«عرين الأسد»... تاريخ عالي السرعة لسليمان القانوني

دي بيليغ يثبت مرة أخرى إمكانياته كمؤرخ شمولي لتحولات الثقافة في المنطقة

كريستوفر دي بيليغ
كريستوفر دي بيليغ
TT

«عرين الأسد»... تاريخ عالي السرعة لسليمان القانوني

كريستوفر دي بيليغ
كريستوفر دي بيليغ

في كتاب «عرين الأسد» تلعب إحدى أقوى الأوكرانيات في التاريخ دوراً ثانوياً في البداية ثم تحتل واجهة البطولة. كانت حريم سلطان، التي عرفت في الغرب غالباً باسم روكسيلانا، ابنة لقس أورثوذوكسي قد يكون اسمه لايوسكي. بعد أسرها في روثينيا وبيعها أمة في إسطنبول انضمت سرّية متدربة إلى الحريم الملكي العثماني. لم تكن «لطيفة، ومهذبة وضئيلة» فحسب وإنما كانت مسلحة بـ«طموح وذكاء» حديديين أيضاً، صفات مكنتها مع الذكاء لأن تشق طريقها صعوداً.
على نقيض معاصرتها الإنجليزية آن بولين (زوجة الملك هنري الثامن)، ظلت المرأة التي شاركت السلطان مخدعه، والتي عرفت خطأ بـ«الروسية»، واعية بكل ما يعنيه ذلك. في نهاية «عرين الأسد» نجد الساحرة الماكرة وقد أنجبت لسيدها ثلاثة أبناء أصحاء، نجدها وقد تزوجت من الحاكم العثماني ومهيأة للتوسع في «مكونات سلطتها السياسية والإنجابية».
لقد أظهر كريستوفر دي بيليغ في كتبه السابقة إمكانياته سواء بوصفه باحثاً - صحافياً في شؤون الشرق الأوسط الحديث أو، كما في كتابه «التنوير الإسلامي»، من حيث هو مؤرخ شمولي لتحولات الثقافة في المنطقة. في «عرين الأسد» يواصل دي بيليغ العمل كما عُرف من قبل لكنه يعود إلى القرن السادس عشر، إلى ذروة السلطة العثمانية، حين بثت الإمبراطورية الإسلامية السريعة التوسع الرعب في قلب كل ملك مسيحي.
يفتح أسلوب الكتاب فصلاً جديداً لدي بيليغ. هنا يروي قصة السنوات الست عشرة الأولى (1520 - 1536) من عهد سليمان القانوني بأسلوب يتسم بالسرعة الملحة والمستغرقة مستخدماً الضمير المضارع. عند انتقال الكتاب من ألاعيب حاكم إلى آخر، وباستعراضه المواقع العثمانية من حدود فيينا إلى مصر وإيران، يبدو وكأنه رواية غير متخيلة – أو نسخة نثرية من المسلسل التركي الشعبي «القرن العظيم». بين الحين والآخر تهدئ تابلوهات سينمائية حية المؤامرات السياسية التي تكسر الظهر، بالمعنى الحرفي. كل مشهد مبهر، مثل مهرجان الختان لأبناء السلطان الذي استمر لأسبوعين والذي حول السماء فوق إسطنبول إلى «سماء نارية»، يتكئ على أساس صلب من المصادر الأولية - رسائل، ويوميات، وتقارير دبلوماسية – تُقتبس في الختام. بعض تلك لكتاب عثمانيين والكثير منها، وعلى نحو بالغ الأهمية، لكتاب من فينيسيا.
في عشرينيات القرن السادس عشر انتهت الصراعات المشتعلة بين القوى الإسلامية والمسيحية على الأرض وفي البحر، إلى وقفة ما بين سليمان – الذي ورث سلسلة غزوات أبيه سليم الأول – وتشارلز الخامس، الذي حكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والذي تسيد عام 1521 مملكة عابرة للقارات تمتد من المكسيك حتى إسبانيا وإيطاليا والنمسا وهولندا.
كتب الإنسانوي الكبير إيراسموس: «ليس بإمكان العالم أن يحتمل شمسين أكثر مما احتمل». غير أن فينيسيا التجارية، تلك «الواجهة التي بلا مخزن» والفاحشة الثراء والهشة في الوقت نفسه، أعجبها الأمر كما هو. يثري دي بيليغ سرديته برسائل ملونة ودقيقة من تجار فينسيا ومبعوثيها وجواسيسها بينما كان أتباع الدوج ملتصقين بالسلطان ويسعون في الوقت نفسه إلى أن يوفروا احتياجات الجميع.
