فيليب تيناري: «بينالي الدرعية» يعكس اللحظات التاريخية للتحوّل في السعودية

القيّم الفني للمعرض قال لـ «الشرق الأوسط» إن الروحانية كانت من أولى الأشياء التي أحس بها خلال زيارته الأولى للمملكة

بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
TT

فيليب تيناري: «بينالي الدرعية» يعكس اللحظات التاريخية للتحوّل في السعودية

بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)

تنتهي في 11 من الشهر الحالي فعاليات أول بينالي للفن المعاصر في السعودية، وهو بينالي الدرعية، الذي شارك فيه نحو 64 فناناً من أنحاء العالم.
عبر أشهر، شهدت قاعات العرض في البينالي تدفق الزوار من داخل وخارج المملكة، وبدا لافتاً أن الإقبال لم يخفت بعد أشهر من افتتاحه، فمساحات العرض ما زالت تتلقى الزوار على مدار اليوم، وأيضاً قاعات ورش الأعمال والحوارات والمناقشات التي جذبت ولا تزال تجذب كثيرين على مدى الأسبوع.

فيليب تيناري...  القيّم الفني للبينالي

بشكل شخصي، كانت زيارة البينالي تجربة ممتعة بكل المقاييس. أطلقت رحلتي في فنون المملكة والعالم من القاعة الأولى، حيث تعرض لوحتان ضخمتان تستوليان على اهتمام الزائر للوهلة الأولى. البداية على اليمين مع اللوحة الضخمة للفنانة السعودية مها الملوح، وهي من سلسلة «غذاء للفكر»، وتُقدم عبر استخدام أشرطة الكاسيت القديمة وصواني الخبز الخشبية تعليقاً بصرياً على الوباء الذي اجتاح العالم وجمع بين دوله في إطار واحد، تماماً مثل ما فعلت الفنانة بأشرطتها. على الجانب الآخر من لوحة الملوح، نرى عملاً آخر، لا يقل حجماً أو إبداعاً، وهو للفنان ريتشارد لونغ، ويحمل عنوان «دائرة الأرض الحمراء». يمثل العملان مقدمة قوية ولافتة لبقية العرض الذي يجذبنا للتجول والتأمل والاستمتاع.

من أعمال لولوة الحمود

«تتبع الحجارة» وتتبع التحول الثقافي

يحمل البينالي عنوان «تتبع الحجارة» وهي جملة مقتبسة من القول الصيني «عبور النهر من خلال تتبع الحجارة»، التي اشتهرت في أوائل الثمانينات في الصين، وقد استخدمت العبارة تعبيراً عن النشاط الثقافي والتطور الاجتماعي في الصين، وبشكل من الأشكال تنتقل المقولة اليوم لتعبر عن النشاط الثقافي والتغييرات التي تشهدها المملكة هذه الأيام. وربما أدى هذا التشابه أيضاً إلى وجود عدد كبير من أعمال لفنانين صينيين في البينالي، وهو سؤال أطرحه على المنسق الفني للبينالي، فيليب تيناري، أثناء حوار خاص بـ«الشرق الأوسط» معه.

 «بين بحار الصحراء» لأيمن زيداني

أطلق حواري مع تيناري بالسؤال عن المقاربة بين الأعمال الفنية السعودية والصينية، والفكرة التي دفعته لطرح هذا المفهوم. يعود بنا في إجابته للمرة الأولى التي زار فيها السعودية، وكان ذلك عام 2019 قبل الجائحة: «راودني ذلك الشعور الطاغي بأن المملكة تخوض غمرة التغيير الاجتماعي الشامل.


