ما أفضل عمر لتعليم الأطفال القراءة؟

أطفال يظهرون وهم يقرأون في الكتب (رويترز)
أطفال يظهرون وهم يقرأون في الكتب (رويترز)
TT

ما أفضل عمر لتعليم الأطفال القراءة؟

أطفال يظهرون وهم يقرأون في الكتب (رويترز)
أطفال يظهرون وهم يقرأون في الكتب (رويترز)

في بعض البلدان، يتعلم الأطفال دون سن الرابعة القراءة والكتابة. في حالات أخرى، لا يبدأون حتى السابعة. فما أفضل صيغة للنجاح الدائم؟
كشفت ميليسا هوغنبوم، من هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، وصاحبة كتاب الأمومة «ماذيرهود كومبلاكس» أنها كانت في السابعة من العمر عندما بدأت تعلم القراءة، كما هو معتاد في المدرسة التي التحقت بها. تذهب ابنتها إلى مدرسة أخرى الآن، وبدأت التعلم في سن الرابعة.
وتتساءل هوغنبوم حول ما إذا كانت هذه التجارب المختلفة ستؤثر على مستقبل طفلتها: هل حصولها على بداية سريعة سيعطيها فوائد مدى الحياة؟ أم أنها تتعرض لضغوط لا داعي لها، في وقت ينبغي أن تتمتع فيه بحريتها؟ أم أننا ببساطة نشعر بالقلق الشديد، ولا يهم في أي سن نبدأ في القراءة والكتابة؟
* تجربة الطفل المبكرة مع اللغة أساسية
ليس هناك شك في أن اللغة بكل ثرائها - المكتوبة أو المنطوقة أو المغناة بصوت عالٍ - تلعب دوراً مهماً في تطورنا المبكر. يستجيب الأطفال بالفعل بشكل أفضل للغة التي تعرضوا لها في الرحم. يتم تشجيع الآباء على القراءة لأطفالهم قبل ولادتهم وعندما يكونون صغاراً. تُظهر الأدلة أن مقدار الحديث مع الأطفال قد يكون له تأثيرات دائمة على التحصيل التعليمي في المستقبل.
وتعد الكتب جانباً مهماً بشكل خاص لهذا العرض اللغوي الغني، حيث تشتمل اللغة المكتوبة غالباً على مفردات أوسع وأكثر دقة وتفصيلاً من اللغة المنطوقة اليومية. وهذا بدوره يمكن أن يساعد الأطفال على زيادة مدى عمق تعبيرهم.
نظراً لأن تجربة الطفل المبكرة في اللغة تعتبر أساسية جداً لنجاحه في وقت لاحق، فقد أصبح من الشائع بشكل متزايد أن تبدأ الحضانات في تعليم الأطفال المهارات الأساسية لمحو الأمية حتى قبل بدء التعليم الرسمي. عندما يبدأ الأطفال المدرسة، فإن محو الأمية هو التركيز الرئيسي على الدوام. أصبح هذا الهدف المتمثل في ضمان تعلم جميع الأطفال للقراءة والكتابة أكثر إلحاحاً حيث حذر الباحثون من أن الوباء تسبب في اتساع فجوة التحصيل بين العائلات الأكثر ثراءً والأكثر فقراً، مما أدى إلى زيادة عدم المساواة الأكاديمية.

