كييف تتحصن استعداداً لـ«حرب شوارع»

معارك طاحنة على مشارف العاصمة الأوكرانية

تحصينات مستحدثة في ميدان كييف
تحصينات مستحدثة في ميدان كييف
TT

كييف تتحصن استعداداً لـ«حرب شوارع»

تحصينات مستحدثة في ميدان كييف
تحصينات مستحدثة في ميدان كييف

أصوات قصف متواصل وعنيف، في ضواحي كييف الشمالية والشرقية.
إنها الثامنة صباحاً. تستيقظ كييف لتستقبل يوماً مشمساً. لو أغلق زائر العاصمة أذنيه لاعتقد أن الربيع يبشّر هنا بموسم سياحي حافل؛ إلا أن أصوات القصف تهز كل مناطق شرق العاصمة الأوكرانية هذا الصباح. العمليات الحربية تجري في مناطق بعيدة نسبياً عن وسط كييف، إلا أن أصوات الانفجارات التي لا تنقطع، توحي بأن المعركة تقترب أكثر فأكثر.
صوت الانفجارات يمكن أن يقدم كثيراً من المعطيات لمن يملك حتى القليل من الخبرة في الحروب: ما يحصل هو قصف متبادل، كثيف ومتواصل، والجهات التي يستهدفها ممتدة على مساحات واسعة.
الأصوات الخافتة للقصف تشير إلى أماكن بعيدة عن شرق العاصمة وشمالها الشرقي، والأخرى الأقوى هي الأقرب. إلا أنه من الواضح أن ما يجري هو معارك طاحنة في الشمال الشرقي. وفي الجنوب؛ حيث تحاول القوات الروسية الوصول إلى إربين، أصوات الانفجارات تدوي هناك أيضاً.

سواتر وخنادق في إحدى الحدائق العامة غرب كييف

الانتقال من منطقة إلى أخرى داخل كييف بات يستغرق وقتاً طويلاً. اللقاء بالأصدقاء الأوكرانيين الجدد والحصول على مزيد من المعلومات منهم، بات يتطلب إضاعة وقت طويل على الطرقات. أما الشبان المستعدون للمعركة فهم يفضلون -كما يبدو- عدم الخروج من مناطقهم، والبقاء على استعداد لصد أي هجوم محتمل عليها.
فولوف، وهو شاب في مقتبل العمر (23 عاماً)، يقول إن «الوقت ليس للكلام الآن». يعمل فولوف الذي يرافق دائماً سيرغي (52 عاماً) ويترجم ما بين الإنجليزية والأوكرانية، ضمن مجموعة تنظم المقاومة المقبلة في كييف. «هذه مدينتنا، لن نغادر» كما يقول سيرغي باختصار.
يتردد فولوف في الحديث، لا يريد الكلام. يناقش مع سيرغي الذي يجيب بأنه «سيخبر قصته الكاملة بعد الحرب». يضيف فولوف: «لم نقم بشيء يذكر بعد. ما زلنا في مرحلة الاستعداد. لم يحصل شيء في كييف بعد».