 «ولادة مكان» لزهرة الغامدي

لقد عملت وعشت معظم حياتي في بكين، ولكوني من خارج الصين كان عليّ أن أدرس وأتعلم، وكان معظم النقاشات التي خضتها هناك يدور حول التحولات المجتمعية في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وصولاً للتسعينات». يشير إلى أن النقاشات والتأملات كانت وراء إقامته لمعرض فني في متحف غوغنهايم حول الفن الصيني في عام 2017 وكان يركز على التحولات الثقافية هناك. وكان من الطبيعي أن تكون المقارنة مع فترة التغييرات الاجتماعية والثقافية في السعودية ماثلة في ذهن تيناري، لكنه يعترف أنها مقارنة غير «مكتملة»، فهناك فارق زمني (40 عاماً) واختلاف كبير جداً في المجتمع والثقافة بين البلدين، وإن كان يجد أن هناك تشاركاً في الحماسة والإثارة التي تصاحب لحظات الانفتاح والتحول، وهي مهمة جداً للفنانين، «فهي لها القدرة على دفع أجيال من الفنانين مثلما حدث في الصين أو في الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية». وبشكل مقرب، يرى مثالاً لتلك التحولات في معرض «ديزرت إكس بالعلا». ويضيف: «نستطيع رؤية تطور هذا الجيل من الفنانين السعوديين، واكتسابه الصلابة يوماً بعد يوم».

 «شد الرحال» لسلطان بن فهد

يشير إلى أن عدد الفنانين الصينيين في البينالي هو عدد صغير نسبياً (12 فناناً) مقارنة بالعدد الكامل للفنانين المشاركين، وهو 64، ويستطرد قائلاً: «أعتقد أن ذلك أمر طبيعي، فأنا على علم وألفة بالمشهد الفني والفنانين الذين عملت معهم عبر السنين، ولكن أيضاً هناك مقارنة غير مباشرة وغير كاملة، ولكني أعتقد أنها بناءة نوعاً ما».


 «تسع وتسعون» لعمر عبد الجواد

وفي إطار الفهم المشترك للمتغيرات التي أثّرت على أجيال الفنانين في الصين في القرن الماضي، والآن في السعودية، ما الذي يراه تيناري فيما يقدمه فنانو السعودية؟ يجيبني: «ما يجذبني للفن السعودي هو الكوزموبوليتانية، فكثير من الفنانين هنا عاشوا وعملوا لفترات خارج بلادهم، وأغلبهم يتفاعلون مع التيارات والنقاشات العالمية أثناء حدوثها. أعتقد أيضاً أنهم منخرطون في قضايا هامة، مثل المناخ والبيئة، وهو أمر نرى مثلاً له في عمل الفنان أيمن زيداني في البينالي، أو عمل الفنانة مروة المقيط، الذي يتعامل مع مسألة الجندرية. أرى أنها أعمال وقتية تعرض في نفس الوقت الذي يشهد تطورات تلك القضايا في العالم. في السعودية يجد الفنانون أنفسهم في مكان يمكنهم من الدخول في نقاشات ضخمة، ولكنهم يفعلون ذلك بطريقتهم الخاصة».


«لا مزيد من السلبية» لشادية عالم

البداية من العالم

يرى تيناري في عمل مها الملوح نقطة مناسبة للغاية لإطلاق الحوار الفني التي ينطلق أمامنا في صالات البينالي، ويعلق: «هنا أكثر من عامل، فهي أولاً تعتبر من الفنانين الرواد بالنسبة لهذا الجيل، بدت لي كعامل مؤثر لا بد من وجوده في العرض، وكان مناسباً جداً أن يأتي عملها في البداية، تعجبني فكرة العمل الذي يقدم رؤية للعالم، مستخدماً مواد محلية للغاية. هذا التعامل مع العولمة والفرص التي تقدمها، إضافة إلى مخاطرها، هو اتجاه، فكّر فيه الفنانون في العالم منذ التسعينات، منذ أن نفّذ الفنان ريتشارد لونغ العمل المجاور لعمل مها. بالنسبة لي أحسست أننا لا نزال نعيش في تلك المحادثة التي بدأت بعد نهاية الحرب الباردة وبداية العولمة».

