ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

باتت وكرًا للجريمة.. و«حكومة الوحدة» أمام تحدي إسكات الميليشيات أو الانهيار

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب
TT

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

تسبب إعلان حكومة طبرق الليبية المعترف بها دوليا عن مقتل الصحافيين التونسيين المخطوفين في ليبيا منذ 8 أشهر في زوبعة إعلامية وسياسية داخل تونس وفي المنطقة خاصة أن الإعلان كشف كذلك عن مقتل مجموعة جديدة من الصحافيين المصريين والليبيين في بلد «ليس فيه سلطة قادرة على حفظ الأمن في البلاد».
وتزامنت الانتقادات في تونس للسلطات الليبية والتونسية - بسبب ملف الصحافيين نذير القطاري وسفيان الشورابي مع انتقادات تونسية وأوروبية لتطور ليبيا إلى وكر لجماعات الجريمة المنظمة والتهريب والإرهاب بما انعكس على تضاعف عدد المهاجرين غير القانونيين نحو أوروبا انطلاقا من أراضيها أكثر من 30 مرة في ظرف بضعة أشهر. فإلى أين ستسير ليبيا والأوضاع على ما هي عليه؟ وكيف تحركت السلطات التونسية بالتنسيق مع البلدان المجاورة لليبيا ودول الاتحاد الأوروبي في محاولة لتغيير الواقع على الأرض وتشكيل «حكومة وحدة وطنية» توقف النزيف وتدهور الأوضاع؟

وفي الوقت الذي تتابع فيه منظمات الصحافيين التونسيين وأطراف تونسية وليبية انتقاداتها لأداء السلطات الليبية في طبرق وطرابلس ولنظيرتها في تونس بسبب فشلها في إنقاذ حياة الصحافيين التونسيين نذير القطاري وسفيان الشورابي قام وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش بـ«مبادرة علنية غير مسبوقة حول ليبيا» تمثلت في عقد لقاء تشاوري رسمي مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية حول «التسوية السياسية» للأزمة الليبية ودعم جهود الحوار السياسي الأممية حول الأزمة الليبية التي تنظم منذ أشهر في الجزائر والمغرب.

* تحت ضغط بروكسل وروما
هذا التحرك الأوروبي التونسي المغاربي لمحاولة «تسوية الأزمة الليبية» تحت ضغط من مفوضية الاتحاد الأوروبي ببروكسيل في أعقاب القمة الأوروبية الطارئة التي نظمت موفى الشهر الماضي ردا على «موجات المهاجرين السوريين والليبيين والأفارقة الذين أصبحوا يتسللون بكثافة إلى أوروبا عبر الجزر الإيطالية مستفيدين من غياب أي سلطة مركزية موحدة في ليبيا» حسب المسؤول السياسي في مفوضية الاتحاد الأوروبي بتونس حضر الاجتماع.
ولئن أعلنت العواصم الأوروبية منذ استفحال «الحرب الأهلية» في ليبيا أنها تلتزم» الحياد» في النزاعات الداخلية الليبية الليبية ثم اعترفت بـ«شرعية» برلمان مدينة طبرق - 1700 كلم شرقي العاصمة طرابلس - فقد اكتشفت أن «التحكم في كل السواحل الليبية المطلة على المتوسط التي تمتد على ألفي كلم غير ممكن إذا تواصل الفراغ السياسي في العاصمة طرابلس وفي غالبية مدنها وقراها المنتشرة في مساحة شاسعة جدا تقدر بمليون و800 ألف كلم مربع غالبيتها من الصحاري والأرياف والمناطق المهجورة».

* إيطاليا المتضرر الأول
ولئن تحافظ إيطاليا الشريك الاقتصادي الأوروبي الأول لليبيا لأسباب كثيرة من بينها قربها الجغرافي من السواحل الليبية، فإن حكومتها تعتبر نفسها «الضحية الأكبر» لانتشار ظواهر العنف السياسي والإرهاب والتهريب في ليبيا، لأن تلك الظواهر ساهمت في ترفيع منسوب تدفق المهاجرين «السريين» نحو الجزر والموانئ الإيطالية منذ اندلاع «الربيع العربي».
وتدعم روما والعواصم الأوروبية المخطط الأممية والدولية لإنهاء الاقتتال والصراعات في ليبيا بقيادة مبعوث الأمم المتحدة الإيطالي برناردينو ليون، وهي جهود ترمي أساسا إلى تشكيل «حكومة توافق وطني تضع حدا لتقسيم سلطات البلاد بين حكومتين الأولى «شرعية» في طبرق شرقا والثانية «فعلية» في العاصمة طرابلس.
ويجمع المراقبون المختصون في الشؤون الليبية على التقليل من أهمية الحكومتين الحاليتين و«كلتاهما لا تسيطر إلا على مساحات صغيرة من البلاد» على حد تعبير زعيم الحزب الناصري القومي التونسي ومنسق «منظمات الليبيين اللاّجئين» المحامي البشير الصيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