لم تكن فينيسا مرتبطة بإسطنبول بالمجوهرات والحرير والتوابل والأفكار فحسب. كانت هناك روابط صداقة وديون ودماء. يهيمن على «عرين الأسد» خادمان من خدم السلطان ولدا على أراضي فينيسيا: إبراهيم باشا من بارغا (الآن جزء من اليونان)، وهو الصدر الأعظم لدى سليمان، وزيره الموهوب والباحث عن السلطة بقوة وسرعة، وألفِز غريتي، ابن الدوج العجوز والحاكم الثري الذي كان مبعوثاً لدى إسطنبول. كان إبراهيم قد استُرِق واعتنق الإسلام في حين بقي غريتي، الذي كان يعرف بالبيوغلو، على مسيحيته.
لا نرى في العلاقات العثمانية – الفينيسية أي «صدام للحضارات» (مع أن كلا الفريقين رأيناه في بعض الأحيان من تلك الزاوية) بقدر ما كان خلافاً عائلياً حميماً بطريقة فوضوية. كان السلطان في تلك الأثناء كامناً على الأطراف ولكنه ينطلق ليفعل ما يريد بسرعة وبدموية مثل «أيقونة بحجم آيا صوفيا (كاتدرائية المدينة الضخمة التي تحولت إلى مسجد)، أيقونة ضخمة بصورة غامضة تجعلها خفية عن الأعين».
يطلق دي بيليغ صفة «المكتنز» على كاتب اليوميات الفينيسي مارين سانودو، الأرستقراطي الصغير الذي أمدت يومياته الممتدة لأربعين عاماً، بما فيها من أخبار ونمائم، المؤرخين بمفتاح ثمين لأحداث العصر، وذلك لمراكمته المعلومات والتفاصيل. ويفعل دي بيليغ نفسه ما فعله سانودو سواء بالتيجان المرصعة بالمجوهرات أو بمآدب القصور أو بمعارك البلقان المغبرة أو بما يسببه القراصنة من فوضى في شمال أفريقيا. لكن خلف النثر المتلألئ بالجواهر يدفعنا نبض الأحداث عبر انتصارات سليمان على الأرض، والمأزق الدموي الذي كان محبطاً للهلال وللصليب، وصولاً إلى إمبراطورية القراصنة على الموج التي بناها الأدميرال ذو اللحية الخمرية خير الدين المعروف ببارباروسا، من جزيرة ليزبوس اليونانية.
قد يحقق «جيش السهوب العثماني الداهم والمحمول على الخيل» انتصارات سهلة على زعماء في صربيا أو سوريا، لكن أساليب جديدة في المعارك، براً وبحراً، تبدأ بالحد من قدرات السلطان. ما تزال سانت ستيفن في فيينا كاتدرائية إلى اليوم. أما اللاعبون الرئيسيون، «الفضاءات التي لا حدود لها من التأثير والثراء» التي أومأت لإبراهيم وألفِز، فإنها تنفتح الآن على هاوية مرعبة. متى وكيف سيتحول «المقبول» إلى «المقتول»؟
مثل سلاح الفرسان المنطلق بأعلى سرعته، ينطلق كتاب «عرين الأسد» عبر مساحة جيوستراتيجية بسرعة عالية. سحب الغبار الناشئة في الكتاب عن المناورات والتقلبات والدسائس يمكنها أحياناً أن تحجب الرؤية الأشمل. ومع ذلك فإن أسلوب دي بيليغ المتلألئ، الذكي والبارع يضيف متعة لكل صفحة، مع أن ميله إلى بساطة المحكي... قد يكون ذائقة مكتسبة. بالنظر إلى البريق البلاغي الظاهر في كل مكان، يبدو كما لو أن السير والتر سكوت قد استسلم فجأة لمسلسل «بلاك أدر» Blackadder».
يصل «عرين الأسد» إلى نهايته بينما سليمان ما زال في منتصف حكمه. لذا يبدو الكتاب كما لو أنه درفة أولى من عمل أدبي ثنائي الدرفات أو حتى ثلاثيها. إن كان الأمر كذلك فالجزء القادم يعد بانتصار أوكراني. استمري يا روكسيلانا.

مراجعة لكتاب:
The Lion House: The Coming of a King by Christopher de Bellaigue
من نسخة ورقية
لـ{فايننشال تايمز}



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