تبكي نينا فيدوريفنا، وهي تروي «الفظائع» التي حصلت معها قبل أربعة أيام. لقد تمكنت برفقة زميلتها لودي من الفرار من قريتهما فيليكا ديميركا بعد أن شهدتا جريمة حرب قام بها الجنود الروس ضد المدنيين، بحسب قولهما. المرأتان الآن في كييف، حيث تعملان في أحد الفنادق، ولا تعرفان ما العمل في حال أُحكم الطوق الروسي حول المدينة أو حتى إذا ما اجتاحها الروس.
تبدأ قصة نينا ولودي مباشرة بعد بداية الحرب، حيث تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء على المنطقة، وتقول نينا: «الأيام الأولى كانت صعبة، نمنا في القبو تحت المنزل، البرد كان شديدا، ولكن البرد أفضل من الموت، الجنود الروس أحاطوا بالقرية منذ الأيام الأولى ولم يدخلوها، ولكنهم بالمقابل لم يتوقفوا عن قصفها، كان من السهل في الأيام الأولى الخروج والعودة إلى القرية حين يتوقف الروس عن القصف، ولكن مع تقدم الأيام بتنا لا نتمكن من الخروج من القبو. تقول نينا وهي تجلس في بهو الفندق حيث تعمل».
مضت أيام عدة والأمور على حالها، حتى معمل الكولا القريب من القرية كان سليما، ولكن الجنود الروس بدأوا باستخدام صواريخ الغراد ضد القرى والمعمل وحتى قرى مجاورة، دائما بحسب نينا، بينما تجلس لودي بجانبها تستمع وتهز رأسها بالموافقة.
دخول الجنود إلى القرية
منذ أربعة أيام دخل الجنود الروس فجأة إلى القرية، تقول نينا، تقاطعها لودي: «جائعون وأحرقوا كل شيء وسرقوا كل شيء». وتتابع نينا: حين دخلوا نهبوا المتاجر وكل المحال التجارية، وجدوا بعض عمال الكولا مختبئين خوفا منهم، أخرجوهم من مخابئهم وأطلقوا عليهم النار، بحسب ما تقول نينا، وحين ندقق بالأمر تؤكد المرأتان أن الرجال كانوا مدنيين وعمالا في المصنع، وأنهما تعرفان شخصيا اثنين منهم، أحدهما رجل في الأربعين والآخر في الخمسين من قرية مجاورة لقريتهما.
نينا تبكي بشكل متواصل وهي تتابع سردها بينما، لودي تضيف التفاصيل التي غابت عن المرأة الباكية: «الروس سرقوا السيارات المدنية، وبدلوا لباسهم العسكري بمدني، وصاروا يطلقون الرصاص عشوائيا، هذا بدأ منذ أكثر منذ أسبوع، لم أتمكن من التقاط الصور، بالحقيقة كنا خائفتين جدا، لم نحاول حتى التقاط الصور، كل ما أردناه هو الفرار من القرية إلى كييف».
«أحرقوا القرية، أحرقوا كنيسة القرية، قبلها كان الطيران الروسي قد قصفنا، ولكن الجنود الروس قاموا بنهب كل شيء وأحرقوا المساكن المدنية» تقول لودي. لم يعد لدى الجنود طعام، تشرح نينا، «لقد باتوا جائعين والبرد كان قارسا، فأتوا إلينا ليحصلوا على الطعام، اتصلت بنا جارتنا وقالت إن الجنود الروس قاموا بوضع فوهة البندقية برأسها، طالبين منها طهي الطعام لهم وإلا قتلوها، وهي طبعا طهت لهم، فتركوها».
الهروب إلى كييف
تتحدث المرأتان عن حوادث أخرى كثيرة، إلا أنهما لم تشهداها بأعينهما، ما عدا حادثة واحدة شاهداها من بعيد، حيث أشار الجنود الروس إلى نقطة التفتيش الأخيرة قبل الوصول إلى القوات الأوكرانية لحافلتين لمدنيين بالمرور، وبعد أن أعطوا الضوء الأخضر للحافلتين وأطلقوا النار على الأولى، وكانت تضم امرأة وأطفالها، وتؤكد المرأتان أنهما شاهدتا من بعيد حادثة إطلاق النار، وأنهما تعلمان أن هذا الاتهام خطير.
