ليبيا أمام تكرار «سيناريو» الانقسام

التنازع على السلطة يعيد فتح أبواب الصراع

صورة أرشيفية لإحدى جلسات مجلس النواب الليبي
صورة أرشيفية لإحدى جلسات مجلس النواب الليبي
TT

ليبيا أمام تكرار «سيناريو» الانقسام

صورة أرشيفية لإحدى جلسات مجلس النواب الليبي
صورة أرشيفية لإحدى جلسات مجلس النواب الليبي

يأمل قطاع واسع من الليبيين وضع حد للمراحل الانتقالية التي عايشوها قبلاً، بإجراء انتخابات تضمن وجود رئيس شرعي للبلاد. إلا أن الأجواء، التي تمر بهم بعد تكليف حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، خلفاً لحكومة «الوحدة الوطنية» بقيادة عبد الحميد الدبيبة، يراها سياسيون تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» عاصفة توشك أن تفتح أبواباً من الصراع، لا يعلم إلا الله مداه، وبأي كيفية سينتهي.
الملمح الأول لما ستجري عليه الأمور في الآتي من الأيام، يعد تكرار ما قد سبق من وجود حكومتين متنازعتين على السلطة. ولئن كانت الحكومتان هذه المرة تتمركزان في غرب ليبيا، فإن كلاً من رئيسيهما يتمسك بـ«شرعيته»، ويمضي في تنفيذ خططه وبرامجه.
ومكمن الخطر في هذه المعضلة، أن الجميع سيتحسس مسدسه؛ لأن الطرفين يعتصمان خلف كتائبهما المسلحة، وربما يحتكمان إلى قوة السلاح، إذا لزم الأمر؛ ما سيبقي ليبيا رهينة تنازع جديد تجتر فيه آلم الانقسام، وتستعيد سيناريوهات الماضي.
هنا، يرى سياسيون ليبيون، أن الأسلم للبلاد والعباد إقدام الدبيبة على تسليم السلطة سلمياً لغريمه باشاغا. لكن، إذا تعذّر ذلك «فإن ليبيا ذاهبة إلى فصل آخر من تأزم القضية»، تضيع على أثره سدى جهود بذلتها أطراف محلية وإقليمية ودولية، طوال عقد ونيف، لتبدأ من جديد رحلة البحث عن «الخلاص».
قبل أن يُقدم مجلس النواب الليبي، عن منح الثقة لحكومة فتحي باشاغا، خلال انعقاده في مدينة طبرق بأقصى شرق البلاد على مدار يومين، كانت تحذيرات المواليين لعبد الحميد الدبيبة ساخنة. كذلك كانت لهجة الوعد والوعيد متصاعدة، بعدما هدّد ما يسمى بـ«تجمع قادة ثوار ليبيا» الداعم له باستخدام السلاح، وطالبه بألا يسلّم السلطة لحكومة باشاغا، ومضى متوعداً «أيدينا على الزناد، ونحن على أهبة الاستعداد للدفاع عن ثورتنا، وصون دماء شهدائنا الأبرار».
«التجمع» دافع عن الحكومة، التي قال إنها «نِتاج مؤتمر جنيف الذي رعته الأمم المتحدة وأشرفت عليه»، قبل أن يحذر البعثة الأممية هي الأخرى من «التدخل السافر والمستفز في شؤون البلاد». إلا أن البرلمان، الذي أعلن أن كثرة من نوابه تلقوا «تهديدات بالقتل»، لم يلتفت لأي تحذيرات، مفضلاً وضع الجميع أمام الأمر الواقع، ووافق لتوه على الحكومة في جلسة رأت جبهة الدبيبة، أنه اعتراها أعمال «تزوير وتلاعب». وللعلم، ضمت التشكيلة الحكومية الجديدة، التي تحمل اسم «الاستقرار الوطني»، ثلاثة نواب لرئيس الوزراء و30 وزيراً، إضافة إلى ستة وزراء دولة.
وسبق أن تسلمت حكومة الدبيبة، المؤقتة، السلطة عقب انتخابها من أعضاء «ملتقى الحوار السياسي» الليبي، في الخامس من فبراير (شباط) 2021، إثر مباحثات رعتها الأمم المتحدة لأكثر من سنة بين تونس وجنيف.
