ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

باتت وكرًا للجريمة.. و«حكومة الوحدة» أمام تحدي إسكات الميليشيات أو الانهيار

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب
TT

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

تسبب إعلان حكومة طبرق الليبية المعترف بها دوليا عن مقتل الصحافيين التونسيين المخطوفين في ليبيا منذ 8 أشهر في زوبعة إعلامية وسياسية داخل تونس وفي المنطقة خاصة أن الإعلان كشف كذلك عن مقتل مجموعة جديدة من الصحافيين المصريين والليبيين في بلد «ليس فيه سلطة قادرة على حفظ الأمن في البلاد».
وتزامنت الانتقادات في تونس للسلطات الليبية والتونسية - بسبب ملف الصحافيين نذير القطاري وسفيان الشورابي مع انتقادات تونسية وأوروبية لتطور ليبيا إلى وكر لجماعات الجريمة المنظمة والتهريب والإرهاب بما انعكس على تضاعف عدد المهاجرين غير القانونيين نحو أوروبا انطلاقا من أراضيها أكثر من 30 مرة في ظرف بضعة أشهر. فإلى أين ستسير ليبيا والأوضاع على ما هي عليه؟ وكيف تحركت السلطات التونسية بالتنسيق مع البلدان المجاورة لليبيا ودول الاتحاد الأوروبي في محاولة لتغيير الواقع على الأرض وتشكيل «حكومة وحدة وطنية» توقف النزيف وتدهور الأوضاع؟

وفي الوقت الذي تتابع فيه منظمات الصحافيين التونسيين وأطراف تونسية وليبية انتقاداتها لأداء السلطات الليبية في طبرق وطرابلس ولنظيرتها في تونس بسبب فشلها في إنقاذ حياة الصحافيين التونسيين نذير القطاري وسفيان الشورابي قام وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش بـ«مبادرة علنية غير مسبوقة حول ليبيا» تمثلت في عقد لقاء تشاوري رسمي مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية حول «التسوية السياسية» للأزمة الليبية ودعم جهود الحوار السياسي الأممية حول الأزمة الليبية التي تنظم منذ أشهر في الجزائر والمغرب.

* تحت ضغط بروكسل وروما
هذا التحرك الأوروبي التونسي المغاربي لمحاولة «تسوية الأزمة الليبية» تحت ضغط من مفوضية الاتحاد الأوروبي ببروكسيل في أعقاب القمة الأوروبية الطارئة التي نظمت موفى الشهر الماضي ردا على «موجات المهاجرين السوريين والليبيين والأفارقة الذين أصبحوا يتسللون بكثافة إلى أوروبا عبر الجزر الإيطالية مستفيدين من غياب أي سلطة مركزية موحدة في ليبيا» حسب المسؤول السياسي في مفوضية الاتحاد الأوروبي بتونس حضر الاجتماع.
ولئن أعلنت العواصم الأوروبية منذ استفحال «الحرب الأهلية» في ليبيا أنها تلتزم» الحياد» في النزاعات الداخلية الليبية الليبية ثم اعترفت بـ«شرعية» برلمان مدينة طبرق - 1700 كلم شرقي العاصمة طرابلس - فقد اكتشفت أن «التحكم في كل السواحل الليبية المطلة على المتوسط التي تمتد على ألفي كلم غير ممكن إذا تواصل الفراغ السياسي في العاصمة طرابلس وفي غالبية مدنها وقراها المنتشرة في مساحة شاسعة جدا تقدر بمليون و800 ألف كلم مربع غالبيتها من الصحاري والأرياف والمناطق المهجورة».

* إيطاليا المتضرر الأول
ولئن تحافظ إيطاليا الشريك الاقتصادي الأوروبي الأول لليبيا لأسباب كثيرة من بينها قربها الجغرافي من السواحل الليبية، فإن حكومتها تعتبر نفسها «الضحية الأكبر» لانتشار ظواهر العنف السياسي والإرهاب والتهريب في ليبيا، لأن تلك الظواهر ساهمت في ترفيع منسوب تدفق المهاجرين «السريين» نحو الجزر والموانئ الإيطالية منذ اندلاع «الربيع العربي».
وتدعم روما والعواصم الأوروبية المخطط الأممية والدولية لإنهاء الاقتتال والصراعات في ليبيا بقيادة مبعوث الأمم المتحدة الإيطالي برناردينو ليون، وهي جهود ترمي أساسا إلى تشكيل «حكومة توافق وطني تضع حدا لتقسيم سلطات البلاد بين حكومتين الأولى «شرعية» في طبرق شرقا والثانية «فعلية» في العاصمة طرابلس.
ويجمع المراقبون المختصون في الشؤون الليبية على التقليل من أهمية الحكومتين الحاليتين و«كلتاهما لا تسيطر إلا على مساحات صغيرة من البلاد» على حد تعبير زعيم الحزب الناصري القومي التونسي ومنسق «منظمات الليبيين اللاّجئين» المحامي البشير الصيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

* نار الحرب ونار الحصار
في الأثناء تؤكد مصادر إعلامية وسياسية ليبية مختلفة التوجهات أنه «لا بديل عن تشكيل حكومة توافق وطني» بالتنسيق مع الأمم المتحدة ودول الجوار والدول الأوروبية. ويخشى الخبير الليبي مصطفى العبيدي أن يتسبب تأجيل تشكل حكومة وحدة وطنية في تمديد مرحلة عدم الاستقرار بما سيعني مزيدا من زوارق الهجرة غير القانونية وسقوط مزيد من القتلى بين الليبيين وبين الحقوقيين والصحافيين والعمال التونسيين والمصريين والأجانب على غرار جريمة قتل الصحافيين المصريين والليبيين والتونسيين مؤخرا.
وحذر الخبير الليبي فؤاد عمر من أن يجد الليبيون أنفسهم بين «ناري الحرب والحصار الإقليمي لأن تونس ومصر والجزائر قد تقوم بمضايقة المليوني ليبي اللاجئين على أراضيهم احتجاجا على قتل الصحافيين واختطاف الدبلوماسيين والعمال في ليبيا».

* خطوط حمراء اقتصادية
ويقدم عدد من الساسة الليبيين من مختلف الأطراف المتحاورة منذ مدة في تونس والجزائر والمغرب - بمشاركة رؤساء القبائل والبلديات الكبرى - أسماء كثيرة لرئاسة «حكومة التوافق الوطني» أو «الوحدة الوطنية» من بينها وزير الخارجية في عهد القذافي عبد الرحمن شلغم وأول رئيس منتخب للمؤتمر الوطني العام في 2012 محمد المقريف سفير ليبيا لدى الهند مطلع الثمانينات وأحد أبرز زعماء المعارضة الليبية طوال 30 عاما.. لكن استمرار هيمنة ميليشيات متعددة الألوان على مناطق مختلفة في ليبيا - وبينها ميلشيات محسوبة على «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» ـ معطى قد يعقد أوضاع ليبيا المنهكة بعقود من القمع وسنوات من الحرب «الأهلية» والتدمير لكل رموز الوحدة الوطنية.
وقد استفحلت المخاطر بعد بروز «خطوط حمراء اقتصادية» بالجملة حسب تصريح رئيس البنك الليبي الخارجي للاستثمار عبد الفتاح عبد الغفار لـ«الشرق الأوسط». المسؤول الاقتصادي الليبي أورد أن «احتياطي ليبيا من العملة الصعبة تدحرج من 321 مليار دولار عام 2010 إلى نحو 106 فقط الآن أي إلى أقل من قيمة الاحتياطي قبل ثورة 17 يناير (كانون الثاني) 2011».

* المصرف المركزي يحذر
وحسب تأكيدات مصادر ليبية لـ«الشرق الأوسط» فإن تقرير ديوان المحاسبة الليبي أكد أن نسبة «الفساد المالي وسوء التصرف في موارد الدولة في ارتفاع «وأن قيمة النفقات العسكرية تجاوزت الـ17 مليار دولار في وقت يعتقد فيه كثيرون أن تلك الأموال ترصد أساسا لتمويل الميليشيات المتحزبة والمنحازة لبعض اللوبيات المالية والسياسية». كما حذر مصدر مسؤول من المصرف المركزي الليبيين من تراجع قيمة الاحتياطي الليبي ن العملة الصعبة بعد أن «أنفقت ما يزيد على ربع احتياطياتها من النقد الأجنبي في 2014 لتعويض الهبوط في إيرادات النفط الحيوية».
إلا أن ديوان المحاسبة الليبي في طرابلس فيقدم حقائق وأرقاما أكثر «إثارة للفزع» من بينها أن احتياطيات مصرف ليبيا المركزي من النقد الأجنبي بلغت 76.6 مليار دولار في نهاية 2014 مقارنة بنحو 106 مليار دولار قبل عام.
ويعتبر هذا الانخفاض أن «ليبيا ربما تقترب من الانهيار المالي والاقتصادي الشامل».

* عضو في الأوبك؟
وتعاني «ليبيا الجديدة» اليوم من رهانها على قطاع المحروقات - من نفط وغاز - وعدم تنويع مواردها الاقتصادية والمالية وعدم تطوير قطاعات الخدمات والإنتاج الصناعي والزراعي. واستفحلت الحصيلة السلبية لهذا الرهان بعد إغلاق أكبر ميناءين نفطيين «السدر» و«راس لانوف» في ديسمبر (كانون الأول) بسبب القتال الدائر بين فصائل موالية للحكومتين المتنافستين للسيطرة على ثروات البلاد ومؤسساتها السياسية.
كما كشفت تقارير ديوان المحاسبة والمصرف المركزي وأخرى حكومية إغلاق «ما يزيد عن اثني عشر حقل نفط هذا العام وهو ما تسبب في خفض إنتاج ليبيا من الخام إلى أقل من 500 ألف برميل يوميا وهو ثلث مستوى الإنتاج في 2010». كما ازدادت السلطات السياسية ضعفا والصراعات المسلحة على الحكم وعلى المواقع حدة بعد أن تراجعت إيرادات النفط 30 في المائة إلى 14.6 مليار دولار في 2014 أي إلى ثلث الإيرادات في 2010.

* الانهيار الشامل بعد عامين
وحذر البرلماني الليبي أبوبكر بعيبرة من سلبيات «عدم حقن دماء الليبيين فورا» وسجل أن الشعب الليبي «تعب كثيرا» وأن الدولة الليبية ومؤسساتها السيادية مثل البنك المركزي باتت مهددة بالانهيار الشامل. كما حذر مسؤولون في «ديوان المحاسبة» من أن تواصل الانخفاض الحاد في الاحتياطيات الأجنبية وسياسة الأنفاق الحالية سيتسببان في انهيار شامل للمصرف المركزي والاقتصاد الليبي سينهاران في أقل من عامين.
ويعتقد دبلوماسيون من بين المتابعين عن قرب للملف الليبي أن «الإحساس بحجم الكارثة المالية التي تهدد كل الفرقاء في صورة انهيار البنك المركزي وإنفاق ما تبقى من احتياطي العملات الأجنبية قد يدفعهم إلى التعجيل بالموافقة على إخراج البلاد من أزمتها السياسية عبر «التوافق» على حكومة وحدة وطنية تمهد لانتخاب برلمان موحد جديد.
ولعل من بين ما سيضغط على السياسيين في حكومتي طبرق وطرابلس أكثر أن «ميزانية ليبيا تخصص أساسا لتوفير مرتبات الموظفين الحكوميين ونفقات لأسعار البنزين والخبز وسلع غذائية أخرى أساسية».

* المصالحة والحسم العسكري
لكن تدهور المؤشرات الاقتصادية والمالية والأمنية في ليبيا لن يكون كافيا لدفع الأوضاع نحو بناء «سلطة مركزية موحدة ودولة حقيقية» حسب عالم الاجتماع والعلوم السياسية التونسي الخبير في الشؤون الليبية المنصف وناس. وفي هذا السياق تطرح مسألة الحسم بين موقفين متناقضين في طريقة «الحسم» في ليبيا هل يكون سياسيا - مثلما تريد الأمم المتحدة وتونس والجزائر وبعض العواصم الدولية ـ أم عسكريا مثلما يريد بعض «أمراء الحرب» في ليبيا الذين يحصلون على دعم من قوى إقليمية ودولية مهمة؟
ولعل العنصر الجديد هو خروج بعض القوى الإقليمية - مثل حكومات إيطاليا ومصر - عن صمتها وتلويحها بالتدخل العسكري في ليبيا إذا تمادت الفوضى التي ستتسبب في قتل مزيد من الأبرياء وفي إرسال مزيد من المهاجرين نحو أوروبا عبر الجزر الإيطالية ومالطا.
قد يحسم مثل هذا الخلاف قريبا. لكن المدير العام السابق للأمن العسكري في تونس أمير اللواء محمد المؤدب يعتبر أن «الأزمة الأمنية والعسكرية الليبية قد تستمر 20 عاما كاملة بسب تعقيداتها وتورط بعض الأطراف في عمليات ثأرية في مجتمع قبلي وهو ما سيزيد من مخاطر انتشار عصابات التهريب والإرهاب والجريمة المنظمة في تونس وفي كامل المنطقة».
في نفس السياق حذر رئيس أركان الجيوش التونسية سابقا الفريق أول سعيد الكاتب من «مخاطر التسامح مع العصابات الإرهابية التي تنتشر بسرعة في ليبيا ودول الساحل والصحراء مشكلة تهديدات جدية على تونس ومصر وبقية دول الجوار العربية والأفريقية والأوروبية».

* ورقة الأقليات
ولعل من بين ما يزيد الأوضاع في ليبيا خطورة بالنسبة لشعبها والدول المجاورة لها شمالي المتوسط وجنوبه معارضة بعض الفرقاء السياسيين لخيار إعلان مسار وطني للإنصاف والمصالحة «يساعد شعب ليبيا على فتح صفحة جديدة حقيقية» حسب تصريح الخبير الليبي عبد السلام زاقود لـ«الشرق الأوسط». لكن الكاتب الليبي السنوسي وهلي وعددا من أنصار تيار «احترام الأقليات في ليبيا» يقدمون شروطا لتحقيق المصالحة وإخراج ليبيا من نيران الحرب والحصار والفوضى من بينها «التوقف عن اعتبار القومية العربية والهوية العربية جامعة في ليبيا مع ما يعنيه ذلك من تجاهل لواقع التعدد في الألوان والتعدد العرقي واللغوي والمذهبي والغوي».
ويعتبر أنصار هذا التيار أنه «آن الأوان للحديث عن الهوية الليبية الحقيقية، التي شوهها النظام السياسي القائم على العروبة، بتغليبه للعرقية العربية على باقي الهويات الليبية الأخرى، وفرضها كهوية جامعة لليبيين مع تجاهل تام للأمازيغية والتباوية والتارقية (نسبة إلى التوارق) التي لها أراضيها وتاريخها، ولغاتها، ورموزها، كشعوب قديمة متمسكة ومحافظة على نظمها الاجتماعية والثقافية المتميزة منذ آلاف السنين رغم اعتناقها الإسلام».

* الحوار السياسي هو الحل
وزير الخارجية التونسي السابق ونائب الأمين للأمم المتحدة حاليا المنجي الحامدي أورد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحكومة التونسية وبقية الحكومات الصديقة لليبيا تتابع ما يجري من مستجدات في الشقيقة ليبيا باهتمام وهي لن تكون طرفا في الصراعات الداخلية في ليبيا وتساهم بجهود سياسية ودبلوماسية لمحاولة إنجاح جهود الحوار السياسي بين مختلف الأطراف المتصارعة إيمانا منها بأن السلاح لن يمكن من معالجة الخلافات مهما صعبت».
وذكر وزير الخارجية بكون مدينة الحمامات السياحية التونسية سبق أن استضافت مؤتمرا لدول جوار ليبيا في سياق جهود الوساطة السياسية. وقد توج مؤتمر الحمامات بمؤتمرين في كل من القاهرة والخرطوم وسلسلة من مؤتمرات الحوار السياسي في الجزائر والمغرب.

* التزام الحياد
في نفس السياق أكد السفير التونسي السابق بليبيا رضا بوكادي - الذي أعيد إلى تونس منذ نجاحه في استرجاع الدبلوماسيين المخطوفين من ليبيا واستفحال معارك مطار طرابلس - أن «من مصلحة تونس ومصر وكل الدول الأوروبية والأفريقية المعنية بالحرب في ليبيا التزام الحياد في التصعيد العسكري الميداني وتشجيع الحلول السياسية».
وفي تونس أيضا أورد القائم بالأعمال الليبي بتونس محمد المعلول لـ«الشرق الأوسط» أنه بتابع مع الجانب الليبي ومع سلطاته الشرعية «أي حكومة عبد الله الثني وبرلمان طبرق» كل مجالات التنسيق مع تونس في المجالين الأمني والعسكري والسياسي بهدف تأمين الحدود المشتركة والبوابات وحركة المسافرين في الاتجاهين وأوضاع مئات آلاف اللاجئين الليبيين في تونس الذين يراهنون على أن تسوى الأزمات الحالية في بلدهم حتى يتمكنوا من استئناف حياة طبيعية قريبا في مواطنهم وطي صفحة الماضي.

* إمّا.. وإمّا
تتقاطع المبادرات السياسية وجهود التسوية السلمية للأزمة المستفحلة في ليبيا منذ أكثر من 4 أعوام.. وتتعمق التناقضات بين عدد من أبرز الفاعلين في ليبيا.. لكن بعض المستجدات مثل قتل الصحافيين التونسيين واستفحال ملفي الهجرة والإرهاب قد تضغط على كل الفرقاء حتى يقبلوا بحقن الدماء وإخراج بلدهم والمنطقة من المأزق وإطفاء نيران الحرب التي لا تهدد ليبيا وحدها بل توشك شظاياها أن تفجر صراعات مسلحة وتتسبب في هزات عنيفة جدا في كامل المنطقة.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.