ربما لم تشغل بال النقاد والدارسين المنظّرين عبر التاريخ الثقافي إشكالية نقدية مثل إشكالية الأجناس الأدبية منذ أن وضع أرسطو تقسيمه الثلاثي المعروف للأجناس في كتابه «الشعرية» أو فن الشعر Poetics. وقد كانت الاتجاهات النقدية اللاحقة في نظرية الأجناس الأدبية تتراوح بين ثبات هذه الأجناس واستقرار ملامحها، وبين إمكانية تطور هذه الأجناس أو تحولها. ويبدو أن النقد العربي الحديث هو الآخر قد انشغل في وقت مبكر بهذه الإشكالية، وحاول إسقاط مخرجاتها على الأجناس والأنواع الأدبية العربية، قديمها وحديثها. ويأتي كتاب الدكتورة نادية هناوي، أستاذة النقد الحديث في الجامعة المستنصرية ببغداد الموسوم «نحو نظرية عابرة للأجناس في بينية التجنيس والتمثيل» محاولة جادة للمشاركة في هذا السجال المعرفي الخصب. والناقدة تعلن منذ البداية عن إيمانها بنظرية التداخل الأجناسي، معتمدةً كما هو واضح على نظرية «السيولة» التي طرحها الناقد البولوني زيغمونت باومان في كتابه «الحداثة السائلة». فهي ترى أن التداخل الأجناسي والتضايف النوعي والاندماج الشكلي والتعاين النمطي والتقارب الصيغي، أمرٌ واقع لا محالة، ليكون المتحصل وراء التجاوز على الحدود هو العبور.
وكان باومان قد طرح فكرة الحداثة السائلة التي يرى فيها أن العالم يتجه نحو مزيد من السرعة والميوعة والتبدل المستمر إلى حد غيّر من طبيعة الإنسان المعاصر الذي لم يعد يحتمل أشكال الثبات والديمومة.
ويبدو أن المؤلفة قد عملت في ضوء هذا المنظور لتأكيد «سيولة» الأجناس الأدبية وتحولها أو «عبورها»، وهو المصطلح الذي تفضله الباحثة على غيره من المصطلحات. إذْ تذهب الباحثة الكريمة إلى أنه إذا كان الرسوخ مطلباً مهماً من مطالب نظرية الأجناس، ومن بعدها نظرية التداخل الأجناسي، فإن السيولة والمران هما أهم سمة في نظرية العبور بين الأجناس التي يشبه عملها عمل الاختمار الذي يصبح فيه الجنس ذا قالب خاص ويمتلك المرونة للتفريع للأنواع والأشكال أو الاندماج فيما بينها أو صهر بعضها في بعض.
وترى الباحثة أن التداخل الأجناسي والتضايف النوعي والاندماج الشكلي والتعاين النمطي والتقارب الصيغي، أمرٌ واقع لا محالة حيث يكون هو العبور إلى جنسٍ سيكون هو الأصل وسيُعرف هذا الجنس بأنه جنس عابر للأجناس (Genre Transit Genres).
وتشير الباحثة إلى أنها تحاول بعملها هذا تجسير الهوّة الواقعة في مفترق نظريات طال الخلاف حولها، ثم انتهى لصالح أحدها، أي نظرية الأنواع الأدبية، ونظرية الأجناس الأدبية، لكنها تجزم بأن الانتصار كان لنظرية التداخل الأجناسي التي تتجه نحو مفهوم العبور بين الأجناس الأدبية.
وفي دفاعها عن مفهوم العبور بين الأجناس تذهب إلى القول إن هدفها هو توكيد أن هذا الانفتاح ما بين الحدود النصية لمختلف الأجناس لا بد أن تكون له قوالب بها بحافظ أو لا يحافظ فيها الجنس على حدوده منصهراً، مذاباً في جنس هو أقدر منه، ليكون الأول معبوراً والثاني عابراً عليه ضاماً إياه في قالبه.
وبذا يثبت الجنس العابر قدرته على الرسوخ، وقد تفنن قالباً صاهراً جنساً أو نوعاً كان قد تعالق معه، فيعبر هو عليه، ليكون الجنس العابر هو الجنس الصاهر والمذيب لأنواع دونه أو أجناس أضعف منه، وهكذا يتقنن جنساً عابراً. وبهذا فهي ترى أن العبور بمتعلقاته كافة من بينية وتجسير وعابرية وانتقال، مفهومٌ وحده يتمم التطورات المتسارعة في نظرية التجنيس. وتؤكد الباحثة أن هدف هذا النظر الانفتاحي هو إزالة القطيعة بين النسق والتاريخ، حيث تعني العابرية إمكانية تخطي الحد والتجاوز على القالب من أجل إنتاج إبداعي يجسّد الأصول لأجل أن يتجاوزها. وتخلص الباحثة إلى القول إن العبور هو إدراك ناجز لفحوى التهجين (hybridity) ومغزى السيولة ومنطقية الصهر، ومدلولية الإذابة التي يجسِّر بها الجنس الفجوة بينه وبين الأجناس والأنواع والأنماط.
وعند تطبيق مفهوم العبور الأجناسي تشير الباحثة إلى أن قصيدة النثر يمكن أن تخضع للتجسير مع أنواع أخرى تعبر إليها، لتندمج فيها لتكون جنساً عابراً للأجناس، منشؤه الأصلي هو التهجين الذي تشكلت منه قصيدة النثر جنساً أدبياً عابراً. وذهبت الباحثة في مناسبة أخرى إلى القول إن لقصيدة النثر أنواعاً أخرى ستنضوي فيها مستقبلاً مثل قصيدة الومضة والهايكو والقصيدة الدرامية والقصيدة المؤنثة وغيرها، والتي بدورها قابلة لأن تكون منضوية في جنس واحد عابر للأجناس هو قصيدة النثر.
وتؤكد الباحثة أن ولادة جنس أدبي قضية تقتضيها منطقية التطور الأدبي، ومتطلبات التذوق الجمالي، وتستشهد على ذلك بالقصة القصيرة التي أصبحت في زماننا جنساً أدبياً يوصف بأنه مستقل ويراد له اليوم أن يكون عابراً ليستولد داخله أجناساً أو أنواعاً هجينة شتى، كما تستشهد الباحثة بظهور الرواية التي كانت مرتبطة في بدايتها بالتاريخ لكنها سرعان ما انفصلت عنه، خصوصاً بعد إدراك أن التاريخ سرداً تتوفر فيه عناصر السرد جميعاً من حبك وشخصيات وزمكانية، وأن التاريخ ليس هو الغاية، والرواية هي الوسيلة، وإنما الرواية هي الغاية التي ينبغي للتاريخ أن يكون وسيلتها وأداتها والخادم الذي يراد منه أن يكون معنياً في تحقيق الفاعلية السردية. وحذرت الباحثة من مغبة التعامل مع بعض المسميات مثل القصة الوامضة، والرواية القصيرة (النوفيلا) والقصة القصيرة جداً، والأقصوصة والسرد القصير، وحلقة القصة القصيرة، بوصفها أجناساً، لأن ذلك سيؤدي لحصول متاهة في عملية التجنيس. وتذهب الباحثة إلى أن حيرة المبدع والمتلقي تنتفي من خلال نظرية العبور وتتاح للعملية الإبداعية ممكنات جديدة لم تنتجها من قبل نظرية الأنواع ولا نظرية الأجناس، ولا التداخل الأجناسي.
تكشف لنا الباحثة د. نادية هناوي في كتابها هذا عمق استيعابها لقضايا نظرية الأدب ومبادئ الشعرية العامة، فضلاً عن تقديمها تطبيقات نقدية على نماذج نصية ملموسة بموازنة بين ما هو نظري وما هو تطبيقي، وهو منحى كشفت فيه الباحثة في أغلب مؤلفاتها النقدية السابقة ومنها السرد القابض على التاريخ: مباصرة في رواية التاريخ ومعاينة في روايات عربية وأجنبية وكتاب «الجسدنة بين المحو والخط والذكورية والأنثوية... مقاربات في النقد الثقافي» وغير ذلك الكثير. يحق لنا هنا أن نحتفي بولادة منظِّرة أدب عربية تدخل هذا الميدان بثقة وشجاعة.
نظرية الأجناس الأدبية من الثبات إلى العبور
نظرية الأجناس الأدبية من الثبات إلى العبور
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة