هيلانة الشيخ: الكتابة إن لم تكن متمردة فلا حاجة إليها

اعتبرت الأنوثة أعظم أسلحتها

هيلانة الشيخ
هيلانة الشيخ
TT

هيلانة الشيخ: الكتابة إن لم تكن متمردة فلا حاجة إليها

هيلانة الشيخ
هيلانة الشيخ

رغم أن المرأة بهمومها وأوجاعها تشكل ملمحاً رئيسياً من ملامح العالم الروائي للكاتبة السعودية من أصل فلسطيني، هيلانة الشيخ، فإنها لم تزعم يوماً أنها أديبة «نسوية»؛ بل ترفض سعي بعض الأديبات لخلع صفة «الضحية» على تجاربهن من بوابة الأنوثة.
مؤخراً صدرت لها روايتها «بماذا أخبر الله» التي تنتصر فيها للمرأة «وسط عالم متوحش يموج بالقبح». وهي تصف نفسها بأنها «مجرد كائن يتنفس حروفاً، ويأكل حبراً، وينام متوسداً الورق».
هنا حوارنا معها على هامش زيارتها مؤخراً للقاهرة، حول روايتها الجديدة وهواجس الكتابة:
> في روايتك الأخيرة «بماذا أخبر الله» ترصدين معاناة كاتبة عربية في وسط أدبي متوحّش، قائم على معاداة المرأة أو استغلالها. إلى أي حد يعكس النص بعضاً من الخبرة الشخصية للمؤلفة؟
- هو انعكاسٌ عكسيٌّ، قياساً على تجربتي الشخصية، ومحاكاة كاملة لرؤى وتجارب كاتبات عرفتهن عبر الواقع. العداوات دعمت وجودي، وحفّزتني على مراقبة أخطائي وإصلاحها، وعدم تركها لمن يتصيّدون ويحفرون في الخفاء والعلن. الرجل أيضاً مُستغَل ومُستهدَف؛ لكن للأسف، أغلب النساء يحمّلن فشلهنّ على عاتق «الأنوثة»، بينما أعتبرها أعظم أسلحتي التي أتذرّع بها.
> تبدو اللغة موجعة وجارحة في هذا العمل، كما في تلك الجملة التي وردت على لسان الراوية: «اليد! رغم كثرة الأيادي التي حاولَتْ مراراً دفني حيّة، كان باستطاعتي قطعها، والخروج بيدٍ واحدة، ممتدّة لي وحدي!»؛ فمن أين تأتي كلّ هذه القسوة؟
- تأتي من القُبح الذي قتل جماليّات الحياة البدائية، من الصدق الذي نفتقده، حتّى بيننا وبين أنفسنا، من التجرّد عن تكلُّفات الحياة ومظاهرها، من التماهي مع الوجع المُعاش والمُتخَيّل. القسوة حصيلة ظلم تجرعته، فلفظتُه عبر كلماتٍ ترجُمُ كلّ ظالم، وإنْ كنتُ أحدَ الظالمين. كلّما احتدم في داخلي وجعٌ ما، ازدادت قسوتي، ورجحت على ضَعفي وليونة طبعي التي أكرهها أحياناً.
> جاءتك الرواية مكثفة للغاية، قصيرة نسبياً، هل كان الأمر مقصوداً؟
- لا، أبداً. لكنّي -دون قصد- لا أجيد الثرثرة، وأقتصّ الزيادات من كلّ شيء. المهم عندي هو أنه عندما نفقد صوت الحقيقة ووجه الحاضر، نعتكف في عزلة عن الواقع القبيح، نرفض الصمت وننغمس في الخيال، نتنفسه كبديلٍ للهواء المسمم الملوّث بدماء الأبرياء، أو دنسِ الجهل والظلم ومرارة الحرمان والفقر الذي تحول إلى كابوسٍ قاتل أو حلمٍ واهٍ.
هكذا نطلق العنان لأوجاعنا وذكرياتنا، حتى لا تتفشى كالأورامِ في دواخلنا وتقتلنا.
> في روايتك «امرأة أمسكت في ذات الفعل» وصف مكثف مشحون لفتيات من جنسيات عربية مختلفة، يقفن بمفردهن في وجه عواصف عاتية لعالم غير عادل. إلى أي حد امتزج الواقع بالخيال في هذا العمل؟
- الواقعُ محضُ خيالٍ يا صديقتي. كلُّ ما نعيشه اليوم عارٍ من الحقيقة المطلقة. لذا، أنسجُ خيالاً من خيوط الواقع. أتصيَّد حدثاً، وأبني عليه مجموعة من الوقائع. أقف دائماً على منطقية الفكرة، فلا أستهين بذكاء القارئ، حتّى يكاد يجزم بأنه حدثَ بالفعل.
> أليس غريباً أن جميع النماذج الذكورية في العمل جاءت تقريباً غير سوية ومشوّهة على المستوى النفسي؟
- لا. مثلاً: والد «هلا» رجل فقير يعتدّ برجولته وشرفه. وهذا بديهيٌّ، الزوج والأبناء لا يعانون من أي تشويه. وحدها «هلا» تعاني من تشوّهات، نتيجة انجرافها في رغباتها. الرجل ليس مُتّهما بالتشوّهات النفسية في أعمالي. وأضع المرأة في تهمة لا أعتبرها تشوهاً بقدر ما فيها من جماليات.
