن العام... ومع هذا، بعد 27 سنة «تعرّضت للانتقادات في 17 أكتوبر 2019، وطالتنا الشتائم مع الآخرين، وهذا أمر يدعو للأسف». ويستطرد فيقول «حين قررنا نحن خريجي الجامعة الأميركية العودة إلى لبنان والانخراط في العمل السياسي، كان يدفعنا الأمل الكبير. من جهتي، ضحيت من أجل الإصلاح والنهوض في البلد، وكنت مشرّعاً أعمل على هذا الصعيد. إلا أن ما يحزنني أننا وصلنا إلى طريق مسدودة، ولم نتمكن من تخليص لبنان من أزماته. لقد كانت أحلامنا كبيرة، لكنها اصطدمت بالكثير من العوامل التي حالت دون ريادة لبنان».
جابر كان قد أكد في بيان عزوفه عن الترشح للانتخابات المقبلة المقرر يوم 15 مايو (أيار) المقبل، أن الخروج من العمل النيابي «لا يعني الخروج من الحياة السياسية والعمل الاجتماعي»، متعهداً الاستمرار في خدمة الناس وخدمة لبنان. وخلال اللقاء مع «الشرق الأوسط» جدد القول، إنه موجود في العمل الاجتماعي والسياسي، خارج الندوة البرلمانية «لأننا جزء من لبنان»، وشدد على أن البلاد رغم الأزمة «ستكون قادرة على تحقيق إنجازات إذا ما توافرت الإرادة؛ فالإصلاح ممكن وغير مستحيل، لكن لا يبدو حتى الآن أن هناك رؤية واضحة للخروج من الأزمة بعد وصولنا إلى الانهيار». واختتم متسائلاً «هل يُعقل أن قانون الكابيتال كونترول لم يُقرّ حتى الآن بعد سنتين ونصف السنة على تفجّر الأزمة؟... بل، ولا يبدو أن هناك إرادة لتحقيق إنجازات... للأسف».

ياسين جابر... بطاقة شخصية
< يتحدّر من عائلة شيعية تعد إحدى أكبر عائلات مدينة النبطية، في جنوب لبنان
< ولد في مدينة لاغوس، العاصمة السابقة لنيجيريا، يوم 15 يناير (كانون الثاني) من عام 1951م
< والده رجل الأعمال المغترب في أفريقيا كامل جابر
< أنهى دراسته الثانوية في مدرسة الإنترناشونال كوليدج (الآي سي) في بيروت
< تخرَج في الجامعة الأميركية ببيروت، حاملاً درجة بكالوريوس آداب في الاقتصاد
< متزوّج من وفاء محمد العلي، وأب لأربعة أولاد هم: كامل وسارة وتمارا ونائل



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.