انقسامات حول الحكومتين
بدا من الساعات الأولى على منح الثقة للحكومة الجديدة أن جميع الليبيين ينتظرون الذي يقع حالاً. ولكن على الرغم من ذلك تحدث باشاغا بثقة عن أنه سيتسلم السلطة سلمياً، ويمارس مهامه من طرابلس. وفي المقابل، ظل الدبيبة يتوعد بمعاقبة «مَن يتجرأ على الاقتراب من أي مقر حكومي»، متهماً رئاسة المجلس، بأنها «انتهجت التزوير للتمديد». وأكد محمد حمودة المتحدث باسم «الوحدة الوطنية» في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أن الحكومة «لن تتخلى عن مهامها، وتدعو الجميع لإجراء الانتخابات في منتصف العام الحالي».
مدافعون عن حكومة «الوحدة» من بينهم عبد الرحمن السويحلي، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، رأى أن الموافقة على حكومة باشاغا، «ليست إلا قفزة في الهواء؛ هي والعدم سواء». والسويحلي، الذي ينتمي إلى مصراتة - مدينة الدبيبة وباشاغا - التي يتوقع أن تلعب دوراً محورياً إمّا في استيعاب التوتر أو تصعيده، زاد من انتقاده، وقال، إن كل ما صدر عن مجلس النواب «باطل ومخالف للإعلان الدستوري والاتفاق السياسي». وتمسك ببقاء حكومة حتى إنجاز الانتخابات في يونيو (حزيران) المقبل.
من جهة ثانية، انضم خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، إلى رؤية السويحلي، متهماً «النواب» أيضاً بمخالفة الاتفاق السياسي لكونه انفرد بالقرار دون إشراكه فيه، متوعداً بـ«اتخاذ ما يلزم من إجراءات تجاه هذه المخالفات». أما الشيخ علي مصباح أبو سبيحة، رئيس «المجلس الأعلى لقبائل ومدن فزان» (جنوب ليبيا)، فقد ذهب إلى أن ما يجرى على الأرض الآن، «ليس مفاضلة بين باشاغا والدبيبة»، بل إن القضية، من وجهة نظره، تتمثل فيما سمّاه «الاستهتار بإرادة الشعب والضحك عليه واستغفاله»، وأرجع ذلك لـ«جملة من المخالفات القانونية وقعت في جلسة منح الثقة».
بالتوازي، وجد قرار مجلس النواب بمنح الثقة لباشاغا، مَن يدافع عنه باعتبار أنه الجسم السياسي الوحيد المنتخب في ليبيا، وأن جميع إجراءاته كانت «قانونية واتسمت بالشفافية، وتم بث الجلسة على الهواء». وأيضاً، لكونه وجد ضرورة لعزل حكومة «الوحدة الوطنية»؛ لأنها «فشلت في إدارة شؤون البلاد، وأخفقت في إجراء الانتخابات». وهنا تمنى علي التكبالي، النائب عن مدينة طرابلس المركز، أن تكون حكومة «الاستقرار الوطني» اسماً على مسمى. وأردف «تصويت مجلسه عليها أنقذ ليبيا من الانقسام، وعلى الجميع أن يقبلوا بالأمر ويعملوا من أجل توحيد الصف».
الرهان على الانتخابات
ليبيون كثيرون ضاقوا ذرعاً بما يحدث من تجاذبات ومناكفات بين الأجسام السياسية المسيطرة على المشهد راهناً، ويدعون إلى رحيلها. لكن هذا لا يتأتى إلا بإجراء انتخابات سريعة، وهو ما عبّر عنه جمال الفلاح، رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية»، الذي اعتبر هذه الأجسام السياسية ومنها مجلس النواب و«المجلس الأعلى للدولة» سلطات فاقدة للمشروعية ومغتصبة لإرادة الشعب الليبي في الانتخابات.
وفسر الفلاح، في حديثه إلى «الشرق الأوسط» موافقة مجلس النواب على تشكيل حكومة جديدة بأنه «هروب للأمام وزيادة تأزيم وإطالة للمرحلة». وتابع «سيترتب على هذا القرار انقسام آخر وانسداد في العملية السياسية في حال لم يسلّم الدبيبة السلطة بشكل سلمي»، واستطرد قائلاً إن الأخير «ما زال متمسكاً بخريطة الطريق الأممية الهادفة إلى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة».
الفلاح، الذي ينتمي إلى مدينة بنغازي، دافع عن وجهة نظره بأن مجلس النواب «سبق له خرق خريطة الطريق عندما وضع القوانين الانتخابية منفرداً، وأخلّ بضرورة تزامن الانتخابات البرلمانية مع الرئاسية». وأضاف «هذا أحد أسباب فشل إجراء الاستحقاق في موعده الذي كان مقرراً قبل نهاية عام 2021... والآن يريد التنصل من المسؤولية، ويحملها لحكومة (الوحدة الوطنية) فقط... لكن الاثنين تشاركا في إفشال الانتخابات».

موضع البعثة الأممية
على صعيد متصل، مبكراً سجلت حكومة «الوحدة الوطنية» ملاحظات على سيتفاني ويليامز، المستشارة الأممية إلى ليبيا، وبدت غير راضية عن موقفها، ووصفتها بأنها «تتسم بالغموض» وتنحاز إلى الساعين للإطاحة بها.
أما ستيفان دوجاريك، الناطق باسم الأمم المتحدة، فامتنع عن التورط في صراع داخلي، واكتفى بالقول، إنها «تتابع عن كثب التطورات السريعة في ليبيا، وآخرها قرار منح الثقة لحكومة الاستقرار». ثم، بعد يومين من قرار البرلمان، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن قلقه إزاء التقارير التي تفيد بأن تصويت مجلس النواب على منح الثقة لحكومة باشاغا «لم يرقَ إلى مستوى معايير الشفافية والإجراءات المتوقعة، وشمل أعمال ترهيب قبل الجلسة».
دوجاريك نقل عن الأمين العام أنه يواصل متابعته عن كثب للتطورات في ليبيا، بما في ذلك جلسة البرلمان، التي شهدت تصويتا بالثقة على تشكيل حكومة جديدة، مجدداً التأكيد على «أهمية الحفاظ على الوحدة والاستقرار الذي تحقق بشق الأنفس» منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر (تشرين الأول) 2020.
كذلك، لفت الناطق الأممي إلى أن ويليامز، تعتزم دعوة لجنة مشتركة من مجلس النواب و«المجلس الأعلى للدولة» في أقرب وقت ممكن، للاجتماع من أجل وضع أساس دستوري توافقي من شأنه أن يؤدي إلى انتخابات وطنية في أقرب وقت ممكن. ودعا جميع الجهات الفاعلة إلى «الامتناع عن اتخاذ أي إجراءات من شأنها تقويض الاستقرار وتعميق الانقسامات في ليبيا».
هذا، لم تسلم البعثة الأممية للدعم في ليبيا، من الانتقادات طوال السنوات العشر الماضية، وراهناً، ينظر أنصار حكومة الدبيبة، إلى ويليامز، بأنها كمن يمسك العصا من المنتصف. بيد أن الأخيرة، التي تقول إنها بذلت محاولات لتجنب أي تصعيد، التقت الدبيبة وباشاغا في لقاءين منفصلين، ودعتهما إلى «الحفاظ على الاستقرار» في البلاد، وإجراء انتخابات «في أقرب وقت ممكن»، من دون أن تتخذ موقفاً من الصراع الجاري بينهما حول منصب رئيس الوزراء.
تحرك مستقل
بعيداً عن جبهة باشاغا، اجتمعت رغبة الدبيبة والمشري في المضي قدماً باتجاه كيفية إجراء العملية الانتخابية في أسرع الآجال الممكنة. ووسط حملة من التشكيك وحالة ممزوجة من القلق والمخاوف تسود ليبيا، تحدث المشري عن إعداده لـ«قاعدة دستورية» يجرى على أساسها الاستحقاق المنتظر، وذلك في شهر يونيو المقبل. أما الدبيية، الذي يرفض تسلم السلطة التنفيذية إلا لحكومة جديدة بعد الانتخابات البرلمانية، فيرى إمكانية إجراء هذا الاستحقاق في نصف العام الحالي، على أن تضطلع بذلك المفوضية العليا للانتخابات بحيث تكون كل دائرة منفصلة إذا لزم الأمر. وهو ما يثير رفض واستغراب المناوئين له، فيتساءلون «كيف لسلطة تنفيذية منتهية الصلاحية لعب دور السلطة التشريعية في سن القوانين»؟
للخروج من المأزق التشريعي، طرح الدبيبة إمكانية الاستعانة بقانون انتخابات «المؤتمر الوطني العام» السابق لسنة 2012، وقانون انتخاب مجلس النواب لسنة 2014، إضافة إلى القانون الأخير الصادر عن البرلمان؛ وذلك لانتخاب مجلس نواب جديد، بدلاً من المجلس الذي يترأسه عقيلة صالح.
متابعون يرون أن رئيس حكومة «الوحدة الوطنية» بهذا التوجه يستهدف مجلس النواب، علماً بأن التعديل السابق على قانون الانتخابات الأخير الذي أقرّه الأخير، اشترط إجراء الاستحقاق الرئاسي أولاً على أن يجرى «البرلماني» عقب ذلك بـ30 يوماً. ويلفت هؤلاء إلى أن سلطات طرابلس، منذ الانقسام الذي ضرب ليبيا عام 2014، لم تصغ إلى تعليمات وقرارات برلمان طبرق، خصوصاً إذا تواكبت مع أي خلافات؛ لذا يتوقعون أن «تصير ليبيا كجزر منعزلة، حال تمسك كل من الدبيبة وباشاغا بموقعه، لكنهم يرون أن الرهان في قادم الأيام، سيكون على المصرف المركزي بالعاصمة، وإلى أي حكومة سينتمي، ويدعمها مالياً».
الموقف الدولي
في هذه الأثناء، بدا الصوت الدولي خافتاً رغم الانزعاج الداخلي، حيال المتغير الطارئ في خريطة السياسة الليبية، باستثناء القاهرة التي بادرت مبكراً بالتأكيد على دور مجلس النواب، باعتباره «الجهة التشريعية المنتخبة، والمعبرة عن الشعب، والمنوط به سن القوانين، ومنح الشرعية للسلطة التنفيذية، وممارسة دوره الرقابي عليها».
وبعد يوم من نيل حكومة باشاغا الثقة، خرجت وزارة الخارجة الروسية عن صمتها ورحبت بقرار البرلمان، وأكدت «استعدادها للتعاون معها، للمضي في تسوية سياسية شاملة للأزمة الليبية». وجاء الموقف الروسي، على خليفة إدانة حكومة الدبيبة الهجوم الروسي على أوكرانيا، ووصفها إياه بأنه «انتهاك للقانون الدولي». وسارعت وزارة الخارجية الروسية، بتوضيح موقفها مما يجري في ليبيا، وقالت، إن قرار البرلمان هناك «خطوة مهمة في تجاوز الأزمة التي طال أمدها في البلاد على أساس التوصل إلى اتفاق وطني ضمن حوار بيني شامل».

من الكيب إلى باشاغا... الأزمة الليبية تتنقل في «قطار الحكومات»
> لم يُتح لليبيا أن تستريح وتدخل إلى آخر مراحلها الانتقالية. فمنذ اندلاع «ثورة 17 فبراير (شباط)» عام 2011، وقطار السياسة الذي يمر بمنعطفات خطرة لم يصل إلى محطته بعد، ولا تزال تتوالى عليه حكومات جديدة منذ تولي الراحل عبد الرحيم الكيب، وصولاً إلى فتحي باشاغا، الذي منح مجلس النواب حكومته الثقة، منتصف الأسبوع الماضي، وكل منها يحدوه الأمل في الوصل بليبيا إلى بر الأمان.
وهنا ترتيب زمني لتوليها:
في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011 أدت حكومة (الراحل) الدكتور عبد الرحيم الكيب، اليمين الدستورية بتكليف من «المجلس الانتقالي الليبي»، لتكون أول حكومة بعد «ثورة 17 فبراير». وأعلن الكيب، عقب ثلاثة أشهر من الإطاحة بالقذافي، تشكيل حكومته معتمداً فيها على الكفاءات من مختلف مناطق ليبيا، لتنهي بذلك مهام «المكتب التنفيذي» الذي ترأسه الراحل الدكتور محمود جبريل. تشكيلة الكيب ضمت عدداً من المفاجآت التي تهدف إلى محاولة تهدئة الخصومات بين الفصائل المنتمية للمناطق المختلفة، كان أهمها إسناد حقيبة الدفاع إلى أسامة الجويلي، رئيس المجلس العسكري لمدينة الزنتان. ولكن، بعد أحد عشر شهرا أمضاها في السلطة منذ اختياره، استقال الكيب... وسلم حكومته طوعاً إلى علي زيدان.