تقول نينا وهي تبكي: «نعم التقط الصور لنا واكتب ما قلته لك، نحن نريد أن يعرف العالم ما يحصل في أوكرانيا». وتنهي بالقول: «انتظرنا حتى خرج الروس من القرية وتسللنا بالسيارة إلى تخوم القرية، نحن نعرف الطرق الفرعية، سرنا بين الطرق الفرعية حتى وصلنا إلى القوات الأوكرانية التي ساعدتنا للمجيء إلى كييف. وإن كانت المرأتان استفاضتا بالشرح والأخبار فإن أغلب النازحين لا يفضلون الحديث عما جرى معهم قبل وصولهم إلى كييف، خاصة أنهم في لحظة الوصول يكونون تحت وقع الصدمة»، هكذا يقول فلاديسلاف.
فعلى طرف بيلوهوردكا (١٠ كيلومترات من أربين) يعمل فلاديسلاف دون انقطاع، ثيابه العسكرية لا تعني أنه مقاتل، والعلم الأوكراني المثبت على ساعده يشير إلى أنه متطوع، وهو أحد مديري مركز المنطقة الرئيسية لاستقبال النازحين وإعادة توزيعهم على المناطق. فلاديسلاف (٣٠ عاما) يعمل ضمن الحملة المحلية للإغاثة، عشرات المتطوعين، تضاف إليهم عناصر من الشرطة ورجال الإطفاء والصليب الأحمر حولوا موقفا كبيرا للسيارات إلى مركز إغاثة ميداني: على طرف خيم للطبابة وإلى جانبها مستشفى ميداني. وفي الوسط نصبت خيم لحماية المخزون من الأطعمة والمساعدات الغذائية، جانب آخر للألبسة المفروزة بحسب الجنس والعمر، وفي الصدر من موقف السيارات الكبير طاولة ممتدة على مسافة طويلة تحمل أطعمة ساخنة ومياها وخبزا والشاي والمرطبات، وخلف الطاولة نساء ورجال يعملون تحضيرا للنازحين المقبلين من منطقة أربين، حيث تشتد المعارك بين القوات الروسية والأوكرانية.
5 آلاف نازح يومياً
«يصعب أن أحدد رقم الذين مروا من هنا» يقول فلاديسلاف، «ربما الآلاف»، ولكن الرجل المتطوع ضمن هذا المركز الذي تسيره وتموله الحكومة المحلية يستدرك بالقول: «اليوم نتوقع خمسة آلاف، اليوم هو اليوم الثامن عشر من المعارك، أليس كذلك؟» يحك رأسه بيده ثم يعيد قبعته الصوفية ويحكمها اتقاء للبرد القارس: «احسبهم أنت، كل يوم تقريبا نفس الأرقام».
تعمل القوات الحكومية هنا على إخلاء النازحين من مناطق يسيطر عليها الروس، وتنتظر الفرق المحلية الوافدين، مراكز النزوح هذه مجرد محطات مؤقتة لتنظيم النازحين وتحويلهم إلى الحافلات، كل بحسب المنطقة التي يرغب في الذهاب إليها، ومن ليس لديه منطقة بديلة عن سكنه الأصلي يتم تخييره بين مناطق عدة للنزوح حيث تتكفل الحكومات المحلية بإيجاد مأوى له مؤقتا ريثما تستقر الأمور.
عشرات الحافلات الصفراء القديمة تنتظر في باحة الموقف، وفلاديسلاف يشير إليها ويخبرنا بما سيحصل في الساعات المقبلة «الساعة الثانية بعد الظهر ستصل دفعة اليوم، ربما تتأخر، إذ إن القوات الروسية تدقق في العابرين، ثم تعود القوات الأوكرانية للتدقيق في هوياتهم أيضا، وبعدها إن لم تشتعل الجبهات سيأتون إلى هنا، ثم نعالج من يحتاج إلى علاج، الأغلبية تحتاج إلى علاج ولكن ليس لجروح جسدية».
تقاطعه لودميلا (٤٥ عاما): «قل له إننا نريد منطقة حظر الطيران الآن» تشد فلاديسلاف من مرفقه وهي تلح عليه، ولودميلا متطوعة في الحملة المحلية للإغاثة، تساعد في الطهي وتوزيع الطعام بشكل رئيسي. «أوكرانيا لديها كل شيء، لا نحتاج إلى أي شيء، نريد فقط منطقة حظر للطيران الروسي حتى نقاتلهم».
