بقدر ما أكد عرض مسرحية «العابر»، التي اشتغل مخرجها المغربي أيوب العياسي على «دفتر العابر» (2012) آخر دواوين الشاعر المغربي ياسين عدنان، قيمة وغنى المشهد الشعري المغربي المعاصر وحيوية المبدعين المغاربة وانفتاحهم على بقية الأجناس الأدبية، فإنه أبرز أهمية التفاعل الإبداعي المتواصل، منذ عقود، بين الشعر والمسرح المغربيين.
وسبق للمسرح المغربي أن احتضن الشعر المغربي في عدد من الأعمال المسرحية التي طبعت مسيرة المسرح المغربي، لعل أشهرها «سيدي عبد الرحمن المجذوب» و«الحراز» و«الشمس تحتضر»، كما أن اشتغال أيوب العياسي على عمل شعري لياسين عدنان ليس الأول من نوعه، الذي يربط إبداعات هذا الشاعر المتألق بالمسرح، حيث سبق لمسرحيين آخرين أن اشتغلوا على عدد من أعماله، خصوصا قصائد ديوانه «رصيف القيامة» (2003).
وكانت الفنانة المغربية لطيفة أحرار قد اشتغلت، في عملها المونودرامي «كفرناعوم.. أوتو صراط» (2010)، على ديوان «رصيف القيامة». وبحسب أحرار، فالأمر لا يتعلق بمصاحبة للشعر أو تأثيث لفضاء إلقاء الشعر، وإنما بعمل فني إبداعي خاص، يستلهم أجواء خاصة ابتكرها ياسين عدنان، من خلال الانطلاق من ديوانه لبناء لحظة فنية حرة، جريئة ومعاصرة.
و«كفرناعوم.. أوتو صراط» هو فضاء درامي مستقطع من تاريخ ضارب في الأعماق الحية للإنسان، حيث يلتقي الدين بالأسطورة، وتتشابك المصائر والقيامات ليصير الزلزال قدرا لا فكاك منه، على شكل سفر في جغرافيا أسطورية مقدسة، في مدينة ذات أهوال غفلت عن تخليدها الخرائط: سفر بلا هدف واضح، وبحث عبثي عن جوهر الكائن وسط حديقة المهملات وبين أفياء بستان فسيح يضم كل أنواع الرفات والمتلاشيات. وباختصار، فـ«كفرناعوم» هو مقبرة للأرواح الحية: أرواح ترفض الموت، ولا تتردد في استعراض قيامتها الدرامية على الخشبة، مباشرة أمام الجمهور.
وقال ياسين عدنان، لـ«الشرق الأوسط»، إن تحويل نصوص ومقاطع شعرية من «رصيف القيامة» إلى عمل مسرحي هو «اختبار لجميع الأطراف التي تساهم في هذه العملية: اختبار للمسرحي ولمدى قدرته على النفاذ إلى الجوهر، وامتحان للقصيدة ولمدى إشعاعها خارج اللغة، لأن القصيدة، التي تختزل لعبة الشعر في اللغة واستعاراتها، قد تجد صعوبة في السفر خارج جسدها اللغوي، وأيضا، لأن الممارسة المسرحية، التي تستكين إلى النص الجاهز، تنفذه وترتب له مجلسه وثيرا على الخشبة، لا يمكنها المجازفة بالاشتباك مع الشعر. وهنا مكمن التحدي، الذي يواجه الشاعر والمسرحي معا، لأن المسرحي المبدع الموهوب لا يمكنه أن يضع طاقته وقلقه وجنونه في خدمة النص الشعري، مهما بلغت درجة إعجابه به وتماهيه مع عوالمه. وهو، كفنان، لا يمكنه أن يشتغل فقط، من أجل النص، أي بهدف تقديم معادل بصري للقصيدة، بل المفروض أن هدفه الأساسي هو الاشتباك مع النص والدخول في معركة (حامية الوطيس) معه أثناء العرض دون أن يؤدي هذا الاشتباك بالضرورة إلى (جريمة قتل)، أي إلى التنكيل بالشعر أو إلى خنق الشاعر فوق الخشبة».
