قبل ست سنوات، تنزّهت في بال قصي خولي فكرة «الوسم». أراد مسلسلاً يحاكي أقدار شباب ما بعد الحرب ويُدخل المتابع في صراع النافذين. يتولى براءة زريق المعالجة الدرامية، وتتنقل كاميرا المخرج سيف السبيعي ببراعة بين سوريا ومصر وسلوفينيا، فتخطّ ما يشبه المسارات المتشابكة المؤدية إلى الهاوية.
تتسبب الأزمة الاقتصادية في اليونان بترحيل أعداد من اللاجئين السوريين، بينهم مساجين من جنسيات أجنبية. من هنا تبدأ الحكاية، أو هكذا نظن، ليتبين أنّ خطوطها متصلة بمآسي الماضي. ينتهي الجزء الأول من أصل أربعة أجزاء، يشكل كل منها سبع حلقات. هذه جنازات مؤجلة لبشر لا يزالون بالصدفة على قيد الحياة، بعدما هشّمت الحرب توازناتهم الطبيعية. التفكك يأخذ مجراه والثقة مضطربة. وإن لم يستذئب المرء، نهشته الذئاب.
قصي خولي في شخصية جديدة باسم «نورس عبد الحق». استوحى والده البحار الاسم من هذه الطيور المحلّقة في الوسط بين الرمل والموج، مُرشدة أصحاب المراكب إلى اقتراب بلوغ الشطآن. لكنّ الابن، الهاربة عائلته إلى القاهرة من تداعيات الحرب السورية، يغيّر الاتجاه. المسلسل تأكيد على أنّ الأقدار تفلت من اليد، وقد يُرمى الإنسان على أرصفة تختاره ولا يختارها.
قصي خولي وإسماعيل تمر... ثنائية الوفاء
هي لعبة التراشق بالدم وشهيتها المفتوحة على الأسوأ. فالقلب إن لم يكن ميتاً تسبب بموت صاحبه. يحفظ «نورس» في داخله وفاء لعائلة غادرها الأب ولم تتنازل فيها الأم عن الثوابت الأخلاقية. هذه «الطينة» الراسخة في شخصيته، تُصعب عليه التعامل مع الآخرين بالحقارة نفسها. المعركة حامية بين ثلاثة أطراف: «نورس» والمافيا والقوانين المطّاطة. كلٌّ يغنّي على ليلاه والنزيف على مصراعيه.
مسلسل سوري من إنتاج «شاهد» و«إيبلا الدولية»، يقدّم مشهداً آخر لذيول الحرب وتأثيراتها النفسية والاقتصادية والاجتماعية في الشباب العربي. تُسدّ الأبواب أمام «نورس» برغم كونه قد تخرّج في الجامعة، فتُفتح أمامه منافذ مشبوهة للوقوف على قدميه. هذه إشكالية الوقوع في الخيارات الخاطئة حين تطلق الظروف صافرة الإنذار. فاللجوء غير الشرعي إلى اليونان، كرد فعل على استحالة الحياة في أرض الخراب وموطن النار، يكلف أثماناً أغلى من الأوراق النقدية. الثمن بشر قد يتحولون إلى وحوش. وقلوب تتحجّر. وغايات دنيئة تبررها الوسيلة.
ميرفا القاضي، بشخصية زعيمة المافيا «ألكسندرا»، نقطة ارتكاز المسلسل. حولها تدور أسئلة وأجوبة سرعان ما تنقضّ على مَن يجرؤ على المجاهرة بها. على ملامحها يستلقي الغموض والقسوة. يرتاح سيف السبيعي لهذه التركيبة الخشنة، وبينما تعزف على البيانو وتغنّي بالفرنسية، تفلت الأمور من بين يديها، ويحدث، على المقلب الآخر ما كانت تخشاه: السيطرة التامة لـ«نورس» وقبضه على الزمام وسط برك من الدم.
في القصة ما هو أبعد من التشويق بمعنى ارتكاب الجريمة وإزهاق الأرواح. فيها العقل المدبّر وبراعة النجاة. يُسجن «نورس» في سوريا بعد فشل محاولة اغتياله في طريق العودة إلى الوطن. تؤرجحه الحياة بين ورطة وأخرى. عقله فائق الذكاء يقوده إلى مأزق وينتشله منه، ليضعه في مأزق أشد فداحة. الكلمة الأخيرة للتخطيط والتنفيذ والاتجاه بثقة نحو الهدف. السجن مسرح ضخم لأحداث تتسرب من تحت الأبواب الموصودة ومن بين أقدام الحراس. ولعمليات انتحار مفبركة وسُمّ يُدسّ في الطعام. اللعب مخيف مع الرؤوس الكبيرة المتسللة إلى الأروقة عبر مُخبرين يُشترون بالمال. يلبس الغدار ثوب المغدور وتفوح روائح الشواء.
ميرفا القاضي بشخصية «ألكسندرا» زعيمة المافيا
إنها لعبة وقت، والشر لا بدّ منه. فيما عصابة مافيوية تصفّي بعضها بعضاً، تتساقط أسماء مصيرها الدوس. البشر صنفٌ يسحق وصنفٌ يُسحق. وحين تندلع الحرب، تكثر الأشلاء. تصبح المعادلة: هل اللدغ لإحقاق الحق أم للتسبب بالأذية؟ الصراع الحقيقي ليس بين «نورس» و«ألكسندرا»، هو صراع جيل ما بعد الحرب مع أمل يلفظ أنفاسه، وطموح مقتول، وأمان ممدد على الأرض.
الرأس الواحد يُكلف عشرات الرؤوس، مرة بالزرنيخ ومرة بالشفرة لقطع الأوتار. ينجح المسلسل في تجسيد زمن «أولاد الشوارع»، بأداء تمثيلي مُتقن. قصي خولي فنان في النظرة والنبرة والمشية والسيطرة على الشخصية. يشكل مع إسماعيل تمر بدور «رغيد» ثنائية وفاء. هذه خلطة من الصداقة النادرة في عزّ طغيان المصلحة والأنانية الفردية. صداقتهما المُهددة بالموت، بمثابة وردة ملقاة على حفرة موحلة. والوردة تظل وردة.
في مقابلهما، يحضر الخبث الإنساني المتمثل في «حسام» (عبد الرحمن قويدر) و«أبو عادل» (وائل زيدان بدور ممتاز). طمّاعان وقذران. نعود إلى الفارق في «الطينة». فـ«نورس» تُرغمه الحياة على التوحّش، والاثنان وحشان بالفطرة، مستعدان لأي شيء لملء الجيب. المتصدّر بالدور الأفضل، هو كفاح الخوص بشخصية «العقيد غسان». أداء محترف، واختزال متفوق للصرامة المدّعية واستغلال المنصب والتلطّي خلف البزة العسكرية لتمرير الصفقات.
لم يشكل الجزء الأول خلفية متينة للحضور المصري في العمل. كأنّ ما يجري في مصر يدور في مسلسل آخر، لولا ذكر اسم «نورس» الذي تهجّرت عائلته إلى القاهرة. محمد دسوقي بدور «تيسير» يترك وقْعاً. البساطة هشّة أمام الحياة الجارفة.
الأداء التمثيلي البارع في المسلسل