مساعدات غذائية أوروبية
إلا أن واقع الأمور لا يؤكد صحة ما تذهب إليه لودميلا، إذ إن الحكومة المحلية بدأت فعلا في توزيع المساعدات الغربية على هذه المحطات الفرعية لفرز النازحين، وبين المعلبات ومواد الطهي تجد طعماً مقدماً من بولندا ومن تركيا ومن بريطانيا وغيرها من الدول. لم تعد المنتجات الأوكرانية تكفي لتلبية الحاجات الطارئة.
تنتشر مراكز عدة مثل هذا المركز، وتحمل كل منها طابعا مختلفا، المراكز الرئيسية والأكثر فاعلية هي تلك الحكومية، تنظم النزوح وتوزع النازحين، تنقل الآلاف منهم يوميا نحو شبكة القطارات التي تنقلهم بدورها إلى مناطق مختلفة، لفيف من المحطات المرغوبة بشدة لدى النازحين. بينما تشكل الجزء الثاني والأقل أهمية شبكة رجال الأعمال والمتمولين الأوكرانيين والجمعيات الأهلية المحلية، والجزء الثالث هو المساجد والكنائس.
غير بعيد عن نقطة استقبال النازحين الحكومية في بيلوهوردكا وعلى بعد ٢٠ كيلومترا من أربين، يقف سيرغي (٥٦ عاما) أمام الكنيسة حيث يتطوع لمساعدة النازحين من النواحي القريبة الخاضعة للقتال، كل يوم يستقبل سيرغي ما لا يقل عن ألف من النازحين الجدد، يصلون متعبين وجائعين وخائفين، يحصل القادمون على الطعام والشراب والملابس. يقول سيرغي إنه لا يتمكن من تقديم الكثير من المساعدة، فقط يوزع النازحين على الباصات التي تنقلهم إلى حيث يريدون الذهاب ويصلي معهم ولهم حين يجلسون في الحافلات. «عندها أشاهد الدمع ينهمر من عيونهم، ولكن لا يمكننا تقديم أكثر من ذلك لهم».
في قلب كييف
في قلب كييف يعتقد المتمول ورجل الأعمال إيفان يوكرونستف أن بإمكانه تقديم أكثر، ايفان حول شركته الكبرى للتأمين إلى خلية نحل لتوفير الطعام وتأمين المساعدات للنازحين. كل أشكال المساعدات التي يمكن تخيلها تصل إلى إيفان وفريقه النشط المكون من أكثر من خمسين شخصا احتلوا مكاتب الشركة الضخمة، وراحوا يفرزون المواد التي تصلهم.
إيفان يعتقد أن توفير أي شيء وكل شيء يخدم المعركة من أجل الانتصار، هكذا يقول، ويقف إلى جانب لاعب سابق في كرة القدم وهو يضيف: نقدم من وجبة الطعام إلى الهاتف الخليوي، كل شيء للأوكرانيين، ونحن بالمقابل نحصل على أغلب التمويل والمساعدات من رجال أعمال أوكرانيين في البلاد ولكن بشكل خاص من خارجها.
لا يتوقف إيفان عند المساعدات العينية، بل هو يتعداها إلى مساعدة الجيش الأوكراني بالمعدات غير الفتاكة والتكنولوجيات المتقدمة. الجمعية التقليدية لا يمكنها أن تفعل ما نقوم به، نحن نجمع المال ونشتري مناظير الرؤية الليلية والمسح الحراري ونقدمها للجيش الأوكراني، هذا الجانب لا يمكن للمتطوعين العاديين القيام به، أضف إلى ذلك بدأت تشح مخزونات الستر الواقية من الرصاص والخوذات العسكرية، ونحن نصنع جزءاً منها محليا، ونطور الصناعة هذه لأن النماذج الأولية ليست مرضية، كما نستورد ما أمكن منها من الخارج وبشكل خاص من الأسواق الأوروبية. كيفما وليت وجهك هنا ثمة قصة تروى، لكن السماء بدأت تحمل المزيد من أصوات الطيران والهاتف المحمول يرسل إنذارا بأن غارات روسية وشيكة وعلى السكان التوجه إلى الملاجئ.