«بيروت للكتاب»... تخفيضات قياسية والقرّاء يفاجئون الناشرين

دور النشر أخرجت مخزونها وباعت آلاف الكتب

جناح مكتبة «بوك بازار» المتخصصة ببيع الكتب الإنجليزية
جناح مكتبة «بوك بازار» المتخصصة ببيع الكتب الإنجليزية
TT

«بيروت للكتاب»... تخفيضات قياسية والقرّاء يفاجئون الناشرين

جناح مكتبة «بوك بازار» المتخصصة ببيع الكتب الإنجليزية
جناح مكتبة «بوك بازار» المتخصصة ببيع الكتب الإنجليزية

«الناس متعطشة للكتاب»، هذه هي العبارة التي رددها الناشرون الذين سألناهم عن مدى رضاهم عن مشاركتهم وحركة الشراء، في «معرض بيروت للكتاب» في دورته (63)، الذي افتتح في الثالث من الشهر الحالي في «سي سايد أرينا» وسط بيروت، ويستمر حتى 13 منه. ظواهر جديدة عند القراء، واستراتيجيات مختلفة لدى الناشرين أيضاً، للتأقلم مع معطيات تختلف كلياً عما سبق أزمتي «كورونا» والانهيار الاقتصادي.
على عكس المتوقع، رغم الوضع الصعب، وارتفاع أسعار التنقلات، وحتى الشح في البنزين، فإن ثمة من جاء من خارج بيروت. تقول فاطمة بيضون من «دار رياض الريس للكتب والنشر» إنه يصعب عليها تحديد أنواع الكتب التي تشهد إقبالاً خاصاً. «الرواد يشترون كتباً متنوعة وفي مختلف المجالات. يشترون كل شيء، الرواية، الشعر، التاريخ، إصدارت قديمة وجديدة». تذكر فاطمة بيضون على سبيل المثال الإقبال على شراء كتب صادرة حديثاً مثل «الماسونية في عماء التاريخ» لصقر أبو فخر، وكذلك كتاب «الانتخابات النيابية اللبنانية 2016 - 2019. طقوسية اللادولة الطائفية» لشربل نحاس، و«الألغاز الكبرى في اليهودية» للمؤرخ العراقي فاضل الربيعي. وشهدت الدار عدداً من التواقيع، إذ أصدرت «حوارات في الثقافة والتاريخ» للدكتور خالد زيادة، و«الإعلام والحرب في بيئة أمنية متغيرة» لعبد الناصر العبري، وكتب أخرى.

كلمة السرّ: الحسومات
شهد المعرض عدداً كبيراً من حفلات التوقيع، بسبب تراكم الإصدارات في السنتين الأخيرتين، التي لم يُحتفَ بها بسبب أزمة «كورونا»، ومقتضيات الحجر، فجاءت المناسبة.
كلمة سرّ المعرض هي تخفيض أسعار الكتب إلى الحدود القصوى. فقد لجأ الناشرون إلى حسومات قياسية، لكنهم رغم ذلك يتحدثون عن أرباح محققة. يؤكد غالبية من سألناهم أنهم في يوم ونصف كانوا قد سددوا تكاليف اشتراكهم، وكل ما أتى بعد ذلك، هو ربح للدار. فالاشتراكات في الأصل كانت رمزية، مراعاة للوضع العام، مما شجع على المشاركة، رغم المخاوف.
يتحدث الناشر عبودة أبو جودة «دار الفرات»، الذي عرض مجموعات من المطبوعات القديمة لقيت إقبالاً خاصاً، عن «أن الربح بنسبة 100 في المائة كما كان الوضع سابقاً، والتعويل على المداخيل الكبيرة، هي أمور انتهت، وعلى الناشر أن يقبل بربح 20 في المائة أو أقل، والبيع بالليرة اللبنانية هو مفيد وتحتاجه الدور».