> على المستوى الشخصي، تبدين غاية في الرقة والهدوء والصوت الخفيض، أما على الورق، فتبدو نصوصك محتشدة بالصخب والغضب والعنف، كأنك تكتبين بحدّ السكين، كيف ترين هذه المفارقة؟
- حيرتُ من حولي. هذا الهدوء وتلك السكينة، اكتسبتهما عبر ممارسة الكتابة؛ أفرغت سوادي وحزني ووجعي عبر كلماتي، دون التجمّل. ضريبة الرّقة دفعتها على الورق. كلماتي امتداد للأنوثة التي طغت على كينونتي، فسلبتني كثيراً من الفرح الذي لا أجده إلا في نجاح عملٍ لي. ربما تجاهلي لـهيلانة خلقَ عالماً مغايراً، لا يشبهها، رغم الشبه المريب بيننا.
> هناك أيضاً نَفَس شعري في نصوصك، فما علاقتك بالشعر عموماً؟
- قال لي ذات مرّة، الشاعر الجميل فاروق جويدة: «اكتبي الشعر يا هيلانة. أنتِ شاعرة بالفطرة، وإن كسرتِ الوزن». فورّطني فيه. على الرغم من العداوة الشديدة بيني وبين الشعر، فإنه يغلبني مرّات، وأنتصر عليه مرّات أُخر. لستُ شاعرة، وإنْ أجدت كتابة بعض الأبيات. فهي نزوة عابرة، تنتهي لذّتها عند حضور السرد.
> كيف ترين ظاهرة الشعراء الذين تحوّلوا إلى كتابة الرواية؟
- الرواية امرأة فاتنة، تمارس غوايتها على كلّ كاتب. البعض يسقط أمامها ولا يعود، البعض يسقط وينهض، والبعض لا يسقط؛ لكن هؤلاء يحلمون بها. الرواية خلاصة الأجناس الأدبية، وإن كنتُ أعتبر الشعراء أعلى منزلة من الروائيين. فالشعر أوّل أبواب الجحيم وآخرها.
> تعرّفين نفسك بأنك «مجرد كائن يتنفس حروفاً، ويأكل حبراً، وينام متوسداً الورق»، فكيف بدأت علاقتك بالكتابة؟
- بدأت مُذْ باشرَتْ ملامح أنوثتي تتناثر على جسدي. فلسفة الجمال شغلتني. قرأت الشعر والقصص، استفزّني الأدب، كوحي لم أستطع مقاومته! قال لي: «اكتبي، فلن يفهمك غير الورق». علاقة عشقٍ تجسّدت على هيئة نصوص. الخاطرة تحوّلت رواية. وأنا أستمد هويتي من كلّ التفاصيل التي تخترق حواسي؛ كالرقص، والموسيقى، والرسم، والسباحة، والركض، والطبخ، والسفر، وأمومتي، وآدميّتي، حتّى الأعمال المنزليّة جزء من هويّتي كروائية وكاتبة.
> على ذكر الرسم، ما الذي تبقى من علاقتك به الآن بعد أن صاحبك في بداياتك الأولى؟
- شغفي بالرسم لن يغيب، هو أحد الروافد والنوافذ المهمة للسرد، ومقوم جمالي خاص.
> وصف بعض الإعلاميين والنقّاد كتاباتك بـ«المتمرّدة» و«الجريئة»، كيف تنظري إليه؟
- إن لم تكن الكتابة تمرداً وخروجاً عن المألوف، فلا حاجة لنا بها. الكتابة رجسٌ نحاول التخلّص منه، سخطٌ نحتجُّ به على الكون، ونجتاحه. قناعاتٌ نسطّرها، وإن تعصّى علينا فعلها، تنتهي كنصٍّ حبيس الورق.
> يبدو أن لك رأياً سلبياً في الجوائز الأدبية على الساحة العربية؟
- انتقدتُ فقط «البوكر». أنا قارئة جيّدة إلى حدّ ما. وما وصل في السنوات الثلاث الأخيرة إلى القائمة القصيرة، وصل عن استحقاق. لكن الفوز ليس عادلاً. عندما تفوز رواية هدى بركات «بريد الليل» على «النبيذة» لإنعام كجه جي، أو على كفى الزعبي، في عمل أقلّ منافسة، فلا بد أن نتساءل: لماذا؟ ما هي معايير هذا الفوز؟! وعندما تفوز رواية «دفاتر الورّاق» لجلال برجس على رواية عبد اللطيف عبد ربه الجزائري، فهذا ظلم ظاهر، لا يمكن تبريره بالذائقة أو الصمت عليه، ولا أريد الخوض أكثر.
> يتردد اسمك أكثر من مرة في عناوين مؤلفاتك، كما في «مقتطفات الهيلانة»، وهي نصوص نثرية، و«الهيلانة» وهو ديوان شعري، ألم تتخوفي من اتهامك بالنرجسية وتضخم الأنا؟
- لا أخاف الاتهامات، ولا أعيرها اهتماماً. قناعاتي ابنة فعلٍ ووثوق، لا تتأثّر بمَن حولي. داخل كلّ كاتب أو كاتبة نرجسية ما. من الغباء أن يتلذذ بها أحياناً، ويتنصّل منها أحياناً أخرى. نحن بشر نعشق الأنا، مهما تظاهرنا بعكس ذلك.