وقارن ياسين عدنان بين تجربة كل من المسرحية المغربية لطيفة أحرار والمسرحية الإيطالية لورا فيلياني مع قصائد «رصيف القيامة»، فقال: «اشتغلت المسرحية الإيطالية لورا فيلياني على قصيدتي (في الطريق إلى عام ألفين)، وهي قصيدة من ديوان (رصيف القيامة)، مستلهمة منها عملا مونودراميا جميلا أدت بطولته الممثلة والراقصة الإيطالية سابينا سيزاروني. تابعت العرض حينما تم تقديمه في المغرب ووجدت فيه محاولة للمشي على هدي الشاعر في سفره. كانت القصيدة دليل سفر الممثلة وبوصلة المخرجة. وفيما قامت به لطيفة أحرار في (كفرناعوم.. أوتو صراط)، أجد الأمر مختلفا تماما. تأكد لي أن (رصيف القيامة) ليس أكثر من ذريعة، مجرد حافز على السفر الحر في الأزمنة والجغرافيات. وحتى المنطق الذي اختارت به لطيفة مقاطع دون غيرها من الديوان لا يزال غامضا لدي. إنه منطقها الخاص الذاتي جدا، بناء على قلقها الشخصي، وانطلاقا من تصور شمولي لها أعاد النص الأدبي إلى وضعه الطبيعي ليصير مجرد عنصر من عناصر أخرى تحتاج إليها المخرجة لإعداد خلطة العرض».
دفء العلاقة التي جمعت قصائد ياسين عدنان مع المسرح، سيتواصل مع ديوان «دفتر العابر»، من خلال مسرحية «العابر» لأيوب العياسي، الذي سبق له أن أعد عددا من الأعمال الشعرية للمسرح. يقول ياسين عدنان: «هي مَسْرحةٌ لبعض مشاهد الديوان ونقلٌ لبعض الحالات الشعرية من الكتاب إلى الخشبة. طبعا هذه المسرحة ما كانت لتتحقق ما لم تكن للمخرج رؤية دراماتورجية انطلاقا منها انتقى أولاً المقاطع التي اشتغل عليها، وانطلاقا منها دائما أنجز كولاجه المسرحي لتلك المقاطع لكي يكتب انطلاقا من «دفتر العابر» نصه الخاص الذي شكل أرضية مسرحية (العابر). طبعا حينما أقول نصه الخاص لا أعني أن المخرج قد تصرف في الديوان أو أضاف إليه، بل ظل وفيا للقصيدة نصا وحرفا، لكنه وبحرية كبيرة اختار من هذه القصيدة/ الديوان مقاطع بعينها وأعاد نسجها وتوليفها بطريقته ووفق رؤيته الدرامية الخاصة».
وعن مدى تلاؤم مشاهد «العابر» مع «دفتر العابر»، قال ياسين عدنان: «أنا شخص منفتح بطبيعتي. احترم الإبداع وأقدس حرية المبدعين. مثلما أرفض أن يتدخل أحد ليُملي علي ما يجب أن أكتبه، لا أسمح لنفسي بأن أتدخل لمبدع في عمله حتى وهو يشتغل على نص لي، أو على هذا النص الذي كان نصي قبل أن يستلمه ليشتغل عليه. لقد انتابني هذا الإحساس المُلتبس أول مرة مع لطيفة أحرار في «كفرناعوم». لطيفة تصرفت في النص بحرية كبيرة فاجأتني. لكنني مع ذلك أحببت لعبتها ولم أتدخل. قلت: هذا النص لم يعد نصي. نصي أنا هو الديوان الذي في الكتاب. أما ما تقدمه لطيفة على الخشبة فهو نصها الخاص وهي مسؤولة عنه. هكذا انخرطتُ في اللعبة بمحبة وافتتان وبتواطؤ لذيذ. مع أيوب العياسي الأمر اختلف لأنه ظل وفيا للنص. لكن الكاتب لا يعثر بسهولة على نفسه في العمل الإبداعي الذي يقوم على نص له مهما حاول هذا العمل أن يكون وفيا لنصه. أبدا لا يعثر على نفسه بسهولة. وشخصيا كنت مستمتعا بالبحث عن بعض ظلالي خلال فصول المسرحية. وهي لعبة ممتعة في حد ذاتها، وتناسب شخصيتي».
ويتحدث الشاعر ياسين عدنان، في ديوان «دفتر العابر»، عن الوجهات التي قصدها، فكتب عن المدن التي لا تلوح بالمناديل في المطارات، ولا تستقبل الزوار بالأحضان، فقال عنها إنها إسمنت، زجاج بارد وحديد، وإنها غير الأوطان، بينما صالات الترانزيت تكذب يوميا على الغرباء. وكتب عن القطارات، وعن «الكنزات والسراويل المنشورة في البلكونات» التي تبدو من شرفة القطار «مثل أجساد مسحوبة من أرواحها، معرضة لعبث الطير، لريح الانتهاك». تتبادل المدن ومحطاتها، في «دفتر العابر»، الأدوار: في الطريق إلى استوكهولم، «حتى الخيول ترتدي المعاطف»، والسماء «صخرة غامقة صماء»، أما سائق سيارة الأجرة أمام باب المطار فمستعد لكل المسافات دون أن يجد نفسه ملزما بالابتسام في وجهك. في مطار فرانكفورت: «كنا نتقدم باتجاه الشرطة، عبر الممر الضيق، حقيبة، حقيبة، والكلاب تتسلقنا، واحدا واحدا، أطفال الجنوب، أبناء المغاربة، يصرخون، أما الألمان – صغارهم – فعانقوا الكلاب». أما في مطار شيكاغو فرأى الحرير يصير حديدا، والابتسامة تستحيل زجاجا على محيا شرطية المطار، التي بدا أمامها الشاعر العابر كأنه صيد الصدفة. كأنه لعنة ضالة. وحين سيصل شاعرنا إلى أرض الأندلس، سيكتب: «لست غريبا، كأني من هنا مررت، حلما أو خلسة»، لكنه، سيحزن كثيرا في قرطبة لأن باميلا، البائعة المغناج، «لا تتحدث غير الإسبانية ولا تعرف ابن زيدون».
وبعيدا عما يربط الشاعر بالمخرج، قريبا منهما، سيكتب الناقد المغربي محمد آيت العميم، تحت عنوان «مسرحية (العابر).. سطوة النص وخفوت الأداء»، في معرض تقييمه للعمل المسرحي، أن مخرج المسرحية «وقع أسيرا لبلاغة النص، لم يستطع أن يتدخل فيه أو يغير صياغة بعض مقاطعه؛ رغم أنه انتبه بذكاء إلى المنزع الحواري للنص، ووظفه بشكل جيد»، مشددا على أن «الأداء توقف عند عتبة الحاشية ومحاكاة الدلالة النصية بطريقة مكشوفة؛ أي غاب المجاز في الأداء وتمت الاستعاضة عنه بمجازاة القول»، منتهيا، من تناوله النقدي، إلى طرح الأسئلة، وذلك من قبيل إن كان «تقطيع النص، وفق الرؤية الإخراجية الانتقائية، ضيع رهان العمل الأصلي»، قبل أن يخلص إلى أن المسرحية «عمل درامي محترم خاض تحديا صعبا».
حين تُلعب القصيدة على خشبة المسرح
اختبار للمسرحي.. وامتحان لإشعاع الشعر خارج اللغة
حين تُلعب القصيدة على خشبة المسرح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة