الأزمة الاقتصادية تذكّر الإيرانيين بموجة الجفاف الكبرى منذ 70 عامًا

تزايد الإنفاق على الحروب وتراجع الأمل في رفع فوري للعقوبات الدولية فاقما التضخم

«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)
«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)
TT

الأزمة الاقتصادية تذكّر الإيرانيين بموجة الجفاف الكبرى منذ 70 عامًا

«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)
«الباسيج»، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من متطوعين من المدنيين أسسها الخميني في نوفمبر 1979 وتتبع الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) الذي يتبع بدوره سلطة المرشد الأعلى خامئني، خلال التدريبات خارج العاصمة طهران (أ.ب)

لماذا يتذكر بعض الإيرانيين هذه الأيام موجة الجفاف الكبرى التي ضربت البلاد عقب الحرب العالمية الثانية؟ الإجابة التي وردت في تقارير وشهادات، حصلت «الشرق الأوسط» على جانب منها، تبدو بسيطة: تدهور اقتصادي متزايد يضغط على ملايين الإيرانيين لأول مرة منذ نحو سبعة عقود.
وبينما أشاعت قيادات في نظام طهران أن الاتفاق النووي المزمع مع الدول الكبرى سوف يؤدي لانفراجة تنقذ البلاد من أزمتها المالية، بدأت نذر خلافات في هرم السلطة بعد أن اتضح أنه لا يوجد ارتباط مباشر بين توقيع الاتفاق ورفع العقوبات الدولية المفروضة على هذا البلد منذ سنوات، وأدت لخسائر بمليارات الدولارات.
يقول أحدث تقرير أعده معارضون إيرانيون بناء على ما قالوا إنها إحصاءات رسمية، إن عدد الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفع بنسبة 150 في المائة خلال الفترة بين عامي 2003 و2012، وذلك رغم تضاعف عائدات النفط الإيراني خلال الفترة نفسها. والسبب يرجع، وفقا للتقرير، إلى عدة سياسات، منها تمويل حروب الميليشيات التي تديرها إيران في عدد من البلدان العربية من بينها العراق وسوريا واليمن، والإنفاق على البرنامج النووي، والفساد.
لأول مرة، منذ الاحتجاجات الضخمة في 2009 ضد النظام الإيراني، يعود نشطاء المعارضة في الداخل والخارج لتنظيم الوقفات الاحتجاجية وتنظيم المظاهرات احتجاجا على التضخم. يقول شاهين قبادي، أحد زعماء المعارضة، من منفاه في أوروبا: «تفيد المعلومات من داخل البلاد بأن القوة الشرائية للعمال انخفضت منذ عام 2005 بنسبة 73 في المائة». ويضيف في رده على عدد من أسئلة «الشرق الأوسط»: «معدل البطالة في إيران خرج عن السيطرة. هذا يذكر الإيرانيين بسنوات الجفاف في الماضي».
وتمول إيران حروبا لمصلحتها في المنطقة تقدر بمليارات الدولارات. وتفيد مصادر معارضة من الداخل الإيراني، في اتصال عبر الإنترنت، بأن مشكلة معرفة الأرقام الدقيقة لتمويل هذه الحروب تتعلق بالنظام المالي المتبع من جانب السلطة في طهران، وقدرات مجلس الشورى (البرلمان) المحدودة، بالإضافة إلى قمع أي صوت معارض في الداخل، خاصة من بين أولئك الذين يثيرون قضية إدارة أموال الدولة، والمطالبة بكشف حسابات الإنفاق الداخلي والخارجي.
ومع ذلك، وفقا لمصادر أخرى، بدأت تظهر بعض الأصوات من داخل النظام نفسه تتساءل عن المخصصات المالية وأين تذهب، وجدوى منح حكومات ومتمردين في العراق وسوريا واليمن أموالا ضخمة بينما قيمة العملة المحلية تتآكل والانتعاش المنتظر من وراء الاتفاق النووي يبدو بعيد المنال. وقالت المعلومات إن شبح التململ من الأزمة الاقتصادية وسياسات الرئيس حسن روحاني، المنتخب منذ عامين، انعكس على نظام العضوية في «مجلس صيانة الدستور» الذي يعد بمثابة سلطة عليا في البلاد.
رغم النظام الرئاسي في إيران فإن السلطات الفعلية تقع بين يدي مرشد الثورة، علي خامنئي. وكان ينبغي إنهاء عضوية عدد من نواب البرلمان، ممن يشغلون مواقع في «مجلس صيانة الدستور»، لكن مصدرا في المعارضة في طهران أفاد ردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط» بالقول إن الظروف المرتبكة التي يمر بها النظام، وعلاقة المرشد والرئيس بأجنحة الدولة، دفعت قادة كبارا للمطالبة بتأجيل فتح هذا الأمر للنقاش، وهو أمر قوبل بالرفض من جانب كثير من نواب البرلمان ممن يقفون ضد الوصاية على أعمالهم بوصفهم جهة تشريعية ورقابية يفترض أن تكون مستقلة.
وأضاف المصدر نفسه أن الحديث عن الأزمة الاقتصادية أصبح من العوامل المشتركة التي تجمع كثيرا من الإيرانيين سواء كانوا في السلطة أو في الشارع، مع ملاحظة أن «أصوات المعارضة في الداخل مقموعة، كما هو معلوم.. العديد من قادة المعارضة بمن فيهم الإصلاحيون والمعتدلون لا يستطيعون إلقاء الكلمات في الأماكن العامة، كما كان الحال في عام 2009».
ومن منفاها في الخارج، واصلت قيادات معارضة عقد الفعاليات السياسية والإعلامية للتحذير من خطر الطريق الذي يسير فيه حكام طهران على الإيرانيين ودول المنطقة والعالم. وفي هذا الإطار، وبعد يومين من حديث بـ«الفيديو كونفرنس» لزعيمة المعارضة مريم رجوي، أمام لجنة بالكونغرس الأميركي، عقد السيد قبادي مؤتمرا صحافيا عبر الإنترنت، الليلة قبل الماضية، بمناسبة عيد العمال ومرور عامين على تولي الرئيس روحاني الحكم خلفا للرئيس أحمدي نجاد.
وقال قبادي إنه بعد مرور نحو عامين على اختيار روحاني رئيسا، ونظرا لما قطعه من وعود بتحسين الظروف الاقتصادية للشعب الإيراني كمحور لجهود حكومته.. «فإننا إذا ألقينا نظرة سريعة على الوضع لن نرى أي تحسن في أوضاع العمال الإيرانيين، بل على العكس فقد تدهورت أوضاعهم سريعا وبشكل حاد».
وفي ما يتعلق بالقول الذي يطلقه البعض في داخل البلاد عن أن الأزمة الراهنة تذكر الإيرانيين بموجة الجفاف التي وقعت قبل نحو سبعين سنة، وأدت لأزمة خانقة في عموم إيران، قال قبادي: «نعم.. منذ موجة الجفاف التي ضربت البلاد عقب الحرب العالمية الثانية، لم يكن العمال الإيرانيون بهذا الفقر الذي نراه اليوم. المستقبل أسوأ إذا استمرت سياسات النظام على هذه الشاكلة. الحل ليس في إصلاحه ولكن في استبدال نظام جديد به».
ويعد تدفق مياه الأمطار، وما تسفر عنه من جداول تأتي من أعلى قمم الجبال معظم شهور السنة تقريبا في مناطق واسعة بإيران، أحد أهم مصادر الدخل للفلاحين وسكان الأرياف. لكن البلاد تعرضت ثلاث مرات لندرة الأمطار، كانت أسوأها في أواخر أربعينات القرن الماضي، إلى جانب مرتين أخريين واحدة في السبعينات والأخرى في عام 2000. وترتبط ذكريات الجفاف بتشريد ملايين المواطنين.
ويشبه العديد من المعارضين الإيرانيين الأزمة الاقتصادية الراهنة بسنوات الجفاف التي اقترنت في أذهان الإيرانيين بما يشبه «الكابوس» و«التفكير في كيفية مواجهة الخطر من شظف العيش والفقر».. و«حين نقول إننا نتعرض، في الوقت الحالي، للجفاف فهذا يعني أن ملايين العمال والقرويين (المزارعين) يعانون من مأساة في المعيشة بسبب السياسات الاقتصادية للنظام. في الماضي، كان نقص الأمطار يعبر عن خسارة ملايين الأطنان من القمح. واليوم توجد خسائر ضخمة، ليس لنقص الأمطار، لكنها ترجع لأخطاء في إجراءات الدولة وتوجيه الأموال لإرضاء طموحات القادة بينما الشعب يعاني من العوز».
السيد قبادي استند إلى إحصاءات رسمية، وإلى ما قال إنها تصريحات لمسؤولين إيرانيين أيضا، للتدليل على تفاقم الأوضاع الاقتصادية، مشيرا إلى غياب الأمان الوظيفي وتأخر الرواتب الشهرية. وقال: «لقد أقر مسؤولون في النظام بأن 90 في المائة من العمال في البلاد يعيشون تحت خط الفقر، بينما أكثر النسبة الباقية لا تتجاوز الخط إلا بقدر ضئيل». وأضاف أنه، وطبقا للإحصاءات الرسمية، تبلغ القوة العاملة في إيران نحو 64 مليونا، بينما النسبة القادرة على العمل من السكان تصل إلى 41 مليونا، وذلك إضافة إلى 1.2 مليون من القوة العاملة الذين يدخلون السوق سنويا.. و«مع ذلك، وبحسب ما توضح الإحصاءات الرسمية، فإن عدد العاملين ثابت عند 21 مليونا.. يمكن القول بعبارة أخرى إن أكثر من نصف النسبة القادرة على العمل من السكان عاطلون عن العمل».
واتهم قبادي نظام الرئيس روحاني باتباع سياسة ظالمة بحق ملايين العمال، وعلى سبيل المثال، كما يقول، تقدم الرئيس للبرلمان بمشروع قانون تحت مسمى إزالة كل العقبات التي تعرقل الإنتاج، وعليه قام مجلس صيانة الدستور الأسبوع الماضي بالتصديق على مشروع القانون، الذي يزيل في حقيقته العقبات التي تحول دون فصل العمال عن عملهم، ويدعم فرض العقود المؤقتة كأمر واقع.
وقال إن الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور هي سياسات النظام، لأنه يجري إنفاق ثروة الشعب ورأس ماله على أعمال القمع وأدواته، وعلى تصدير التطرف والإرهاب، بالإضافة إلى السعي نحو تصنيع السلاح النووي.. «ورغم كل المشكلات الاقتصادية، تمت زيادة مخصصات القوات القمعية في الموازنة بنسبة 53 في المائة».
وتناول تقرير أعده معارضون إيرانيون وصول انتقادات من جانب قيادات في النظام إلى سمع الرئيس روحاني، على خلفية الإنفاق المالي الكبير على أجهزة الأمن والأجهزة شبه العسكرية مثل فيلق القدس الذي يدير حروبا بالوكالة في عدة بلدان بالمنطقة، آخرها اليمن. وقال التقرير إن الرئيس بعد أن استمع إلى هذه الانتقادات رد بأن هذا النوع من الإنفاق المالي له الأولوية في موازنة الدولة، وهو أمر مقدم على أي شيء آخر، حتى لو بلغت نسبة الإنفاق على هذا البند كامل مخصصات موازنة الدولة.
ومن جانبه، قال السيد قبادي في رده على الأسئلة، إن «نظام رجال الدين (حكم طهران) ينفق مبالغ فلكية على تصدير الإرهاب والتطرف»، مشيرا إلى تصريح لمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا مؤخرا، خلال لقاء خاص في واشنطن، أفاد فيه بأن إيران تمنح سوريا 35 مليار دولار سنويا.
وأضاف قبادي الذي يشغل عضوية «لجنة العلاقات الخارجية في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية»، بأن بعض التقديرات تشير إلى إنفاق نظام طهران نحو 300 مليار دولار على البرنامج النووي على مدى السنوات الماضية.
وتطرق أيضا إلى ما زعم أنها تقارير عن الفساد في الداخل أسهمت في تدهور الأوضاع في هذا البلد الغني بالنفط والثروات الطبيعية، مشيرا إلى أن «أنباء الفساد باتت أمرا معتادا في إيران.. الكثير من طبقات النظام متورطة في هذا». واستعان قبادي بما قال إنها إفادات سابقة من وزير الداخلية الإيراني تشير إلى استفحال الفساد في عموم البلاد، منها «تسجيل أكثر من 3 آلاف شركة بعنوان واحد، وكذلك تسجيل ما يزيد على 4 آلاف شركة بكود واحد».
ويعني مثل هذا الأمر تسرب مليارات الدولارات بعيدا عن خزانة الدولة، منها على سبيل المثال التهرب من سداد الضرائب من تلك الشركات. وعلى الجانب الآخر، كما يذكر قبادي، فقد زادت عمليات التهريب إلى داخل البلاد.. «بحيث أصبحت قيمتها تتجاوز 25 مليار دولار سنويا، وبات من المعلوم في إيران أن الطرف الأساسي المتورط في تلك العمليات هو قيادات في الحرس الثوري وغيره من الأجهزة والهيئات الحكومية».
وفي زيارة سابقة لـ«الشرق الأوسط» إلى مدن إيرانية منها «طهران» و«شيراز» و«قم»، فإن سلطات المرشد خامنئي تبدو أكبر من الرئيس المنتخب. ومن السهل ملاحظة ذلك سواء في الكلمات الافتتاحية للمؤتمرات الرسمية التي تبدأ عادة بكلمة المرشد لا الرئيس، أو في صور المرشد المعلقة في الميادين والشوارع الرئيسية. ويقول أحد زعماء الطلاب المعارضين عقب مشاركته في فعاليات قرب السكن الطلابي المواجه لـ«البارك ترفيه» في شارع الدكتورة فاطمة بطهران: «لا يمكن انتقاد المرشد». وأضاف في إفادة عبر الإنترنت: «إذا انتقدت خامنئي تكون مخالفا للدين، بينما هو القائد الفعلي للدولة».
وقال السيد قبادي ردا على الأسئلة: «في العام الماضي جرى الكشف عن سيطرة خامنئي على نحو 95 مليار دولار من خلال ما يعرف بـ(اللجنة التنفيذية لأوامر الإمام)». لكن لا يوجد ما يؤكد مثل هذه المزاعم من مصادر مستقلة. ومع ذلك يضيف قبادي أن هذا بعض من الإمبراطورية المالية الضخمة التي يديرها المرشد، مشيرا إلى أن العديد من المؤسسات التي تخضع إدارتها لسلطات خامنئي تعفى من الضرائب، مثل «مؤسسة المستضعفين»، وغيرها، قائلا إن الحرس الثوري الإيراني (الذي يخضع للمرشد أيضا) يسيطر على جزء كبير من شرايين الحياة في اقتصاد الدولة.
ومن جانبه، تضمن التقرير الذي أعدته المعارضة ما قال إنها شهادات عن تدهور الوضع الاقتصادي جاءت على لسان مسؤولين إيرانيين في الأيام الأخيرة، من بينهم رئيس البرلمان، علي لاريجاني، الذي نسب إليه اعترافه بأن 42 في المائة من خريجي الجامعات في إيران لا يجدون فرص عمل، إضافة لاعتراف آخر من رئيس غرفة الصناعة والتجارة والتعدين في البلاد ذكر فيه أن 40 في المائة فقط من وحدات الإنتاج والوحدات الصناعية هي التي تعمل.
وقال قبادي عن هذه القضية: «نعم.. لا يزال إغلاق المصانع ووحدات الإنتاج مستمرا. هذا يؤدي إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل أكثر من السابق»، مشيرا إلى أن منظومة العمال والتشغيل تحت سياسة نظام الحكم في إيران لا تحظى بأقل قدر من الحماية القانونية». وأضاف: «لا توجد أي ضمانات تمنع أصحاب العمل، وأكثرهم مسؤولون في الحكومة أو في الحرس الثوري، من فصل العمال عن عملهم، أو حرمانهم من حقوقهم».
وتضمن التقرير المكتوب باللغة الإنجليزية أنه طبقا لإحصاءات وزارة العمل الإيرانية فإن 93 في المائة يعملون بعقود مؤقتة، وسبعة في المائة فقط يعملون بعقود رسمية، وأن «الفجوة بين الطبقات الاجتماعية اتسعت في السنوات الأخيرة، وازدادت بمقدار 30 مرة إلى حد جعل إيران تتصدر قائمة الدول التي تتسع فيها الفروق بين الطبقات الاجتماعية على مستوى العالم»، ونتج عن هذا ارتفاع نسبة الاضطرابات والاحتجاجات.
ووفقا لإحصاءات المعارضة فقد قامت القوى العاملة في البلاد بالتصعيد ضد سياسات النظام، وجرى، على مدى العام الماضي فقط، تنظيم نحو 1300 من الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات.. «وبعد أن كان عددها في شهر مارس (آذار) 120، زاد إلى أكثر من 250 احتجاجا الشهر الماضي».
وخلال اليومين الماضيين نظمت تجمعات عمالية مظاهرات جديدة بسبب الظروف المعيشية الصعبة وتأخر صرف الأجور، من بينهم عمال في قطاع صناعة المرطبات والبتروكيماويات والحديد والصلب، كان من بين هذه الفعاليات مظاهرة لعمال مصنع «بامجال» بعد أن تأخرت رواتبهم لأكثر من شهرين.
ومن جانبه، يتهم النظام الإيراني المعارضة في الداخل والخارج بالتهويل والمبالغة، ويقول أحد الدبلوماسيين الإيرانيين ممن عملوا لسنوات في مكتب رعاية المصالح الإيرانية بالقاهرة (السفارة) إن «بعض الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم اسم معارضة هم في الحقيقة يعملون ضد مصلحة الدولة والشعب الإيراني»، مشيرا في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، عبر الهاتف، إلى أن الاتهامات الموجهة إلى نظام طهران «غير صحيحة»، وأن المركز الاقتصادي لبلاده «قوي جدا».
لكن عددا من المراقبين الغربيين، خاصة أولئك الذين عملوا بالقرب من الملف الإيراني في السنوات الأخيرة، يرون في اندفاع النظام الإيراني نحو توقيع الاتفاق النووي قبل نهاية يونيو (حزيران) المقبل، يعكس وجود أزمة اقتصادية كبيرة، ويعكس أيضا رغبة من النظام في التخلص من العقوبات الدولية، رغم أن التوصل لمثل هذا الاتفاق ما زال أمرا سابقا لأوانه.
وبحسب المصادر الغربية فإن إيران يبدو أنها تماطل في مسائل جوهرية تتعلق بالاتفاق بشأن برنامجها النووي على رأسها مسألة الإخطار المسبق بتوقيت وصول المفتشين الدوليين، ورفضها دخول المفتشين للمواقع العسكرية، والنسب المسموح بها في ما يتعلق بالتخصيب وغيرها. وقالت وندي شيرمان، مساعدة وزير الخارجية الأميركي، خلال زيارتها الأخيرة للهند، إنه يجب تسوية مزيد من التفاصيل بشأن المفاوضات النووية مع إيران، وإن هناك عدة تطورات على الصعيد الدولي من شأنها أن تخرج هذه المفاوضات عن مسارها.
وفي الداخل الإيراني، بحسب المصادر، تتزايد الشكوك بين قادة النظام، خاصة جماعة المرشد خامنئي، بشأن إمكانية التوصل لرفع فوري للعقوبات بمجرد توقيع الاتفاق النووي، بعد أن خرجت تسريبات غربية تقول إن العقوبات المفروضة على طهران لأسباب ترتبط بالإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان، ستظل كما هي دون تغيير، مما يعني استمرار وجود عراقيل أمام الشركات الدولية في العمل في هذا البلد المتهم بنشر الفوضى والتطرف في المنطقة.



مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.