مزاج القراء: شراء كل ما هو رخيص
أما عن مزاج القراء فيقول أبو جودة «الناس تريد أن تقرأ. تشتري كل ما هو رخيص وفي متناولها”. تجربته في المعرض كانت مشجعة «أتيت بثلاثة آلاف كتاب إنجليزي وفرنسي، بيعت جميعها لم يبق منها سوى 200 كتاب. يتراوح سعر الكتاب بين 10 آلاف و25 ألف ليرة (الدولار نحو 20 ألف ليرة) هي في مختلف المجالات الموسيقى، والأدب، والفن، خلال ثلاثة أيام كانت قد طارت جميعها. الكتب العربية نفس الوضع». وماذا عن الأعداد الكثيرة من السلاسل الكويتية الموجودة في جناحه؟ مطلوبة للغاية، «عالم المعرفة» تباع بأقل من دولار، وكذلك «المسرح العالمي»، ومجلة «الفنون». الناس مقبلة، وتريد أن تشتري، لأن سعر الكتاب الجديد الذي يعرض بـ250 ألف ليرة (نحو 12 دولاراً)، ليس في متناول الجميع.
باعت «دار الفرات» بحسب ما يشرح أبو جودة أعداداً وافرة من أرشيف الصحف والمجلات القديمة، «النهار»، «السفير»، «الحوادث» وغيرها التي تعود إلى الأعوام ما بين 1975 - 1982. بنصف دولار للعدد الواحد. لماذا يشتري القراء هذا الأرشيف؟ يجيب أبو جودة: «حين يعثر القارئ على مقالة تعجبه يشتري العدد. ثم إن هذا الأرشيف يعود إلى عزّ فترة الحرب الأهلية. إنها عشرة أيام فقط، خلال فترة المعرض، تنخفض الأسعار، وبعدها، لن أبيع لا الكتب القديمة ولا الأعداد الصحافية بهذا السعر على الإطلاق. هي فرصة لمن يريد أن يقتني».

مؤنة السنة من الكتب
البعض يقول إنها فرصة مواتية للناشرين ليفرغوا مخازن دور النشر اللبنانية التي تحتوي على أرتال من الكتب المكدسة من عشرات السنين. لكن أبو جودة يفضل النظر إلى الأمر بطريقة أخرى «على الناشر أن يفكر في القارئ أيضاً. أنا خطتي أن أبيع عشرة آلاف كتاب، أخفف من المخزون عندي هذا صحيح، وأحصل على ليرة لبنانية كاش، وفي نفس الوقت أفسح للقارئ الذي لا يستطيع أن يدفع غالياً، أن يحصل على مؤنته من الكتب لكل السنة. وهذا أمر في غاية الأهمية». يشرح أبو جودة بأن سوق الكتاب في لبنان تغير، «هذا بلدنا، وعلينا أن نتأقلم مع الوضع الجديد».
جدير بالذكر أن الكتب الصادرة قبل الانهيار أي قبل عامين، كانت قد طبعت على السعر القديم للدولار مقابل الليرة، وهو ما يسمح للناشرين ببيعها اليوم بأسعار مخفضة جداً. متوسط سعر الكتاب في «دار رياض الريس» يتراوح بين خمسة دولارات ودولارين للكتاب. التخفيضات تصل إلى ما يقارب 60 في المائة على السعر الأصلي. وهو إغراء غير مسبوق لقارئ يبحث عن كتاب جديد.
هي الأسعار أيضاً التي اعتمدتها «دار نلسن»، إذ يحدثنا الناشر سليمان بختي عن سياسة تكثيف التواقيع التي أصبحت شبه يومية، وتخفيض الأسعار، بحيث يتراوح سعر الكتاب بين ستة وأربعة دولارات، وقليلة هي الكتب التي ترتفع إلى أكثر من ذلك. وبالنسبة لبختي فأكثر ما باعت داره هي كتب السير الذاتية والمذكرات، «الجمر والرماد» لهشام شرابي، «ذكريات أمين نخلة»، «أغصان وجذور» لإلهام كلاّب، «أوراق عمر مكتوب» لمنى دملوجي. ملاحظة ثانية لفتت بختي، «هي سلوكيات الجيل الجديد، الذي يأتي بلائحة الكتب التي يريدها مسجلة على تليفونه ويختار العناوين قبل الوصول إلى المعرض. التسكع بحثاً عن الكتاب ليس في أولويات الشباب، فهم يعرفون ما يريدون، ويقرأون عنه سلفاً وقبل الشراء».
ازدحام على الكتب الإنجليزية
من الظواهر اللافتة جداً إقبال الشباب على الكتب الأجنبية التي باعت بشكل ملحوظ. مكتبة «بوك بار» الموجودة في المعرض والمتخصصة بالكتب الإنجليزية، التدفق عليها كبير طوال النهار. ليست أرخص الموجود، لكن الجيل الجديد يقرأ الإنجليزية على حساب العربية في أغلبيته الساحقة. ما هو مشجع أنهم لا يزالون يبحثون عن الكتاب الورقي. صاحب المكتبة خضر شقير، يشارك في المعرض منذ عام 1996. يأتي بكتبه حالياً من موجودات السوق اللبنانية، ويقول: «بعنا عناوين في مختلف المواضيع، بشكل خاص الكلاسيكيات، والروحانيات، والروايات. وكل يوم المبيع أفضل من الذي قبله. كتبنا قديمة لكنها ليست مستعملة، يتراوح سعر الكتاب من نصف دولار وصولاً إلى 14 دولاراً للكتاب». أسعار لكل الميزانيات، وهو ما ينتهزه الجيل الجديد.
المخزون الكبير، من الكتب الإنجليزية المعروضة في غالبيته، مستورد من قبل الأزمة، وانتظر طوال فترة الحجر، وها هو يخرج ويستفيد منه القراء اليوم بأسعار خيالية، نسبة لما سيدفعونه عند إعادة الاستيراد. مكتبة «بوك بازار» وجهه أخرى للشباب، ظاهرة بحد ذاتها، إذ تعمر بالرواد على مدار اليوم، حيث تتكوم الكتب المستعملة وخاصة الإنجليزية والفرنسية. يقول صاحبها إنه افتتح في بيروت فرعاً ثانياً بعد الأزمة، بسبب تنامي الطلب.