يوم 14 نوفمبر 2012 تولى علي زيدان رئاسة الحكومة بشكل رسمي خلفاً للكيب، واستمر في إدارة شؤون البلاد مع تصاعد أعمال الاقتتال وتنامي دور الميليشيات المسلحة بالعاصمة، لدرجة وصلت إلى خطفه شخصياً عندما كان يشغل المنصب في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، على أيدي ميليشيات «غرفة عمليات ثوار ليبيا»، لكن أمكن تحريره بعد ساعات. ولكن يوم 11 مارس (آذار) 2014 صوّت «المؤتمر الوطني العام» بحجب الثقة عن حكومة زيدان وتكليف وزير الدفاع عبد الله الثني بمهام رئيس الحكومة لحين انتخاب رئيس وزراء جديد.
ثم في 12 مارس من العام ذاته أدى الثني اليمين الدستورية رئيساً مؤقتاً للحكومة لحين انتخاب رئيس وزراء دائم، غير أنه ظل في هذا المنصب حتى الآن، مدعوماً بشرعية مجلس النواب، علماً بأن حكومته لا تحظى باعتراف دولي.
جاء تولي الثني إدارة البلاد بعدما سحب «المؤتمر الوطني العام» الثقة من زيدان، على خلفية تصريحات لمسلحين في شرق البلاد قالوا فيها، إن ناقلة محملة بالنفط كانت راسية في ميناء خاضع لسيطرتهم، أفلتت من سيطرة البحرية الليبية ودخلت المياه الدولية.
في حينه، تعهد نوري أبو سهمين، رئيس «المؤتمر الوطني العام» في جلسة أذاعها التلفزيون الحكومي، بدعم رئيس الوزراء المؤقت والامتناع عن عرقلة عمله، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث مع تصاعد الخلافات وتفاقم الأزمات بين غرب ليبيا وشرقها.
ويوم 25 أغسطس (آب) 2014 أقال «المؤتمر الوطني العام» الثني، وكلف بدلاً منه عمر الحاسي. والحاسي - المنتمي إلى تيار الإسلام السياسي - كُلف تشكيل ما سمي حينها بحكومة «الإنقاذ»، غير المعترف بها دولياً التي أعلنتها «فجر ليبيا» بمدينة طرابلس، في الوقت الذي أعلن النفير والتعبئة العامة بكافة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية.
بعد ذلك، في مطلع أبريل (نيسان) 2015 سلم الحاسي رئاسة حكومة «الإنقاذ» لنائبه خليفة الغويل، في خطوة وصفها بأنها دليل «على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة». وهو ما وُصِف بـ«نكاية» في معسكر شرق ليبيا، والبرلمان المنتخب برئاسة عقيلة صالح. وظلت حكومة الثني، غير المعترف بها في شرق البلاد، على حالها مدعومة من مجلس النواب، تتنازع السلطة مع حكومة «الوفاق الوطني» التي تشكلت في فبراير (شباط) عام 2016 بموجب «اتفاق الصخيرات». وهو الاتفاق الذي وقّع في المغرب يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 2015 بدعم أممي.
ومع تنامي الأزمات وانقسام البلاد بين حكومتين طرحت الأمم المتحدة خريطة طريق جديدة رعتها المبعوثة الأممية بالإنابة حينها ستيفاني ويليامز، أسفرت عن خروج حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة، إلى النور، وظلت تصارع المناكفات، سعياً لحصولها على نيل الثقة من مجلس النواب.
ومطلع مارس (آذار) الحالي، منح مجلس النواب الثقة لحكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، لتكون بديلة لحكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة الدبيبة الذي يرفض التخلي عن السلطة إلا «لسلطة منتخبة».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».