«العراب»... صياغة معاصرة لعلاقات القوة في المجتمع الأميركي

الرواية الأيقونة في خمسينية الفيلم

ماريو بوزو
ماريو بوزو
TT

«العراب»... صياغة معاصرة لعلاقات القوة في المجتمع الأميركي

ماريو بوزو
ماريو بوزو

ليس ثمة فيلم سينمائي أنتجته هوليوود وترك بصمات لا تُنسى في الثقافة الشعبية داخل الولايات المتحدة، وعبر العالم، كما «العراب»، أو Godfather، الثلاثية التي قدمها المخرج الأميركي - الإيطالي فرانسيس فورد كوبولا. ويحتفل هذا العام بخمسينية عرض الجزء الأول منه (1972).
تحفة سينمائية متكاملة الأركان نصّاً وتمثيلاً، وإخراجاً وتصويراً وحواراً وموسيقى تركت بصمة لا تُنسى على صناعة السينما، وتحديداً أفلام العصابات، وغيَّرت نظرة الأميركيين للأقليات المهاجرة، لا سيما الإيطاليين منهم، وصاغت إلى حد بعيد تصورات كثيرين عن طبيعة تنظيمات الجريمة التي اتخذت من المافيا الإيطالية منهجاً لها، كما طرحت عدة أوجه نقدية لفكرة الحلم «الرأسمالي» الأميركي، على نحو لم يُطرح من قبل بهذا الشمول في أي منتج ثقافي موجَّه للاستهلاك الجماهيري.
النجاح البارق والمستحق لـ«العراب»، الفيلم لا ينبغي له أن يحجب القيمة الرفيعة للعمل الأساس الذي استند إليه: أي الرواية التي كتبها ماريو بوزو، الأميركي من أصل إيطالي، ونشرت في 1969 لتلقى نجاحاً فورياً هائلاً، إذ احتلت مكانة ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لما يزيد على العام، وباعت ما يفوق الـ25 مليون نسخة في ترجمات وطبعات عدة، وصارت النموذج لكل أدب يتعلق بالجرائم والمافيات.
لكن الحياة الأهم لهذه الرواية، التي تسجّل نوعاً من سيرة لزعيم مافيا إيطالية في نيويورك عبر مراحل حياته المهنية والشخصية المتعاقبة، امتداداً لتقاعده ونقله مقاليد السلطة لابنه، قد تكون صياغتها المعاصرة لعلاقات القوة في المجتمع الأميركي - كنموذج للمجتمعات الرأسمالية الغربية، وتحليلها المعمق للصراعات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تحكم مصائر الأفراد فيه، حتى صارت نوعاً من «إنجيل» للسياسة والقوة (وفق التعبير باللغة الإنجليزية) لا يستغني عنه كل معنيّ بفهم ديناميات صنع الأحداث المعاصرة داخل مؤسسات الحكم والسلطة الأميركية، حتى يمكن الزعم بأنه كتاب «الأمير المعاصر» على نسق ما كان كتاب «الأمير» لنيقوليو ميكافيللي دليلاً للسياسة والحكم في عصر النهضة، و«الأمير الجديد» لأنطونيو غرامشي في وصفه للحزب السياسي كأداة تقوم بدور «الأمير» الميكافيللي في مجتمعات الحداثة. وفي الواقع فإن عدداً من الكتب اعتمد مفاهيم مستلة من «العراب» لتحليل أوضاع سياسية معاصرة، ومن أحدثها «عقيدة العراب» لجون هولسمان وويس ميشل الذي يقدم تفسيراً لانعطافات السياسة الخارجية الأميركية منذ حادثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، استناداً إلى المادة السياسية لرواية «بوزو».