عوائق حديدية على طريق سريع يربط شرق العاصمة بغربها

كان الرجلان يتحدثان بينما أصوات القصف المدفعي تُسمع بوضوح. بعض السكان المحليين قرب محطة المترو، يتحركون بهدوء. يعرض أحدهم سيجارة بينما هو يتحدث إلى هاتف يتولى الترجمة الفورية. يسأل عن سبب زيارة كييف.
هنا، بين المشاة، لا يزال الود والهدوء قائمين، بينما مع اشتداد ازدحام السير تتغير الأمور قليلاً بين السائقين. البعض يشتم، والبعض الآخر يتصدى لمن يحاول تجاوز الدور.
اقتضى الأمر الانتظار نصف ساعة في ازدحام السير، لقطع مائتي متر والوصول إلى نقطة التفتيش المؤدية إلى الجسر الغربي لكييف. عشرات الشبان المتطوعين يسهّلون حركة السير، بينما تقوم عناصر الشرطة المسلحة ببنادق «كلاشنيكوف» بالتدقيق في الهويات وتفتيش صناديق السيارات واحدة تلو أخرى، لا استثناءات اليوم.
الإشاعات عن تفجيرات محتملة وضعت الشرطة في حالة تأهب، وعلى الجسور انتشر مزيد من تحصينات الجيش، وقربها جنود يدققون أيضاً في الأوراق الثبوتية للعابرين. الجسور هنا مسألة حيوية للدفاع عن العاصمة، سواء عبر إبقائها سالمة طالما هي بيد الأوكرانيين، أو بتدميرها قبل سقوطها بيد القوات الروسية المتقدمة.
سائق التاكسي يقول إنه أيضاً كان صحافياً قبل تقاعده، وإنه لم يكن يحب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ولكنه الآن غيّر رأيه: «زيلينسكي ممتاز، إنه يقاتل معنا». كان السائق الستيني يتحدث وعلى سترته بقايا شريط لاصق أصفر فشل في إزالته. وحين يُسأل عن الشريط، يقول: «فولونتير»، أي أنه «متطوع» للدفاع عن العاصمة.

المزيد من العوائق على الطرق الرئيسية (الشرق الأوسط)

كيفما تنقّل زائر كييف سيرى هذه الأشرطة اللاصقة على أذرع الشبان والشابات. شريط أزرق أو أصفر بحسب التطوع، وهما بكل الأحوال لونا العلم الأوكراني. هؤلاء هم الجزء الظاهر من جبل جليد المقاومة الأوكرانية في العاصمة. ولكن حين تُسأل بائعة القهوة عن أقرب مركز تطوع، تستمهل البائعة في الجواب، كونها ما زالت تعمل بينما كل الأكشاك الأخرى أغلقت. تخرج وتعود بعد لحظات برفقة شاب لا يحمل إشارة التطوع على ذراعه. الشاب ضمن المجموعات المقاتلة المستنفرة هنا. يقول إنهم مواطنون فقط، وإنهم ينتظرون الجيش الروسي. تدرّب الشاب الذي رفض الإفصاح عن اسمه أو التقاط صورة له، مؤخراً، على الأسلحة. رفاق له علموه كيف يستخدمها.
وبينما كان هذا الشاب يتعلم استخدام الأسلحة، كان آخرون يقومون بتعبئة أكياس الرمل. شاحنات تنقل الرمل البحري إلى أسفل الجسور، ونحو عديد من الطرق الرئيسية، وشاحنات أخرى تجلب مزيداً من العوائق الحديدية المصنعة حديثاً، والمتطوعون ينشرون هذه العوائق ويشيدون المتاريس والدشم الرملية، بينما غيرهم يموّه هذه الدشم والتحصينات بشبكات التمويه بألوانها الداكنة.

عمال نظافة يعتنون بوسط مدينة كييف (الشرق الأوسط)