زائران أمام عمل للفنان مهدي الجريبي

وضع تيناري العملان على قدم المساواة من حيث الحجم والعرض، ويتحدث عن عمل الملوح قائلاً إن العنصر المحلي «خاطبني بشكل خاص، بالنسبة لي عمل الملوح يشبه أعمال الفنان الصيني آي وي وي الأولى، هي مهتمة بكيان الأشياء التي كانت يوماً ذائعة الانتشار وأصبحت الآن تذكارات للحظات مضت، ليس فقط من حيث مضمون الشرائط الكاسيت الذي تغير، بل أيضاً لكون الشرائط نفسها أصبحت غير مستخدمة».

تواصل أجيال

في القاعة الأولى من البينالي تلفتني أعمال من مقتنيات مؤسسة المنصورية، وتبدو كعرض خاص داخل البينالي، يضم العرض أعمالاً رائدة لفنانين، مثل منيرة موصلي، ومهدي الجريبي، وفيصل سمرة، وشادية عالم. بالنسبة لتيناري يمثل هذا الجانب من العرض فصلاً من تاريخ الفن السعودي لا يمكن تجاهله، ويرى فيها تصويراً لتطور الفن المعاصر.
أسأله إن كان العرض الذي يضم أعمالاً لفنانين رواد، أمثال محمد السليم، وفهد الحجيلان، وعبد الله حماس، ربما يمكن رؤيته كحلقة وصل مع الأجيال الأحدث، التي تعرض أعمالها هنا، يجيب: «نعم، رأيت مثل هذا القسم في عدد من البيناليات الدولية؛ حيث توجد وقفة فنية ذات طابع خاص، مثل العرض الصغير داخل عرض أكبر».


 «قصة مرجعية... جداول وجبال لا تنتهي» لزو بينغ

البيئة هاجس فني

من المواضيع القوية في أعمال البينالي كان موضوع البيئة والمناخ حيث تعاملت أعمال كثيرة مع القضايا التي تؤثر على الحياة على الأرض، وكان لها جانب آخر، وهو تأملات على هامش الوباء، تضافرت بشكل ما مع الموضوعات المناخية. يؤكد على ذلك ويقول ضارباً المثل: «هناك عمل للفنان تيمور سي كين عن فيروس كورونا المستجد يتحدث عن أن الوباء كان بمثابة لقاح للبشرية ضد نوازعها التدميرية». تتشارك الأعمال في هذا القسم في التركيز على «الهم المشترك للعالم والأمل في عالم آخذ في التشكل الآن». في عمل جون جيرارد «أوراق الشجر» نرى شخصاً ما يرتدي غطاء من أوراق الشجر ينوح على حال الكوكب، أما في عمل الفنان المبدع أيمن زيداني «بين بحار الصحراء» الذي يسمرنا في أماكننا، فنسمع أصوات الحيتان العربية المعرضة للخطر. يؤكد تيناري على أن هذه الأعمال ليست مقحمة، وإنما تحاول الإجابة على تساؤلات كثيرة، «هي تعبر عن رؤية للفنانين مع اقترابنا من الربع الأول من القرن الثاني والعشرين، مع تطور تلك القضايا لتصبح أسئلة ملحة ومن المستحيل تجاهلها».