في العديد من البلدان، يبدأ التعليم الرسمي في الرابعة. غالباً ما يذهب التفكير إلى أن البدء مبكراً يمنح الأطفال مزيداً من الوقت للتعلم والتفوق. ومع ذلك، يمكن أن تكون النتيجة «سباق تسلح تعليمي»، حيث يحاول الآباء منح أطفالهم مزايا مبكرة في المدرسة من خلال التدريب والتعليم الخاصين، وحتى أن بعض الآباء يدفعون مقابل الحصول على دروس خصوصية إضافية للأطفال الذين تقل أعمارهم عن أربع سنوات.
قارن ذلك بالتعليم المبكر القائم على اللعب منذ عدة عقود، ويمكنك أن ترى تغييراً كبيراً في السياسة، بناءً على أفكار مختلفة جداً عما يحتاجه أطفالنا من أجل المضي قدماً. في الولايات المتحدة، تسارعت هذه الحاجة الملحة مع تغييرات في السياسة مثل قانون 2001 «عدم ترك أي طفل جانباً»، والذي شجع الاختبار المعياري كطريقة لقياس الأداء التعليمي والتقدم. في المملكة المتحدة، يتم اختبار الأطفال في السنة الثانية من المدرسة (من سن 5 إلى 6 سنوات) للتحقق من وصولهم إلى مستوى القراءة المتوقع. يحذر النقاد من أن مثل هذا الاختبار المبكر يمكن أن يمنع الأطفال من القراءة، بينما يقول المؤيدون إنه يساعد في تحديد أولئك الذين يحتاجون إلى دعم إضافي.
ومع ذلك، تظهر العديد من الدراسات فائدة قليلة من البيئة الأكاديمية المفرطة في وقت مبكر. يقول تقرير أميركي صدر عام 2015 أن توقعات المجتمع لما يجب أن يحققه الأطفال في رياض الأطفال قد تغيرت، مما أدى إلى «ممارسات غير مناسبة في الفصول الدراسية»، مثل الحد من التعلم القائم على اللعب.
https://twitter.com/melissasuzanneh/status/1499043696234401792?s=20&t=-V7jRULFXeofytInWL38qw
* مخاطر ترتبط بالمدارس
كيف يتعلم الأطفال ونوعية البيئة أمر مهم للغاية. يقول دومينيك وايز، المتخصص بالتعليم الابتدائي في كلية لندن الجامعية بالمملكة المتحدة: «تعلم الأطفال الصغار القراءة هو أحد أهم الأشياء التي يقوم بها التعليم الابتدائي. إنه أمر أساسي للأطفال الذين يحرزون تقدماً في الحياة». نشر وايز، جنباً إلى جنب مع أستاذة علم الاجتماع أليس برادبري، من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس، بحثاً يقترح أن الطريقة التي ندرس بها مهمة حقاً.
في تقرير صدر عام 2022. ذكر الباحثان أن التركيز المكثف لنظام المدارس الإنجليزية على الصوتيات - وهي طريقة تتضمن مطابقة صوت كلمة أو حرف منطوق، بأحرف مكتوبة فردية، قد يكون فاشلاً لبعض الأطفال.
والاختبارات السابقة وجدت أن التعلم المبكر قد لا يكون له علاقة بالمهارات اللازمة فعلياً لقراءة الكتب أو غيرها من النصوص ذات المغزى والاستمتاع بها.
وأبرز وايز وبرادبري أنه يجب علينا إعادة التفكير في الطريقة التي يتم بها تعليم الأطفال القراءة والكتابة. ويقول الباحثان إن الأولوية يجب أن تكون تشجيع الاهتمام بالكلمات والإلمام بها، وذلك باستخدام القصص والأغاني والقصائد، وكلها تساعد الطفل على التقاط أصوات الكلمات، فضلاً عن توسيع مفرداته.

هذه الفكرة مدعومة بدراسات تظهر أن الفوائد الأكاديمية لمرحلة ما قبل المدرسة تتلاشى فيما بعد. تظهر العديد من الدراسات الآن أن الأطفال الذين يذهبون إلى رياض الأطفال لا يتمتعون بقدرات أكاديمية أعلى في صفوف لاحقة من أولئك الذين لم يذهبوا إلى مثل هذه الحضانات.
ومع ذلك، قد يكون للتعليم المبكر تأثير إيجابي على التنمية الاجتماعية - والتي بدورها تغذي احتمالية التخرج من المدرسة والجامعة فضلاً عن ارتباطها بانخفاض معدلات الجريمة. باختصار، قد يكون للالتحاق بصفوف ما قبل المدرسة آثار إيجابية على التحصيل اللاحق في الحياة، ولكنها ليست ضرورية فيما يرتبط بالمهارات الأكاديمية.


* بداية لاحقة، نتائج أفضل؟
لا يفضل الجميع البداية المبكرة. في العديد من البلدان، بما في ذلك ألمانيا واليابان، يبدأ التعليم الرسمي في نحو الساعة السادسة. في فنلندا، التي غالباً ما يتم الترحيب بها باعتبارها الدولة التي تتمتع بواحد من أفضل أنظمة التعليم في العالم، يبدأ الأطفال المدرسة في السابعة.
رغم هذا التأخر الواضح، فإن الطلاب الفنلنديين يسجلون درجات أعلى في فهم القراءة من الطلاب من المملكة المتحدة والولايات المتحدة في سن 15 عاماً. تماشياً مع هذا النهج الذي يركز على الطفل، تمتلئ سنوات رياض الأطفال الفنلندية بمزيد من اللعب.
باتباع هذا النموذج، اقترحت مراجعة أجرتها جامعة كامبريدج عام 2009 تأجيل سن المدرسة الرسمية إلى ستة أعوام، مما يمنح الأطفال في المملكة المتحدة مزيداً من الوقت «للبدء في تطوير مهارات اللغة والدراسة الضرورية لتقدمهم اللاحق»، حيث إن البداية في وقت مبكر يمكن أن «تخاطر بتقويض ثقة الأطفال في سن الخامسة والتسبب في ضرر طويل الأجل لتعلمهم».


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
تحقيقات وقضايا هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي.

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
TT

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

«ماريا»، الذي سبق وتناولناه هنا قبل يومين، ليس سوى أحد الأفلام المعروضة على شاشة الدورة 81 لمهرجان «ڤينيسيا»، (انطلق في 28 من الشهر الماضي وتسدل ستارته في 7 سبتمبر «أيلول» الحالي)، الذي يتناول حياة شخصيات شهيرة. إذ إن هناك أفلاماً عدّة تتحدّث عن شخصيات حقيقية أخرى بينها ثلاثة أفلام غير درامية.

إنها أفلام وثائقية وتسجيلية عن أسماء مشهورة تتباعد في أزمانها وشخصياتها كما في أدوارها في الحياة. هناك «رايفنشتال» عن المخرجة الألمانية ليني رايفنشتال التي عاشت نحو 101 سنة، و«جون ويوكو» عن حياة المغني جون لينون (من فرقة البيتلز) والمرأة التي ارتبط بها، كذلك يطالعنا فيلم المخرج التسجيلي إيرول موريس «منفصلون» الذي يتناول بعض ما تمر به الولايات المتحدة من أزمات بخصوص المهاجرين القادمين من فنزويلا وكولومبيا ودول لاتينية أخرى.

في هذا النطاق، وبالمقارنة، فإن «ماريا» للمخرج التشيلي بابلو لاراين، يبقى الإنتاج الدرامي الوحيد بين هذه المجموعة متناولاً، كما ذكرنا، الأيام الأخيرة من حياة مغنية الأوبرا.

المخرجة المتّهمة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية والسياسية. حققت ليني في حياتها 8 أفلام، أولها سنة 1932 وآخرها «انطباعات تحت الماء» (Impressions Under Water) سنة 2002. لكن شهرتها تحدّدت بفيلميها «انتصار الإرادة» (Triumph of the Will) (1935)، و«أولمبيا» الذي أنجزته في جزأين سنة 1938.

السبب في أن هذين الفيلمين لا يزالان الأشهر بين أعمالها يعود إلى أنهما أُنتجا في عصر النهضة النازية بعدما تبوأ أدولف هتلر رئاسة ألمانيا.

دار «انتصار الإرادة» عن الاستعراض الكبير الذي أقيم في عام 1934 في مدينة نورمبيرغ، الذي ألقى فيه هتلر خطبة نارية أمام حشد وصل تعداده إلى 700 ألف شخص. فيها تحدّث عن ألمانيا جديدة مزدهرة وقوية وعن مستقبل كبير ينتظرها.

الفيلم الثاني من جزأين كان عن الأولمبياد الرياضي الذي أقيم صيف 1936، وحضرته أمم كثيرة بعضها من تلك التي تحالفت لاحقاً ضد الاحتلال الألماني لأوروبا.