مقالات ذات صلة

التويجري: الإصلاحات التشريعية مكّنت المرأة السعودية

الخليج التويجري أكدت مضي السعودية قدماً في الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان (واس)

التويجري: الإصلاحات التشريعية مكّنت المرأة السعودية

عدّت الدكتورة هلا التويجري رئيس هيئة حقوق الإنسان السعودية، تمكين المرأة تمكين للمجتمع كونه حقاً من حقوق الإنسان، مبيّنة أن الإصلاحات التشريعية جاءت ممكّنة لها.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
يوميات الشرق تشكل النساء نسبة 33 % من فريق مفتشي البيئة وقادته في «محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية» (الشرق الأوسط)

الجولة رقم 5000 في محمية «محمد بن سلمان الملكية» بإشراف «العنقاوات»

سيّرت «هيئة تطوير محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية» الجولة رقم 5000. بإشراف أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في السعودية، والأكبر في الشرق الأوسط.

غازي الحارثي (الرياض)
رياضة سعودية المقاتِلة السعوية خلال احتفالها بالتأهل (الشرق الأوسط)

السعودية «سمية» إلى نهائي بطولة العالم للكيك بوكسينغ

تأهلت اللاعبة السعودية سمية منشي إلى الدور النهائي من بطولة العالم للكيك بوكسينغ، والمُقامة حالياً في أوزبكستان.

«الشرق الأوسط» (الرياض )
الاقتصاد رئيسة لجنة تمكين المرأة في التعدين (تصوير: تركي العقيلي) play-circle 03:13

السعودية تعتزم إنشاء أول جمعية للمرأة في المعادن

كشفت رئيسة لجنة تمكين المرأة في التعدين رنا زمعي أن اللجنة تعمل حالياً على تأسيس اللبِنة الأولى وبناء واستكمال متطلبات تأسيس جمعية المرأة في المعادن.

آيات نور (الرياض)
يوميات الشرق رحيل رائدة الفن السعودي صفية بن زقر

رحيل رائدة الفن السعودي صفية بن زقر

غيّب الموت، أمس، رائدة الفن السعودي صفية بن زقر، التي أطلق عليها البعض اسم «موناليزا الحجاز».

عبير مشخص (جدة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.