الإصلاح الديني.. واللحظة «الداعشية»

يحظى مصطلحا «التجديد» و«الإصلاح» الدينيين بخلط واضح في المفاهيم

محمد عبده  -  جمال الدين الأفغاني
محمد عبده - جمال الدين الأفغاني
TT

الإصلاح الديني.. واللحظة «الداعشية»

محمد عبده  -  جمال الدين الأفغاني
محمد عبده - جمال الدين الأفغاني

تتناسب دعوات الإصلاح الديني أو صحواته مع صحوات التطرف، وقد صعدت في السنتين الأخيرتين موجته الأخيرة، مع صحوة التطرف الداعشي، فتكررت دعوات رسمية وغير رسمية للإصلاح وتجديد الخطاب الديني، من أبرزها ما أطلقه العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - أثناء لقائه بالأمراء والعلماء في الثاني من أغسطس (آب) عام 2014 وقد طالب العلماء بأن ينفضوا عن أنفسهم الكسل، وكرّرها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الأول من يناير (كانون الثاني) هذا العام 2015 داعيا لتجديد الخطاب الديني، ومشددا على ذلك في لقاءاته وخطبه المتوالية!

لا شك أن الصحوة الراهنة للتطرّف صحوة غير مسبوقة، تستدعى جهودا إصلاحية وفكرية غير مسبوقة كذلك. فقد نجح التطرف الإرهابي في بؤر التوحش، وفراغات ما بعد «الانتفاضات»، وضعف وهشاشة الأنظمة الفاشلة، واللعب على التناقضات الإقليمية والدولية، في أن ينشئ هذا التطرّف ملاذات آمنة تدفع من طموحه للدولة التي هي «دار الإسلام» عنده، وما سواها «دار كفر»، حتى مكة المكرمة والمدينة المنورة «دار كفر» كما نشرت «مؤسسة الغرباء» الذراع الإعلامية لـ«داعش» عام 2013 في رسالة لأحد منسوبيها المدعو «أبو أسامة الغريب» السجين حاليًا.
لقد نجحت تنظيمات التطرّف ودعواته، في استغلال الثورة المعلوماتية والسيولة ما بعد الحداثة، وعودة المقدس عالميًا، في نشر أفكارها وتجنيد عناصرها بشكل كبير، فاستغلت ابتداءً تقليدية رجال ومؤسسات الوسطية، كما أنها تحسن استغلال الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتلعب دائمًا على أوتار الطائفية، والأزمات القيمية، وأزمات الهوية، وتغرق في تراث تأويلي تقرأه اختزالا واجتزاء يركز على أحكام الديار، دون تاريخية، وعلى الولاء والبراء، كما تستند في ممارساتها الوحشية على مفهوم القصاص بالخصوص. فطالما يقتل مسلمون - حسب «داعش» - في مكان ما، قديما أو حديثا، يجوز لتنظيمها الحرق قصاصا والتمثيل قصاصا والذبح قصاصا، وهذا مع أن القصاص لا يكون إلا فيما أحل الله، فلا قصاص في زنا ولا قصاص في تمثيل، ولا قصاص في حرق إن وقع من أعداء المسلمين حرق! ولكنها تستغل الجهل بهذه القواعد الحاكمة وعدم انتشارها فتروّج باطلها وكأنه الحق.
لقد أعاد تنظيم داعش في مارس (آذار) الماضي 2015 إصدار كتاب أحد منسوبيه «أبي الحسن الأزدي» وعنوانه «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفار معاقبة بالمثل» رغم أنه كتبه في مرحلته «القاعدية» التي يكفرها «داعش»، ويرفضها اليوم المؤلف في عدد من رسائله الأخرى. وفيه يستشهد الأزدي بنصوص مختزلة ومقتطعة عن سياقه ونصه للإمام ابن تيمية، ومتجاهلاً ما قعده ابن تيمية نفسه في قاعدة حاكمة من حرمة قتل النساء والأطفال، حيث يقول ردا على أمثال هذا الداعشي: «أوجبت الشريعة قتل الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال، مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح، من قتله أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته بمال أو نفس، عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة» (ابن تيمية، مجموع الفتاوى 28 / 354) و(السياسة الشرعية ص 106) وهو ما نفصله في موضع آخر.
وأسفا أن بعض المنسوبين للإصلاح الديني، خاصة من دعاة الفضائيات وغيرهم، يتبع «داعش» و«القاعدة» في هذا التأصيل، فبدلا من أن يرد زيفها عن أصيلها، يسارع فيتهم البخاري حيث استندوا إليه، أو يسارع فيتهم ابن تيمية ويراها أصل الإرهاب، دون أن يحقق صحة تأصيلهم من باطله! وهو في هذا قد يبغي الإثارة دون العلم والشهرة دون تحقيق الفهم! وبدلا من أن ينفي عن الدين هذا التأويل الداعشي المنحرف الذي يشبه تأويل الخوارج في الحاكمية، وادعائهم الصحة والجهاد، فهم لم يسموا أنفسهم بالخوارج ولكن سماهم غيرهم، بل كانوا يسمون أنفسهم «جماعة المسلمين»، وهي نفس تسمية «جماعة التكفير والهجرة» لنفسها، ويسمون أنفسهم «الشراة» أي من يبيعون أنفسهم لله، وهي الصورة التي ينشرها «داعش» عن نفسه أيضا. ولكن ما زالت استراتيجية التجديد والإصلاح الديني تبحث عن نظم ونظام مؤثر وفاعل يتجاوز نخبويتها ويغادر بها جدران الأفراد والمؤسسات الداعية لها، وتتوزّع جهود كثير من المنسوبين لها حتى تكاد تفقد الطريق والهدف، وتفتقد استراتيجيات واضحة في التمكين لمفاهيمه، في اللحظة الداعشية الراهنة، والتشبيك فيما بينها، عبر التعاون والتكامل المشترك لتحقيق غايته وتجاوز عزلتها.
نحتاج هوية معرفية تحدد ما هو إصلاح تجديد الخطاب الديني؟ حتى لا ينجرف البعض باسمه نحو عدمية التراث وذبحه أو حرقه، وصياغة استراتيجيات مؤثرة تنظم جهوده وتحقق أهدافه التي تتنوع حسب تحديها الراهن في التطرف الداعشي، وإرهابه المنظم والناشط تجنيدا ودعوة وادعاء.

* أولا: نحو ضبط المفاهيم
رغم تبادل المفردتين «التجديد والإصلاح» الموقع وتطابق مفهومهما في أغلب الأحيان، إلا أنه يمكن رصد عدد من الفروق بينهما كما يلي:
1 - يركز مفهوم التجديد على خدمة الدين وتجدّده وتجديد علومه وآثاره، لذا أطلق على الكثير من المحدثين والفقهاء والدعاة الحركيين، كما وصفت كل جماعة أميرها أنه «المجدّد» فعلها «الإخوان المسلمون» مع حسن البنا، كما فعلتها «الجماعة الإسلامية» في باكستان مع المودودي، وفعلها فارس آل شويل الزهراني المحبوس حاليًا، مع بن لادن في كتيبه «مجدّد الزمان وقاهر الأميركان» ويفسّر التجديد هنا تفسيرا آيديولوجيا يتماهى مع تفسير هذه الجماعات التقليدية، التي قد تعتبر المجدّد جماعة وليس فقط فردا.
2 - من جانب آخر يهتم الإصلاح الإسلامي بعلاقة الدين بالعصر، وقد بدأت إرهاصاته الأولى مع صدمة الحداثة والعلاقة بالغرب، فهو يهتم بشكل رئيس بالواقع، وينحو نقديا وجديدا في الفهم والتفكير الديني بدرجة أكبر.
3 - سبق تعبير التجديد تعبير الإصلاح، في تاريخ الأفكار الإسلامية، فقد استخدم في الحديث النبوي في الحديث المشهور عن «بعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» والذي ورد في سنن أبي داود عن سليمان بن داود المهري في «كتاب الملاحم»، وقد صاغ السيوطي (توفي سنة 911 هجرية) أرجوزة بعنوان «تحفة المهتدين بأخبار المجدّدين» حتى عصره في القرن التاسع الهجري الذي تمنى أن يكون هو مجدده فيها، وتعبير التجديد هو الأكثر استخداما لدى المؤسسات والجماعات الدينية، لهويته وأصالته تلك.
4 - ظهر مفهوم الإصلاح الإسلامي، متأثرا أو متماهيا مع حركة الإصلاح الديني في أوروبا، بشكل رئيس، وكان أول ظهوره مع ما يعرف بحركة «الإصلاح الإسلامي» أو «مدرسة النهضة الإسلامية» التي بدأت مع جمال الدين الأفغاني (1839 - 1897) بعد قدومه مصر في سبعينات القرن التاسع عشر، ثم محمد عبده (1849 - 1905 ميلادية) وعبد الرحمن الكواكبي (1855 - 1902) وتلامذتهم الذين توزّعوا على اتجاهات الإصلاح الديني والإصلاح الفكري معًا، من رشيد رضا في أقصى اليمين إلى أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين في أقصى اليسار.
5 - يختلف تجديد الخطاب الديني أو إصلاحه عن نقد الفكر الديني أو رفض المقدس، ففي هاتين الأخيرتين انفصال عن مرجعيته وقطع منفصل مع الخطاب ومرجعيته في آن.
ثانيا: موجات الإصلاح وإعاقات التطرف
كانت موجة الإصلاح الديني الأولى في القرن التاسع عشر، ثورة في وجه التخلف وطلبا للتقدم، كما مثلتها حركة الأفغاني وعبده وتلامذتهما، وقد أتت أكلها في النصف الأول من القرن العشرين، واستمرت حتى أعاقتها دعوات وتنظيمات أصابت المسلمين، مع سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 تدعو لعودتها فيما يشبه إمامية سنّية تماهت مع الإمامية الشيعية في انتظار «الإمام الغائب» أو «المهدي المنتظر»، مما قطع مسارها وتمددها، وفتحت واقعنا على أسئلة أبجدية دائرية واتهامية لا تنتهي، كما فتحته الانتفاضات العربية الأخيرة، حول الهوية والمرجعية والخلافة والإمامة وما شابه..!
ثم أتت موجات أخرى مع جماعات التكفير والجهاد منذ ستينات القرن الماضي، وحتى العقد الأخير من القرن الماضي، ونشطت مؤسساتيًا مع أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ثم صعدت مجددا مع «داعش» و«دولته» في العراق وسوريا التي أعلنها «خلافة» في يونيو (حزيران) الماضي، ورغم أن «داعش» غدا تنظيمًا معولمًا تنتشر له فروع في بلدان كمصر والجزائر وليبيا وغيرها، فقد نشطت بجواره تنظيمات متطرفة أخرى في عدد من الأقطار.

* استراتيجيات مطلوبة
يبدو هدف موجة «الإصلاح» أو «تجديد الخطاب الديني» الحالية هي مواجهة التطرّف بدرجاته المختلفة، تشدّدا وإرهابا وعنفا واستحلالا، هذه الدرجات المختلفة والمتراوحة بين العنف الرمزي والعملي، وهذا يستدعي من العمل المؤسسي فعالية وضوابط أكثر مما هو كائن، يمكن أن نحدد أبرز ملامحها فيما يلي:
1 - تحديد الهوية المعرفية للوسطية
فما استقر أهل السنة والجماعة وانتشرت دعوتهم، رغم أنه لم يكن مذهبا حاكما دائما، إلا لتركيزهم على الأمة والدعوة دون الإمامة بالتعبير القديم، أو الحاكمية بالتعبير الحديث، فهي مسائل اجتهادية تقديريه كما يقول الجويني وابن تيمية.
كذلك أجمع أهل السنة والجماعة منذ وقت مبكر، على رفض الخروج على الحكام، وفي ذلك يقول ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية»: إن «الخروج على أئمة الجور كان مذهبًا قديمًا لأهل السنة ثم استقر الإجماع على المنع منه». وقال أيضا فيه «ذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالَهُمْ بِالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ظُلْمٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لأن الْفَسَادَ فِي الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ أعظم مِنَ الْفَسَادِ الْحَاصِلِ بِظُلْمِهِمْ بدون قِتَال»، كما أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون ولكن يخطئون كما كان يقول أبو حنيفة في الفقه الأكبر.
2 - استراتيجية نقدية لخطاب التطرّف
لا بد أن تتحوّل المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، إلى النقد الشجاع والملتحم لغايات وأهداف وأسانيد هذه الجماعات في الخلافة والإمامة وغيرها من المسائل التاريخية التي اختلطت باعتقاد المسلمين، رغم أنها ظهرت بعد انقطاع الوحي، وما يرتبط بها من مسائل الخروج وأحكام الديار والولاء والبراء، وتنزيل هذه الأحكام التاريخية على الواقع المعاصر تأويلا، وكذلك التحاما بخطابها وأدبياتها التي تنشرها غالبا على الشبكة العنكبوتية، وهو ما لا يجهد نفسه فيه إلا القليلون.
3 - التفريق بين تجديد الخطاب الديني ونقد الفكر الديني
يواجه بعض المنسوبين للإصلاح، أو تجديد الخطاب الديني التطرف بتطرف مضاد، وانحراف المتطرفين بتطرف مضاد، وخصوصا في الفضائيات، فيخلطون بين الدين والتدين وتاريخ العلم الديني (علوم الرواية والحديث) وعلوم استنباط الأحكام (علوم الفقه وأصوله ومقاصده) ويجتزئون النصوص كما يفعل أنصار التطرف، فتنزلق بهم أطروحاتهم لما قد يستنفر ويستفز مشاعر الجماهير المسلمة والمتدينة بطبيعتها، وقد تستغله التنظيمات المتطرّفة في اتهام الحكومات والمؤسسات بحرب الدين خلطا بين الخاص والعام معهودا منها.
4 - السياسات الثقافية والشبابية
عبر تفعيل طاقات الشباب المتديّن، وترشيد وعيهم، واستهدافهم ببرامج اجتماعية وتثقيفية مستمرة تملأ فراغات وجداناتهم الدينية بهذا الفهم الوسطي، الذي يسعى التطرف دائما لملء فراغاته.
*كاتب وأكاديمي مصري



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».