شغل المخرجة على الفيلمين فعلٌ فني لا يرقى إليه الشك. تصوّر بثراء كل ما يقع أمامها من الجموع إلى المسيرات العسكرية والرياضية، ومنها إلى هتلر وهو يخطب ويراقب سعيداً الاستعدادات العسكرية التي خاضت لاحقاً تلك الحرب الطاحنة التي خرجت ألمانيا منها خاسرة كلّ شيء.

تبعاً لهذين الفيلمين عدّ الإعلام السياسي الغربي المخرجة رايفنشتال ساهمت في الترويج للنازية. تهمة رفضتها رايفنشتال. وأكدت، في مقطع من الفيلم مأخوذ عن مقابلة مسجّلة، أنها لم تنفّذ ما طُلب منها تنفيذه، ولم تنتمِ إلى الحزب النازي (وهذا صحيح) ولم تكن تعلم، شأن ملايين الألمان، بما يدور في المعتقلات.

ليني رايفنشتال خلال تصوير «أولمبياد» (مهرجان ڤينيسيا)

يستعرض الفيلم حياة المخرجة التي دافع عن أعمالها نُقاد السينما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. فيلماها لا يزالان من أفضل ما طُبع على أشرطة في مجال الفيلم الوثائقي إلى اليوم، وذلك عائد إلى اختياراتها من اللقطات والمشاهد وتوثيقها لحدثين مهمّين لا يمكن تصوّر السينما من دون وجودهما بدلالاتهما المختلفة. النتيجة الواضحة إلى اليوم، حتى عبر المقتطفات التي يعرضها الفيلم، تفيد بحرفة متقدّمة وتعامل رائعٍ مع الحدث بأوجهه المتعدّدة.

ينتهج المخرج فايل موقفاً يشيد فيه بالمخرجة ومجمل أفلامها السبعة. لا يفوته الاعتراف بأن رايفنشتال كانت فنانة سينما حقيقية، لكن يوجّه مشاهديه في الوقت نفسه إلى أن هذا الفن لم يكن سوى مظهر دعائي للنازية، وأنها لعبت الدور المباشر في البروباغاندا في الفترة التي سبقت الحرب.

حيال سرد هذا التاريخ يستعين المخرج فايل بمقابلات متعددة أدلت بها (معظمها بعد نهاية الحرب) وواجهت فيها منتقديها كما يعمد المخرج إلى مشاهد من حياتها الخاصة. زواجها. رحلتها إلى السودان خلال اضطرابات عام 2000 حيث تحطمت الطائرة المروحية التي استقلّتها وأصيبت برضوض. رحلتها تلك كانت بصدد التعرّف على البيئة النوبية، وكانت قد حصلت على الجنسية السودانية قبل سنوات (إلى جانب جنسيتها الألمانية وإقامتها البريطانية)، وبذلك كانت أول شخص غربي يُمنح الجنسية السودانية.

لا يأتي الفيلم بجديد فِعليّ لما يسرده ويعرضه. هناك كتب عديدة دارت حولها أهمها، مما قرأ هذا الناقد، «أفلام ليني رايفنشتال» لديفيد هنتون (صدر سنة 2000) و«ليني رايفنشتال: حياة» الذي وضعه يورغن تريمبورن قبل سنة من وفاة المخرجة عام 2003.

هو فيلم كاشف، بيد أنه يتوقف عند كل المحطات التي سبق لمصادر أخرى وفّرتها. محاولة الفيلم لتكون «الكلمة الفصل» ناجحة بوصفها فكرة وأقل من ذلك كحكم لها أو عليها.

جون لينون ويوكو أونو

في الإطار الفني، ولو على مسافة كبيرة في الاهتمام ونوع المعالجة، يأتي (One to One: John & Yoko) «واحد لواحد: جون ويوكو» لكيڤن ماكدونالد، الذي يحيط بحياة الثنائي جون لينون وزوجته يوكو أونو اللذين وقعا في الحب وانتقلا للعيش في حي غرينتش فيلاج في مدينة نيويورك مباشرة بعد انفراط فريق «البيتلز» الذي كان جون لينون أحد أفراده الأربعة.