* نار الحرب ونار الحصار
في الأثناء تؤكد مصادر إعلامية وسياسية ليبية مختلفة التوجهات أنه «لا بديل عن تشكيل حكومة توافق وطني» بالتنسيق مع الأمم المتحدة ودول الجوار والدول الأوروبية. ويخشى الخبير الليبي مصطفى العبيدي أن يتسبب تأجيل تشكل حكومة وحدة وطنية في تمديد مرحلة عدم الاستقرار بما سيعني مزيدا من زوارق الهجرة غير القانونية وسقوط مزيد من القتلى بين الليبيين وبين الحقوقيين والصحافيين والعمال التونسيين والمصريين والأجانب على غرار جريمة قتل الصحافيين المصريين والليبيين والتونسيين مؤخرا.
وحذر الخبير الليبي فؤاد عمر من أن يجد الليبيون أنفسهم بين «ناري الحرب والحصار الإقليمي لأن تونس ومصر والجزائر قد تقوم بمضايقة المليوني ليبي اللاجئين على أراضيهم احتجاجا على قتل الصحافيين واختطاف الدبلوماسيين والعمال في ليبيا».

* خطوط حمراء اقتصادية
ويقدم عدد من الساسة الليبيين من مختلف الأطراف المتحاورة منذ مدة في تونس والجزائر والمغرب - بمشاركة رؤساء القبائل والبلديات الكبرى - أسماء كثيرة لرئاسة «حكومة التوافق الوطني» أو «الوحدة الوطنية» من بينها وزير الخارجية في عهد القذافي عبد الرحمن شلغم وأول رئيس منتخب للمؤتمر الوطني العام في 2012 محمد المقريف سفير ليبيا لدى الهند مطلع الثمانينات وأحد أبرز زعماء المعارضة الليبية طوال 30 عاما.. لكن استمرار هيمنة ميليشيات متعددة الألوان على مناطق مختلفة في ليبيا - وبينها ميلشيات محسوبة على «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» ـ معطى قد يعقد أوضاع ليبيا المنهكة بعقود من القمع وسنوات من الحرب «الأهلية» والتدمير لكل رموز الوحدة الوطنية.
وقد استفحلت المخاطر بعد بروز «خطوط حمراء اقتصادية» بالجملة حسب تصريح رئيس البنك الليبي الخارجي للاستثمار عبد الفتاح عبد الغفار لـ«الشرق الأوسط». المسؤول الاقتصادي الليبي أورد أن «احتياطي ليبيا من العملة الصعبة تدحرج من 321 مليار دولار عام 2010 إلى نحو 106 فقط الآن أي إلى أقل من قيمة الاحتياطي قبل ثورة 17 يناير (كانون الثاني) 2011».

* المصرف المركزي يحذر
وحسب تأكيدات مصادر ليبية لـ«الشرق الأوسط» فإن تقرير ديوان المحاسبة الليبي أكد أن نسبة «الفساد المالي وسوء التصرف في موارد الدولة في ارتفاع «وأن قيمة النفقات العسكرية تجاوزت الـ17 مليار دولار في وقت يعتقد فيه كثيرون أن تلك الأموال ترصد أساسا لتمويل الميليشيات المتحزبة والمنحازة لبعض اللوبيات المالية والسياسية». كما حذر مصدر مسؤول من المصرف المركزي الليبيين من تراجع قيمة الاحتياطي الليبي ن العملة الصعبة بعد أن «أنفقت ما يزيد على ربع احتياطياتها من النقد الأجنبي في 2014 لتعويض الهبوط في إيرادات النفط الحيوية».
إلا أن ديوان المحاسبة الليبي في طرابلس فيقدم حقائق وأرقاما أكثر «إثارة للفزع» من بينها أن احتياطيات مصرف ليبيا المركزي من النقد الأجنبي بلغت 76.6 مليار دولار في نهاية 2014 مقارنة بنحو 106 مليار دولار قبل عام.
ويعتبر هذا الانخفاض أن «ليبيا ربما تقترب من الانهيار المالي والاقتصادي الشامل».

* عضو في الأوبك؟
وتعاني «ليبيا الجديدة» اليوم من رهانها على قطاع المحروقات - من نفط وغاز - وعدم تنويع مواردها الاقتصادية والمالية وعدم تطوير قطاعات الخدمات والإنتاج الصناعي والزراعي. واستفحلت الحصيلة السلبية لهذا الرهان بعد إغلاق أكبر ميناءين نفطيين «السدر» و«راس لانوف» في ديسمبر (كانون الأول) بسبب القتال الدائر بين فصائل موالية للحكومتين المتنافستين للسيطرة على ثروات البلاد ومؤسساتها السياسية.
كما كشفت تقارير ديوان المحاسبة والمصرف المركزي وأخرى حكومية إغلاق «ما يزيد عن اثني عشر حقل نفط هذا العام وهو ما تسبب في خفض إنتاج ليبيا من الخام إلى أقل من 500 ألف برميل يوميا وهو ثلث مستوى الإنتاج في 2010». كما ازدادت السلطات السياسية ضعفا والصراعات المسلحة على الحكم وعلى المواقع حدة بعد أن تراجعت إيرادات النفط 30 في المائة إلى 14.6 مليار دولار في 2014 أي إلى ثلث الإيرادات في 2010.

* الانهيار الشامل بعد عامين
وحذر البرلماني الليبي أبوبكر بعيبرة من سلبيات «عدم حقن دماء الليبيين فورا» وسجل أن الشعب الليبي «تعب كثيرا» وأن الدولة الليبية ومؤسساتها السيادية مثل البنك المركزي باتت مهددة بالانهيار الشامل. كما حذر مسؤولون في «ديوان المحاسبة» من أن تواصل الانخفاض الحاد في الاحتياطيات الأجنبية وسياسة الأنفاق الحالية سيتسببان في انهيار شامل للمصرف المركزي والاقتصاد الليبي سينهاران في أقل من عامين.
ويعتقد دبلوماسيون من بين المتابعين عن قرب للملف الليبي أن «الإحساس بحجم الكارثة المالية التي تهدد كل الفرقاء في صورة انهيار البنك المركزي وإنفاق ما تبقى من احتياطي العملات الأجنبية قد يدفعهم إلى التعجيل بالموافقة على إخراج البلاد من أزمتها السياسية عبر «التوافق» على حكومة وحدة وطنية تمهد لانتخاب برلمان موحد جديد.
ولعل من بين ما سيضغط على السياسيين في حكومتي طبرق وطرابلس أكثر أن «ميزانية ليبيا تخصص أساسا لتوفير مرتبات الموظفين الحكوميين ونفقات لأسعار البنزين والخبز وسلع غذائية أخرى أساسية».

* المصالحة والحسم العسكري
لكن تدهور المؤشرات الاقتصادية والمالية والأمنية في ليبيا لن يكون كافيا لدفع الأوضاع نحو بناء «سلطة مركزية موحدة ودولة حقيقية» حسب عالم الاجتماع والعلوم السياسية التونسي الخبير في الشؤون الليبية المنصف وناس. وفي هذا السياق تطرح مسألة الحسم بين موقفين متناقضين في طريقة «الحسم» في ليبيا هل يكون سياسيا - مثلما تريد الأمم المتحدة وتونس والجزائر وبعض العواصم الدولية ـ أم عسكريا مثلما يريد بعض «أمراء الحرب» في ليبيا الذين يحصلون على دعم من قوى إقليمية ودولية مهمة؟
ولعل العنصر الجديد هو خروج بعض القوى الإقليمية - مثل حكومات إيطاليا ومصر - عن صمتها وتلويحها بالتدخل العسكري في ليبيا إذا تمادت الفوضى التي ستتسبب في قتل مزيد من الأبرياء وفي إرسال مزيد من المهاجرين نحو أوروبا عبر الجزر الإيطالية ومالطا.
قد يحسم مثل هذا الخلاف قريبا. لكن المدير العام السابق للأمن العسكري في تونس أمير اللواء محمد المؤدب يعتبر أن «الأزمة الأمنية والعسكرية الليبية قد تستمر 20 عاما كاملة بسب تعقيداتها وتورط بعض الأطراف في عمليات ثأرية في مجتمع قبلي وهو ما سيزيد من مخاطر انتشار عصابات التهريب والإرهاب والجريمة المنظمة في تونس وفي كامل المنطقة».
في نفس السياق حذر رئيس أركان الجيوش التونسية سابقا الفريق أول سعيد الكاتب من «مخاطر التسامح مع العصابات الإرهابية التي تنتشر بسرعة في ليبيا ودول الساحل والصحراء مشكلة تهديدات جدية على تونس ومصر وبقية دول الجوار العربية والأفريقية والأوروبية».

* ورقة الأقليات
ولعل من بين ما يزيد الأوضاع في ليبيا خطورة بالنسبة لشعبها والدول المجاورة لها شمالي المتوسط وجنوبه معارضة بعض الفرقاء السياسيين لخيار إعلان مسار وطني للإنصاف والمصالحة «يساعد شعب ليبيا على فتح صفحة جديدة حقيقية» حسب تصريح الخبير الليبي عبد السلام زاقود لـ«الشرق الأوسط». لكن الكاتب الليبي السنوسي وهلي وعددا من أنصار تيار «احترام الأقليات في ليبيا» يقدمون شروطا لتحقيق المصالحة وإخراج ليبيا من نيران الحرب والحصار والفوضى من بينها «التوقف عن اعتبار القومية العربية والهوية العربية جامعة في ليبيا مع ما يعنيه ذلك من تجاهل لواقع التعدد في الألوان والتعدد العرقي واللغوي والمذهبي والغوي».
ويعتبر أنصار هذا التيار أنه «آن الأوان للحديث عن الهوية الليبية الحقيقية، التي شوهها النظام السياسي القائم على العروبة، بتغليبه للعرقية العربية على باقي الهويات الليبية الأخرى، وفرضها كهوية جامعة لليبيين مع تجاهل تام للأمازيغية والتباوية والتارقية (نسبة إلى التوارق) التي لها أراضيها وتاريخها، ولغاتها، ورموزها، كشعوب قديمة متمسكة ومحافظة على نظمها الاجتماعية والثقافية المتميزة منذ آلاف السنين رغم اعتناقها الإسلام».

* الحوار السياسي هو الحل
وزير الخارجية التونسي السابق ونائب الأمين للأمم المتحدة حاليا المنجي الحامدي أورد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحكومة التونسية وبقية الحكومات الصديقة لليبيا تتابع ما يجري من مستجدات في الشقيقة ليبيا باهتمام وهي لن تكون طرفا في الصراعات الداخلية في ليبيا وتساهم بجهود سياسية ودبلوماسية لمحاولة إنجاح جهود الحوار السياسي بين مختلف الأطراف المتصارعة إيمانا منها بأن السلاح لن يمكن من معالجة الخلافات مهما صعبت».
وذكر وزير الخارجية بكون مدينة الحمامات السياحية التونسية سبق أن استضافت مؤتمرا لدول جوار ليبيا في سياق جهود الوساطة السياسية. وقد توج مؤتمر الحمامات بمؤتمرين في كل من القاهرة والخرطوم وسلسلة من مؤتمرات الحوار السياسي في الجزائر والمغرب.

* التزام الحياد
في نفس السياق أكد السفير التونسي السابق بليبيا رضا بوكادي - الذي أعيد إلى تونس منذ نجاحه في استرجاع الدبلوماسيين المخطوفين من ليبيا واستفحال معارك مطار طرابلس - أن «من مصلحة تونس ومصر وكل الدول الأوروبية والأفريقية المعنية بالحرب في ليبيا التزام الحياد في التصعيد العسكري الميداني وتشجيع الحلول السياسية».
وفي تونس أيضا أورد القائم بالأعمال الليبي بتونس محمد المعلول لـ«الشرق الأوسط» أنه بتابع مع الجانب الليبي ومع سلطاته الشرعية «أي حكومة عبد الله الثني وبرلمان طبرق» كل مجالات التنسيق مع تونس في المجالين الأمني والعسكري والسياسي بهدف تأمين الحدود المشتركة والبوابات وحركة المسافرين في الاتجاهين وأوضاع مئات آلاف اللاجئين الليبيين في تونس الذين يراهنون على أن تسوى الأزمات الحالية في بلدهم حتى يتمكنوا من استئناف حياة طبيعية قريبا في مواطنهم وطي صفحة الماضي.

* إمّا.. وإمّا
تتقاطع المبادرات السياسية وجهود التسوية السلمية للأزمة المستفحلة في ليبيا منذ أكثر من 4 أعوام.. وتتعمق التناقضات بين عدد من أبرز الفاعلين في ليبيا.. لكن بعض المستجدات مثل قتل الصحافيين التونسيين واستفحال ملفي الهجرة والإرهاب قد تضغط على كل الفرقاء حتى يقبلوا بحقن الدماء وإخراج بلدهم والمنطقة من المأزق وإطفاء نيران الحرب التي لا تهدد ليبيا وحدها بل توشك شظاياها أن تفجر صراعات مسلحة وتتسبب في هزات عنيفة جدا في كامل المنطقة.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.