لكن المفارقة أن صاحب رواية «العراب» لم يكن يوماً قريباً من السلطة أو مراكز صنع القرار، ولم يلتقِ في حياته - وفق تصريحاته للصحف - بأي زعيم عصابات حقيقي. فماريو بوزو الذي رحل عن عالمنا في 1999، كان قد ولد عام 1920 لأبوين أميين من المهاجرين الإيطاليين في حي هيل - كيتشين الشعبي في نيويورك، وهو يدين بفكرة شخصية «العراب»، التي تمزج بين الصرامة المطلقة والحنان الفياض إلى والدته التي تولَّت رعايته صغيراً مع ستة من إخوته، وإدارة شؤون العائلة بعدما أصيب والده بالشيزوفرانيا، وعُزِل في المستشفى، وأصبح مصدر دخل الأسرة معتمداً على التقدمات الاجتماعية من المؤسسات الحكومية؛ فمارست سياسة براغماتية لكن حاسمة لحماية أولادها من الأجواء الموبوءة بالجريمة والفقر من حولهم - تماماً كما يليق بأم إيطالية تقليدية، ليترك حضورها انطباعاً لا يُنسى في ذاكرة الابن.
وبحكم ظروفه المادية، كان بوزو الصبي الفقير يجد ملجأ للتحليق بخياله، وإزجاء الوقت في المكتبة العامة، حيث سحرته الروايات التاريخية كحكايات الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة. شظف العيش دفعه للالتحاق بسكك الحديد كعامل إشارة، وهو لما يزال في الخامسة عشرة، لكن الكتب والقراءة بقيت شغفه، لدرجة أنه تسبب ليلة في تعطل حركة القطارات، عندما نسي، وهو مستغرق بقراءة رواية لدوستويفسكي، أن يغير الإشارات في الوقت المحدد.
شعوره بالحرمان والحصار في بيت مكتظ وأسرة متطلبة وحي فقير وتعليم محدود، دفعه لاتخاذ قرار بأن يخرج من الدائرة المفرغة للعيش في طبقة شعبية إلى فضاء أرحب، عبر امتهان الكتابة، وهو أمر وجدت أمه أنه مجرد جنون ولد مراهق. لكن فرصته أتت للخروج من ربقة ظروفه القاسية، مع انخراط الولايات المتحدة بالحرب العالمية الثانية، فسارع للالتحاق بالخدمة العسكرية في أوروبا، ولم يعد إلى نيويورك إلا عام 1949 بعد مهمة إضافية مع الجيش في الدعاية والعلاقات العامة استمرت لما بعد سنوات القتال. وإثر عودته، التحق بجامعة كولومبيا المرموقة لدراسة الكتابة الإبداعية، فكتب نصوصاً لمجلات شعبية قبل أن يصدر روايته الأولى «الساحة المظلمة» عام 1955، عن الحياة في ألمانيا بعد الحرب وبعدها بعقد «الحاج المحظوظ» - 1965. لكن تلك الأعمال لم تبع جيداً، وأصبح ماريو موضع سخرية العائلة والأقارب، فكان قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن حلمه، ويدع مسألة الكتابة تلك لوقت ما بعد التقاعد.
ما أوقفه عن ذلك حينها كان اقتراح من ناشر رواية «الحاج المحظوظ» بأن يكتب رواية عن المافيا، لكنه أصرَّ على قبض مقدم قبل الشروع في الكتابة، وهو أمر لم يقبل به ذلك الناشر، لكن ناشراً آخر وافق - إثر توصية من صديق - على منحه خمسة آلاف دولار أميركي لتلك الغاية. تردد وقتها، لكنه كان مفلساً تماماً، بل ومديناً بعشرين ألف دولار للأقارب والبنوك وبيوت المقامرات، فلم يجد بُدّاً من القبول.
ومع أن بوزو قضى سنوات يفاعته في أجواء حي شعبي تنتشر فيه الجريمة، وأنه لاحقاً خبر بيئة بيوت المراهنات والقمار، إلا أنه لم يلتق في حياته بزعيم مافيا حقيقي كما ذكرنا، ولذلك فإن كل «العراب» مستوحاة من بحث معمَّق أجراه في الكتب المتوفرة وتحقيقات الكونغرس عن أنشطة المافيا على الأراضي الأميركية. وللحقيقة، فإنه كسليل عائلة إيطالية من المهاجرين التعساء، فإن خبرته الإثنية كانت بعيدة تماماً عن الكليشيهات المتوقعة عن نظام عيش العائلات البرجوازية المتحدرة من هناك؛ فهو لم يسمع في طفولته أي غناء إيطالي في مناسبة عائلية، وكانت كل الشخصيات الإيطالية التي التقاها قاسية الطبع، أقرب للجلافة والجهل. وقد كبر ليدرك أن هجرة أهله وآلاف غيرهم من بلادهم إلى العالم «الجديد» لم تكن سوى نتيجة استمتاع تلك العائلات البرجوازية بملذات الحياة الباهظة على حساب مواطنيهم.
استفاد بوزو من تواتر الأنباء عن أنشطة المافيا وجرائمها وصراعاتها خلال الستينات من العقد الماضي ليخلق شخصيات وأحداثاً قريبة من الواقع على نسقها. ويقال إن شخصية الدون فيتو كورليوني مستمدة من فرانك كاستيلو (رئيس وزراء) المافيا الذي كان معروفاً بميله إلى حل المشكلات بالدبلوماسية، وعبر رشوة القضاة والسياسيين بدلاً من العنف.
استغرقت كتابة العراب وقتاً طويلاً، ولما أراد بوزو الحصول على سلفة مقدمة بقيمة 1200 دولار للذهاب مع عائلته إلى أوروبا، اضطر إلى أن يسلم الناشر نسخة من النص ليثبت تقدمه في العمل، فأعلمهم بأنه لن يغيب طويلاً، وأن تلك النسخة غير نهائية وتحتاج لكثير من التعديل وإعادة الكتابة لدى عودته. لكنه بعد فترة، تورط بديون لبيوت المراهنات تجاوزت الثمانية آلاف دولار، فلم يجد بداً من الاتصال بناشره لطلب المساعدة والحصول على سلفة إضافية، ليُفاجأ بالأخبار المذهلة: لقد تنافس عديدون لشراء حقوق نشر الرواية، وأن الناشر على وشك بيعها بما يقرب من نصف مليون دولار أميركي.
لم يجرؤ بوزو على المطالبة باستعادة النص لإجراء التعديلات التي كانت في ذهنه خوفاً من أن يخسر فرصة الثراء المفاجئ، إن غير الناشر رأيه، وهكذا نُشِرت الرواية دون تعديلات، لتحظى بنجاح تجاري فوري كبير. وقد قابل بعدها بعضاً من الشخصيات المرتبطة بالمافيا التي شككت بادعاء بوزو بأنه كتب روايته من الأبحاث فحسب، دون أن يكون هو نفسه مستشاراً لأحد العرابين على الأقل.
لم تكن رواية «العراب» مع ذلك ضربة حظ، بل نتاج سنوات طويلة من العزيمة والإصرار ومقارعة الأدب والقراءة المكثفة حتى أصبح روائياً محترفاً يُشار إليه بالبنان. أما ما الذي ألهمه لامتهان الكتابة من حيث المبدأ، فليس واضحاً تماماً. أهو الفقر، أم الولع بالقراءة، أو شخصية أمه الصارمة الحنون، أو ربما «الإخوة كارامازوف»، كما قال في إحدى المقابلات. لكننا اليوم مدينون له لقراره ذاك، مهما كانت دوافعه.


مقالات ذات صلة

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

مايا ويند
مايا ويند
TT

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

مايا ويند
مايا ويند

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في الولايات المتحدة وعدد من دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين، وعرّفت ملايين الغربيين العاديين بالمذبحة التي يتعرّض لها سكان قطاع غزّة منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكنّها كشفت أيضاً، وفي إطار سعي الطلاب لمد جهود مقاطعة إسرائيل إلى فضاء الثقافة والتعليم، عن تشبيك ممنهج ومقونن وعميق بين المؤسسات الأكاديميّة الغربيّة ونظيراتها في الدّولة العبريّة يصل إلى حد الشراكة التامة أحياناً، ولا سيّما في القطاعات المعرفيّة المتعلقة بتطبيقات التكنولوجيا الحديثة في مجالات الدّفاع والأمن والتجسس.

وقد تبيّن أيضاً أن تلك الشراكات قد تكون محميّة بغطاء قانوني يمنع الفكاك منها، ويتلقى كثير منها استثمارات ومنحاً ممولة من الموازنات العامة إلى جانب القطاع الخاص.

وقد يبدو الأمر من بعيد ودونما تمحيص نتاج جهد أكاديميّ متفوّق تقوم به الجامعات العبريّة، وحرصاً في المقابل من جامعات الغرب على دعم تقدّم المعارف والعلوم في ذلك الكيان الغربيّ الهوى المزروع في قلب الشرق. لكن الحقيقة أن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية منذ ما قبل تأسيس الكيان وإلى اليوم جزء لا يتجزأ من النظام الاستعماري الاستيطاني على الأرض الفلسطينية، وهي تلعب أدواراً أساسيّة في القمع المستمر للشعب العربي الفلسطيني، وفق ما تقول الدكتورة مايا ويند، في «أبراج العاج وفولاذ: كيف تنكر الجامعات الإسرائيلية الحرية الفلسطينية - 2024»، كتابها الأحدث الذي صدر عن «دار فيرسو للكتب» مؤخراً.

في ستة فصول تروي الدكتورة ويند بنفس علمي رصين تاريخ المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية منذ بدايات القرن الماضي وإلى اليوم، وهي حكاية تسبق بعقود قيام إعلان الدولة العبريّة - بعد حرب 1948 - إذ كانت مؤسسات نشأت في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين (مثل معهد إسرائيل للتكنولوجيا «تخنيون حيفا» - 1912، والجامعة العبرية بالقدس - 1925، و«معهد وايزمان» في رحوفوت بالقرب من تل أبيب - 1934) بؤراً أمامية متقدمة للمشروع الصهيوني في الزّمان والمكان، على حد سواء، وأسهمت بشكل فاعل في تعزيز صيغة «التهويد» في الأراضي الفلسطينية - على حد تعبير المؤلفة - وتسوية الطريق أمام الدولة الجديدة، ومدّها بالكوادر وطرائق العمل والآيديولوجيا أيضاً.

لقد أصبحت هذه المؤسسات، إلى جانب غيرها مما أطلق بعد حرب 1948، نقاط الارتكاز الأساسيّة التي يستند إليها مجمع صناعي عسكري جديد يكمل ويتكامل مع المجمع الصناعي العسكري للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فكأنّها مستوطنة مختبرات أبحاث تابعة للشركات العسكرية الأميركيّة الكبرى تتولى لصالحها تطوير روبوتات القتل الآلي وأدوات المراقبة ومعدات السيطرة على الحشود وأدوات التعذيب، ومن ثمّ تسهيل تسويقها كمنتجات تم اختبارها بالفعل (في المعركة ضد الفلسطينيين العزل). ولهذا لم يكن مستغرباً مثلاً أن وصف الرئيس التنفيذي لشركة «إلبيت» لصناعة الأسلحة معهد «تخنيون حيفا» بأنه «الحمض النووي لإلبيت».

وعلى أيّ حال، لا يتوقف دور الجامعات في «الدولة الأمنية العلمية»، على حد تعبير ويند، عند تطوير الطراز الأحدث من درونات المراقبة والقتل، بل وتقوم أيضاً بدور مراكز تأهيل وتدريب متقدّم لكوادر الاستخبارات والأمن والجيش، ناهيك عن أن أراضيها المسروقة من مالكيها الفلسطينيين تستضيف مكونات من البنية التحتية الحيوية للاتصالات العسكريّة، ومواقع ومراكز يديرها الجيش الإسرائيلي مباشرة، في دمج كليّ مروّع للجامعات في منظومة الدّفاع والأمن. وتقول ويند إنها استوحت اسم كتابها (أبراج من عاج وفولاذ) من برج جامعة حيفا الشاهق الذي كان آخر طوابقه الـ31، وحتى وقت قريب، مقراً للجيش، وتحته تماماً الطابق الذي يضم إدارة الجامعة.

وبغير هذه الأدوار ذات الطبيعة الدفاعية - الأمنية، فإن الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في إسرائيل تقوم بدور موازٍ في مساحات التعليم والثقافة والأدلجة، فتبيض مشروع الاحتلال الصهيوني، وتبرر جرائمه بحق الفلسطينيين والعرب، وتكرّس أسطورة «الديمقراطية الليبرالية الوحيدة في الشرق الأوسط» المخصصة لاستهلاك المواطنين الغربيين العاديين. وهذا الدّور الموازي يتطلّب بالضرورة تشويه معطيات الأبحاث في مختلف مجالات المعرفة كي تتطابق مع السرديّة الصهيونية، وقمع أصوات المفكرين والعلماء التي قد تخرج عن الخطوط المصرّح فيها، والتضييق على الطلبة الفلسطينيين فيها ممن فرضت عليهم الهويات الإسرائيلية (في الأراضي التي احتلت في عام 1948، والقدس). وهذا الجانب الأخير يأخذ بعداً آخر تماماً عند دراسة استهداف سلطات الاحتلال للجامعات الفلسطينية، ولطلبتها. ولعل التدمير الكلي لجامعات غزة وتصفية كوادرها التعليمية وحرق مكتباتها وتجهيزاتها البحثية خلال العدوان المستمر على القطاع تفسير عملي مباشر لمنطق الدّولة العبرية فيما يتعلّق بـ«الحريات الأكاديمية» للفلسطينيين.

مؤسسات نشأت في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين، بؤر أمامية متقدمة للمشروع الصهيوني

وهكذا نذهب إلى استنتاج صادم لا بدّ منه: إن كل تعاون دولي مع الجامعات والمؤسسات التعليمية الإسرائيليّة - تحت غطاء التبادل المعرفي والتلاقي الأكاديمي والأبحاث المشتركة - انخراط آثم في التمكين للمشروع الصهيوني، وتآمر متعمد لمنح سلطات الاحتلال الاستيطاني ورقة توت تواري بها سوءة ممارساتها الإجرامية بحق الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية، وأن كل جدل بشأن حريّة البحث العلمي (للمؤسسات) والحريات الأكاديمية (للأفراد) ينقلب مغالطة عندما يتعلق الأمر بالكيانات الجامعية الإسرائيلية وبالأكاديميين الإسرائيليين، إذ «لا توجد حرية أكاديمية أصلاً حتى تنطبق على الجميع»، على حد تعبير المؤلفة.

ينضم كتاب «أبراج من عاج وفولاذ» إلى كتب مثل «فلسطين مختبراً: كيف تصدر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم - 2023» لأنتوني لوينشتاين، و«الحرب البيئية في غزّة: العنف الاستعماري وآفاق المقاومة الجديدة - 2024» لشريدة مولوي، وعدة كتب أخرى صدرت في الآونة الأخيرة يتصدى مؤلفوها، وهم أكاديميون شبان شجعان، وللمفارقة فإن بعضهم من أصول يهودية أو يحملون جنسيات إسرائيلية، لتفكيك الصّورة التي رسمها الإعلام الغربي خلال ثمانين عاماً عن واحة مزعومة للديمقراطية والحضارة في قلب صحراء الهمجيّة، ورفع الستار عن جوانب يتم تجليها عمداً حسب أساليب «الترجمة حتى النّخاع» التي تقوم بها الدّولة العبرية للأرض الفلسطينية، وللفلسطينيين، وللتاريخ أيضاً.

 

«أبراج العاج والفولاذ»

Towers of Ivory and Steel: How Israeli Universities Deny Palestinian Freedom by Maya Wind, Verso, 2024

المؤلفة: مايا ويند

الناشر: دار فيرسو للكتب

2024