الأعمال الملحمية

الملاحظ في البينالي هو أن عدداً كبيراً من الأعمال تتميز بالحجم «الملحمي» الضخم جداً، مثل عمل الفنانة دانة عورتاني «الوقوف على أطلال حلب» وعمل الفنان الصيني زو بينغ «قصة مرجعية... جداول وجبال لا تنتهي»، وأيضاً عمل الفنانة زهرة الغامدي «ولادة مكان». تتميز الأعمال خاصة عمل عورتاني وزو بينغ بالعمل اليدوي الذي يجمع عناصر مختلفة سوياً لتكوين صورة ضخمة متعددة المعاني، في حالة عمل عورتاني نجد قطع الأرضية المتميزة بالتشكيلات الهندسية الإسلامية، التي تكسر بعضها عمداً لنقل صورة من المسجد الأموي والتدمير الذي طاله على يد متشددين. أما عمل زو بينغ فله جانبان، أحدهما منمق، يصور الجبال والأشجار ومياه النهر المنسابة، أما من الخلف فنجد كل التفاصيل الدقيقة لعمل الفنان من قطع القطن إلى شريط لاصق يثبت به العناصر المختلفة في عمله. يبدو الجانبان مكمل بعضهما بعضاً، هنا نرى الظاهر والباطن، المادية والروحانية. في عمومه العمل ممتع جداً بكل تفاصيله ما ظهر منه وما لم يظهر. «ولادة مكان» لزهرة الغامدي لا يقل ضخامة أو اتساعاً عن عمل عورتاني، يعبر عن «رحلة الاضمحلال والعودة للحياة، وتحديداً جهود المملكة لإحياء الفنون المعمارية»، بحسب ما تصف الفنانة عملها في تغريدة على موقع «تويتر».
بالنسبة لتيناري الأحجام الضخمة للأعمال المعروضة جاءت مناسبة للمساحات الشاسعة المتوافرة، «قمنا بتنسيق المعروضات بدون معرفة ما ستكون عليه مساحة المستودعات الضخمة في حي جاكس (التي تم تحويلها لتصبح قاعات عرض البينالي)» ولكنه وجد أن المساحات الشاسعة «أظهرت للجمهور الأشكال المختلفة التي يمكن للفن أن يأخذها، فهو أكثر من مجرد لوحات مرسومة أو منحوتات، فالأعمال يمكن أن تكون (غامرة) أيضاً».

الجانب الروحي للعرض

«فيما يخص الروح» هو عنوان أحد أقسام العرض، هنا تتجلى الروحانية والتجليات، وبحسب دليل العرض، فذلك أمر طبيعي في «أمة عامرة بالأماكن المقدسة» حيث تتجلى العلاقة بين الفن والأسئلة المرتبطة بالوجود الإنساني بطرق جديدة وقوية؛ حيث يستلهم بعض الفنانين من الموروثات الدينية. في هذا القسم تعرض مجموعة من أجمل ما أبدع الفنانون السعوديون، مثل عمل الفنان سلطان بن فهد «شد الرحال» الذي يتمتع بجماليات بصرية عالية جداً، وبدفقة روحانية تنبع من الأماكن المقدسة المصورة هنا، ومن الضوء الغامر الذي يلف مساحة العرض بعد ممر خافت الضوء. هناك أيضاً عمل لا يمكن وصفه سوى بالبديع جداً للفنانة المتميزة دائماً لولوة الحمود، المعنون «لغة الوجود»، وهو أيضاً عرض ضوئي باللون الأزرق في الغالب يجسد الأشكال الهندسية من أعمال الحمود، ويحولها لكائن حي متغير عبر الصوت والضوء، أيضاً العمل هنا غامر وروحاني يغري الزائر بالجلوس أمامه لفترات طويلة. ولا بد هنا من ذكر عمل الفنان عمر عبد الجواد المعنون «تسع وتسعون» الذي يعبر عبر مسار واحد مصنوع من صفائح الأكريليك المضيئة على وحدة المصير، على الرغم من تنوع الخلفيات ووجهات النظر.
يقول تيناري إن الروحانية المستقرة في كيان الأشياء كانت من أولى الأشياء التي أحس بها خلال زياراته الأولى للمملكة: «كنت متأثراً بالجانب الكبير الذي تمثله الروحانية في حياة الناس هنا، وتتجلى بشكل طبيعي وعميق، كان جانباً لا بد من تناوله في العرض، عبر التأكيد على هذا العنصر وتوضيحه وجدت أن هذا القسم هو أفضل مكان لختام العرض، ربما يمكننا رؤية ذلك بشكل ما على أنه نقطة وصل أو جسر يصل بنا لبينالي الفن الإسلامي الذي سيقام في نهاية العام بمدينة جدة».

تأملات نهائية

ما هو إحساس تيناري بالتجربة بعد الوصول للنهاية؟ يقول: «أشعر أنه كان أمراً إيجابياً للغاية بالنسبة لي ولأناس كثيرين غيري، سواء أكانوا من الزوار أم من الفنانين المشاركين من الداخل والخارج، أن نكون جزءاً من نقطة حاسمة بشكل من الأشكال».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».