الدشم والحفر الخاصة بالأفراد باتت تحتل الحدائق العامة، لا سيما تلك المطلة على النهر، ليست كلها مشغولة بمقاتلين أو جنود. أغلبها ما زال خالياً؛ لكنها ستشكل تحصينات لحرب شوارع محتملة في حال اجتاح الجيش الروسي المدينة. وواضح تماماً من تخطيط أماكن حماية المقاتلين والجنود، أن الأوكرانيين سيعتمدون على القتال بعناصر قليلة وبحركة سريعة. لن يدافعوا كجيش نظامي عن مدينتهم، ولكنهم سيحاولون تكبيد المهاجمين أكبر قدر ممكن من الخسائر.
المكتب الإعلامي في الجيش الأوكراني لم يجب على رسائل بالبريد الإلكتروني. المكتب المعني بالسماح للصحافيين بالتحرك في حالة الحرب الحالية، وتزويدهم بالمعلومات والإرشادات، تخلى طبعاً عن مقراته الرسمية، وكذلك عن بريده الإلكتروني الرسمي. الآن الكل يستخدم بريد «غوغل»، أو أنظمة اتصال عامة مماثلة أكثر حماية، بعدما تعرض عديد من المواقع الحكومية للتدمير الإلكتروني مع بداية الحرب الروسية.
الحكومة في مكان ما من كييف. يمكن رصد حركة سيارات شبه عسكرية بين الفينة والأخرى في بعض نواحي العاصمة. تتحرك هذه السيارات كمواكب مدنية صغيرة، تضم سيارتين أو 3 سيارات على الأكثر. يسير بعضها خلف بعض على مسافات قريبة وبسرعة شديدة، تتجاوز الحواجز دون تمهل، كل ذلك يوحي بأنها تحمل شخصيات ميدانية أو سياسية، وأن تسهيل عبورها مضمون، طالما تحمل على زجاجها الأمامي علامات فارقة.
عديد ممن أمكن التواصل معهم في الأيام السابقة في كييف، باتوا يكتفون الآن بالإجابة على تطبيق «واتساب». يرفضون اللقاء المباشر. يتحججون بأن الوضع لا يسمح. أحدهم يقول إن الاستعداد لقدوم الروس لا يسمح له بالخروج من موقعه. يرفض تقديم مزيد من المعلومات.
الوقت الآن ظهراً، القطارات لا تزال تعمل في بعض المحطات، رابطة كييف بالمناطق الأخرى، لإجلاء السكان من ناحية أولى، ولجلب المواد التموينية ووسائل الصمود من ناحية ثانية. متسولون مشردون يقتربون طالبين السجائر، ثم يطلبون المال بحجة شراء أكياس نيلون لتنظيف الشارع. في هذه اللحظة، يمكن الانتباه إلى أن المدينة شديدة النظافة، وأن عمّال النظافة لا يزالون يمارسون عملهم اليومي. ليسوا الوحيدين. كل الخدمات لا تزال تعمل بجودة عالية. وانضم إلى الخدمات العامة الآن الجنود الذين يساعدون السكان في تسيير أمورهم الحياتية. يرشدون المارة إلى الطرق التي أُغلقت بأكياس الرمل أو العوائق الإسمنتية. الإنترنت، الهاتف، الماء، الكهرباء، سيارات الإسعاف، محطات المحروقات، كل المرافق تعمل. وحدهم المتسكعون يطوفون الشوارع بلا هدف، بينما المواطنون الذين بقي نصفهم تقريباً في العاصمة، يتحركون بسياراتهم، أو سيراً على الأقدام.
إنها الواحدة ظهراً. في ساحة الاستقلال، أو ميدان كييف، الجنود لا يزالون على انتشارهم نفسه، إلا أن المزيد من التحصينات الإسمنتية أضيف أمام المباني العامة. «الرئيس الروسي (فلاديمير) بوتين سيرغب بشدة في الدخول إلى هذه الساحة»، كما يقول أحد المواطنين المتطوعين للقتال، قبل أن يضيف: «هنا قمنا بثورتنا، وهنا تخلصنا من نفوذه، وهو سيسعى للثأر. لا أعتقد أن المنطقة آمنة. ربما الأفضل أن تغادروها قبل المعركة».
الجميع هنا يتحدث عن المعركة القادمة. الظاهر على سطح الأرض يوحي بأن الدفاع عن العاصمة سيكون شكلياً، ولكن تحت الأرض ثمة استعدادات في كل اتجاه للقتال. الأوكرانيون -كما يبدو- يستعدون لشن حرب شوارع تكبّد الجيش الروسي أكبر خسائر ممكنة، إذا ما حاول دخول عاصمتهم.


مقالات ذات صلة

اجتماع لحلفاء كييف لـ«رد الاعتبار» بعد مشادة المكتب البيضاوي

أوروبا جانب من اجتماع رئيس الوزراء البريطاني مع قادة دول أوروبية وكندا والأمين العام لـ«حلف شمال الأطلسي» في لندن الأحد (د.ب.أ)

اجتماع لحلفاء كييف لـ«رد الاعتبار» بعد مشادة المكتب البيضاوي

أكد رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، الأحد، أن أوروبا تمر بـ«لحظة لا تتكرر إلا مرة في كل جيل بالنسبة إلى أمنها»، وذلك في مستهل اجتماع لنحو 15 حليفاً لكييف،…

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (رويترز)

روسيا تشيد بمواقف ترمب وتَحمِل على أوروبا

أشاد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الأحد، بهدف الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، «المنطقي» لإنهاء الحرب في أوكرانيا، لكنه حَمَل على القوى الأوروبية التي…

«الشرق الأوسط» (موسكو)
مايك والتز مستشار الأمن القومي الأميركي خلال كلمته في مؤتمر «العمل السياسي المحافظ» (إ.ب.أ) play-circle

مستشار الأمن القومي الأميركي: اجتماع ترمب وزيلينسكي «لم يكن كميناً»

قال مايك والتز، مستشار الأمن القومي الأميركي، اليوم الأحد، إن واشنطن تسعى لنهاية دائمة لحرب أوكرانيا، مع ضمانات أمنية تقودها أوروبا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني خلال لقائها مع نظيرها البريطاني كير ستارمر (أ.ف.ب) play-circle

ميلوني: من المهم للغاية تجنب خطر انقسام الغرب

قالت رئيسة الوزراء الإيطالية، الأحد، إنه «من المهم للغاية تجنب خطر انقسام» الغرب، لدى وصولها إلى داونينغ ستريت لإجراء محادثات مع نظيرها البريطاني.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أميركا اللاتينية أرشيفية للرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا خلال مؤتمر صحافي بقصر بلانالتو في برازيليا (أ.ف.ب) play-circle

الرئيس البرازيلي: المشادة الكلامية بين ترمب وزيلينسكي «مشهد بشع»

وصف الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، المشادة الكلامية بين نظيريه الأميركي دونالد ترمب، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بأنها «مشهد بشع».

«الشرق الأوسط» (ساو باولو)

ماكرون يدعو ترمب وزيلينسكي إلى «الهدوء والاحترام»

TT

ماكرون يدعو ترمب وزيلينسكي إلى «الهدوء والاحترام»

اجتماع سابق بين ماكرون وترمب وزيلينسكي في باريس (أ.ف.ب)
اجتماع سابق بين ماكرون وترمب وزيلينسكي في باريس (أ.ف.ب)

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيرَيْه الأميركي دونالد ترمب والأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى «الهدوء والاحترام»، عقب المشادة الكلامية في البيت الأبيض التي أثارت مخاوف من انسحاب الولايات المتحدة من الملف الأوكراني وحدوث قطيعة مع حلفائها الأوروبيين.

وقال الرئيس الفرنسي لصحيفة «لا تريبون ديمانش» الأسبوعية، وعدة صحف أخرى تصدر الأحد: «أرى أنه بغض النظر عن الغضب، فإن الجميع بحاجة إلى العودة للهدوء والاحترام والتقدير، حتى نتمكّن من المضي قدماً بشكل ملموس؛ لأن ما هو على المحك مهم للغاية».

وذكر قصر الإليزيه أن ماكرون تحدّث منذ مساء الجمعة مع الرئيسَيْن الأوكراني والأميركي، وفق ما ذكرته «وكالة الصحافة الفرنسية».

وحذّر ماكرون من أنه إذا لم يتمّ إيقاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فإنه «سيذهب بالتأكيد إلى مولدافيا، وربما أبعد من ذلك إلى رومانيا».

وقال ماكرون إن انسحاباً محتملاً للولايات المتحدة من الملف الأوكراني «ليس في مصلحة» واشنطن؛ لأن «ما تفعله الولايات المتحدة منذ ثلاث سنوات يتوافق تماماً مع تقاليدها الدبلوماسية والعسكرية».

وأضاف أنه إذا وافقت واشنطن على «توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار من دون أي ضمانات أمنية لأوكرانيا» فإن «قدرتها على الردع الجيواستراتيجي في مواجهة روسيا والصين وغيرهما سيتلاشى في اليوم نفسه».