النقلة إلى ذلك الحي لم تكن اختياراً بلا مرجعية سياسية كون غرينتش فيلاج شهدت حينها حياة ثقافية وفنية وسياسية حافلة تعاملت ضد العنصرية وضد حرب فيتنام، وكانت صوت اليسار الشّعبي الأميركي إلى حين فضيحة «ووترغيت» التي أودت بمنصب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. يكشف فيلم مكدونالد (الذي سبق وأُخرج قبل أعوام قليلة، فيلماً عن المغني الجامايكي بوب مارلي) عن اهتمام لينون وزوجته بتلك القضايا السياسية. جون الذي باع منزله المرفّه في ضواحي لندن واستقر في شقة من غرفتين في ذلك الحي، ويوكو التي لعبت دوراً فنياً وتثقيفياً في حياته.

لا يكتفي الفيلم بالحديث عن الثنائي معيشياً وعاطفياً بل عن المحيط السياسي العام ما يُعيد لمشاهدين من جيل ذلك الحين بعض الأحداث التي وقعت، ويوجه المشاهدين الذين وُلدوا سنوات صوب تقدير الثنائي، كما لم يفعل فيلم ما من قبل. ليس لأن «واحد لواحد: جون ويوكو» فيلم سياسي، بل هو استعراض منفّذ مونتاجياً بقدر كبير من الإجادة لحياة ثنائيّ موسيقيّ مطروحة على الخلفية المجتمعية المذكورة.

إرث ترمب

نيسكون مضى ومعه قناعاته وبعد عقود حلّ دونالد ترمب ليسير على النهج اليميني نفسه.

يرتسم ذلك في «منفصلون» (Separated) للمخرج المتخصص بالأفلام التسجيلية والوثائقية السياسية إيرول موريس. من بين أفضل أعماله «ضباب الحرب» (The Fog of War)، الذي تناول الحرب العراقية وكيف تضافرت جهود الحكومة الأميركية على تأكيد وجود ما لم يكن موجوداً في حيازة العراق، مثل القدرات النّووية والصواريخ التي يمكن لها أن تطير من العراق وتحط في واشنطن دي سي (وكثيرون صدّقوا).

«منفصلون» لديه موضوع مختلف: إنه عن ذلك القرار الذي اتخذه ترمب خلال فترة رئاسته ببناء سياج على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لمنع تدفق المهاجرين القادمين من الدول اللاتينية بدافع الفقر وانتشار العنف.

كان يمكن تفهّم هذا القرار لو أنه توقف عند هذا الحد، لكن ترمب تلاه بقرار آخر يقضي بفصل الأطفال عن ذويهم الراغبين في دخول البلاد عبر الحدود. بذلك لدى هؤلاء إمّا العودة من حيث أتوا مع أولادهم، أو العودة من دونهم على أساس وجود هيئات ومؤسسات أميركية ستعني بهم.

مثل هذا الموقف، يؤكد الفيلم، غير الأخلاقي، وكان له معارضون ومؤيدون. بعض المعارضين من أعضاء الكونغرس انقلبوا مؤيدين ما بين مؤتمر صحافي وآخر.

محور الفيلم هو رفض هذا الانفصال على أسس أخلاقية وإنسانية والمتهم الأساسي في فرض العمل به هو ترمب الذي لم يكترث، والكلام للفيلم، لفظاعة الفصل بين الآباء والأمهات وأطفالهم. تطلّب الأمر أن يخسر ترمب الانتخابات من قبل أن يلغي بايدن القرار على أساس تلك المبادئ الإنسانية، لكن بذلك تعاود أزمة المهاجرين حضورها من دون حل معروف.

يستخدم المخرج موريس المقابلات لتأييد وجهة نظره المعارضة وأخرى لرفضها، لكنه ليس فيلماً حيادياً في هذا الشأن. مشكلته التي يحسّ بها المُشاهد هي أن الفيلم يتطرّق لموضوع فات أوانه منذ أكثر من عامين، ما يجعله يدور في رحى أحداث ليست آنية ولا مرّ عليه ما يكفي من الزمن لإعادة اكتشافها ولا هي بعيدة بحيث تُكتشف.