عتاب المحبين
العتب كبير من عديد من الناشرين، على دور النشر الكبرى التي رفضت أن تكون في هذا المعرض خشية الأوضاع غير الملائمة، مفضلة انتظار المشاركة في الدورة المقبلة التي ستنعقد في ديسمبر (كانون الأول). تقول فاطمة بيضون: «المعرض جيد، ولو أنهم شاركوا معنا لكان الوضع أفضل بكثير. سياسة التعطيل تهيمن على البلد كله. الناس تريد أن تتنفس، وتقرأ. لماذا نعطّل بعضنا بعضاً، ماذا نستفيد؟»
وكان الخلاف قد حصل بين الناشرين عند الإعلان عن إقامة المعرض، وتغيبت دور نشر كبيرة، مثل «الآداب»، «الساقي»، «العربية للعلوم»، «الجمل»، «الجديد» وغيرها، معتبرين أن الوقت غير مناسب، وأن الناس ليست في وارد الاهتمام بالكتب بينما الشحّ هو السمة الغالبة، فيما اعتبر «النادي الثقافي العربي»، الجهة المنظمة تاريخياً للمعرض منذ 63 سنة، أنه لا يجوز حرمان بيروت من معرضها لثلاث سنوات، ولا بد من إعطاء أمل للناس، حتى ولو اكتفوا بالفرجة. ويقول أبو جودة: «هناك وجهات النظر، وأنا أتفهمها. لكل قراءته كما لكل جمهوره، والناس الذين يأتونه. ونحن ارتأينا أن نشارك، والنتائج جيدة». فيما يجد بختي أن «جميع المشاركين هذه المرة، جاءوا وهم يتقبلون حتى الخسائر، لأن الثقافة جزء رئيسي من تركيبة لبنان، ولا يجوز تغييب الكتاب. والمشاركة كانت واجب. لكن المفاجأة السارة أن الناس أتت واشترت، وكنا لنقبل بأي شيء. لكننا سعدنا أن الدور تبيع من (دار النهار) إلى (مركز دراسات الوحدة العربية) و(دار العلم للملايين)، وهذا ما أفرح قلوبنا. المدينة كانت بحاجة للعودة إلى إنسانيتها، إلى مواطنتها».


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش
TT

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش

حصل الكاتب الهندي أميتاف غوش، يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، على جائزة إراسموس لعام 2024 ومبلغ نقدي قدره 150 ألف يورو، لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين «لعنة جوزة الطيب» و«الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون»، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن «لعنة جوزة الطيب»: «ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون؟». هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه «لعنة جوزة الطيب». علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان: «ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير».

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن «ثروة بيل غيتس» وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا «دولة المخدرات الأولى». ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة أول «كارتل عالمي للمخدرات».

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: «لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك».

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، «علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال».