المصارف اللبنانية تهدد بالإقفال رداً على نزاعها مع القضاء

توقيف شقيق حاكم «المركزي» وحجز ممتلكات مصرف سادس

مبنى «قصر العدل» في بعبدا الذي أوقف فيه رجا سلامة  (رويترز)
مبنى «قصر العدل» في بعبدا الذي أوقف فيه رجا سلامة (رويترز)
TT

المصارف اللبنانية تهدد بالإقفال رداً على نزاعها مع القضاء

مبنى «قصر العدل» في بعبدا الذي أوقف فيه رجا سلامة  (رويترز)
مبنى «قصر العدل» في بعبدا الذي أوقف فيه رجا سلامة (رويترز)

صعّدت النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون إجراءاتها القضائية بحق مصارف لبنانية ومصرفيين، طالت رجا سلامة، شقيق حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، وحجزت على ممتلكات مصرف سادس، ما يؤشر إلى تنامي النزاع المصرفي - القضائي، واختلاط المعايير السياسية والقانونية في الحملة الأخيرة التي يقول مصرفيون إنها «لا تخلو من تسييس».
ويمثل هذا التصعيد، ذروة المواجهة بين القضاء والجهاز المصرفي، وتحول إلى أزمة جديدة وسط تلويح المصارف بالتصعيد رداً على قرارات الحجز على ممتلكات بعض المصارف، وتتخذ القرار اليوم بخطواتها المقبلة في اجتماع تعقده بعد الظهر، من غير أن تستبعد مصادرها إقفال المصارف في الأسبوع المقبل، في وقت فشلت تدخلات سياسية لتهدئة الأزمة وإعادة تصويب مساراتها «بعيداً عن الشعبوية»، حسب ما قالت مصادر مصرفية.
واتخذت القاضية عون، القريبة من عهد الرئيس اللبناني ميشال عون و«التيار الوطني الحر» أمس، قرارين، أولهما تمثل في إصدارها قراراً بتوقيف رجا سلامة، فيما تمثل الآخر بوضع إشارة منع تصرف على عقارات وسيارات وأسهم وحصص بنك «الاعتماد المصرفي».
وتتهم القاضية عون رجا سلامة بتقاضي عمولات على سندات الدين الرسمية التي كانت تصدرها وزارة المالية بالعملة الصعبة «اليوروبوندز»، لقاء تسويق تلك السندات لدى المصارف والدائنين الخارجيين، وكانت تحصل الشركة التي يمتلكها رجا سلامة على عمولات تتراوح بين 0.25 و0.50 بالألف عمولة على السندات، علماً بأن شركته كانت واحدة من شركات أخرى تسوق هذه السندات، ولم يتم الادعاء على أي من الشركات الأخرى.
وقال مصدر قضائي إن عون أوقفت رجا سلامة، «بعد استجوابه لثلاث ساعات بحضور وكيله القانوني». وأحالته إلى قاضي التحقيق، وفق المصدر، للتحقيق «في شبهات تتعلق بجرائم تبييض أموال واختلاس وإثراء غير مشروع وتهريب أموال طائلة إلى الخارج»، وهي الشبهات نفسها التي تلاحق فيها عون حاكم المصرف المركزي رياض سلامة. وقالت مصادر مصرفية لـ«الشرق الأوسط» إن قضية رجا سلامة «تعكس المواجهة بين حاكم المصرف المركزي والتيار الوطني الحر بصرف النظر عن القضية»، داعية إلى الفصل بين «المسار السياسي والمسار القضائي»، قائلة إن رمزية استدعائه أنه شقيق الحاكم. وتستند المصادر إلى هذه القراءة إلى مؤشرين، أولهما تلميح سلامة إلى أن القرارات القضائية اللبنانية بحقه لم تخلُ من سياق سياسي، وثانيهما أن أياً من الشركات الأخرى لم يتم الادعاء عليها أو استجوابها.
أما القرار الثاني الذي اتخذته القاضية عون أمس، فيتمثل في إصدار قرار «بوضع إشارة منع تصرف على عقارات وسيارات وأسهم وحصص بنك الاعتماد المصرفي».
وتنضم هذه القضية إلى قضية المصارف اللبنانية الخمسة التي أصدرت عون قبل أيام قراراً بمنع تصرف عدد من أصحابها بممتلكاتهم بناء على دعوى قضائية تقدم بها أحد المحامين، وهي مصارف «عودة» و«بلوم» و«سوسيتيه جنرال» و«البحر المتوسط» و«بنك بيروت».
وتقول المصارف إن هناك «شبهة سياسية» وراء القرارات التي اتخذتها القاضية عون، وقالت مصادرها إن هناك «استعراضات شعبوية» تترافق مع الاستدعاءات، مع أن المستدعين هم «شخصيات عامة». وقالت: «يُلاحظ أن هناك خطاً سياسياً يعلو على الخط القضائي ويرافقه ويتولاه ناشطون ومحامون مقربون من فريق سياسي يفضحون وقائع في التحقيق»؛ في إشارة إلى نشر شخصيات قريبة من «التيار الوطني الحر» للأرقام المتصلة بالمبالغ المالية محل التحقيق.
وتستند التهم إلى أن المصارف قامت بسداد قروض بالدولار تلقتها من مصرف لبنان المركزي في خريف عام 2019، من خلال تحويلات من حساباتها لدى «المركزي» لتحقق استفادة من فارق السعر السوقي للدولار النقدي مقابل السعر المتداول لدولارات الشيكات والتحويلات من الودائع وتوظيفات الأموال أو الرساميل الخاصة، مما يشي بشبهة التلاعب والإثراء غير المشروع. في المقابل، يرد مسؤولو البنوك الذين يتم الاستماع إليهم، بأن عمليات الإقراض من قبل البنك المركزي جرت وتجري ضمن سياق تعاميم صادرة عنه.
ومع تفاقم الأزمة، تهدد المصارف بالتصعيد، ومن ضمن خياراتها إقفال أبوابها. وتعقد جمعية المصارف بعد ظهر اليوم اجتماعاً تبحث فيه خياراتها، بموازاة تحرك سياسي. وقالت المصادر المصرفية إن «مراجع سياسية من الصف الأول حاولت تهدئة الأمر، ووعدت بأن الأمور ستكون اليوم أفضل، لكن حتى هذه اللحظة لم يتحقق أي أمر». وقالت المصادر: «نترقب الحصول على أجوبة واضحة من مرجعيات بالدولة للتهدئة وتصويب المسارات، ومن ضمنها أن يأخذ القضاء مجراه من غير شعبويات».



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.