فيليب تيناري: «بينالي الدرعية» يعكس اللحظات التاريخية للتحوّل في السعودية

القيّم الفني للمعرض قال لـ «الشرق الأوسط» إن الروحانية كانت من أولى الأشياء التي أحس بها خلال زيارته الأولى للمملكة

بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
TT

فيليب تيناري: «بينالي الدرعية» يعكس اللحظات التاريخية للتحوّل في السعودية

بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)

تنتهي في 11 من الشهر الحالي فعاليات أول بينالي للفن المعاصر في السعودية، وهو بينالي الدرعية، الذي شارك فيه نحو 64 فناناً من أنحاء العالم.
عبر أشهر، شهدت قاعات العرض في البينالي تدفق الزوار من داخل وخارج المملكة، وبدا لافتاً أن الإقبال لم يخفت بعد أشهر من افتتاحه، فمساحات العرض ما زالت تتلقى الزوار على مدار اليوم، وأيضاً قاعات ورش الأعمال والحوارات والمناقشات التي جذبت ولا تزال تجذب كثيرين على مدى الأسبوع.

فيليب تيناري...  القيّم الفني للبينالي

بشكل شخصي، كانت زيارة البينالي تجربة ممتعة بكل المقاييس. أطلقت رحلتي في فنون المملكة والعالم من القاعة الأولى، حيث تعرض لوحتان ضخمتان تستوليان على اهتمام الزائر للوهلة الأولى. البداية على اليمين مع اللوحة الضخمة للفنانة السعودية مها الملوح، وهي من سلسلة «غذاء للفكر»، وتُقدم عبر استخدام أشرطة الكاسيت القديمة وصواني الخبز الخشبية تعليقاً بصرياً على الوباء الذي اجتاح العالم وجمع بين دوله في إطار واحد، تماماً مثل ما فعلت الفنانة بأشرطتها. على الجانب الآخر من لوحة الملوح، نرى عملاً آخر، لا يقل حجماً أو إبداعاً، وهو للفنان ريتشارد لونغ، ويحمل عنوان «دائرة الأرض الحمراء». يمثل العملان مقدمة قوية ولافتة لبقية العرض الذي يجذبنا للتجول والتأمل والاستمتاع.

من أعمال لولوة الحمود

«تتبع الحجارة» وتتبع التحول الثقافي

يحمل البينالي عنوان «تتبع الحجارة» وهي جملة مقتبسة من القول الصيني «عبور النهر من خلال تتبع الحجارة»، التي اشتهرت في أوائل الثمانينات في الصين، وقد استخدمت العبارة تعبيراً عن النشاط الثقافي والتطور الاجتماعي في الصين، وبشكل من الأشكال تنتقل المقولة اليوم لتعبر عن النشاط الثقافي والتغييرات التي تشهدها المملكة هذه الأيام. وربما أدى هذا التشابه أيضاً إلى وجود عدد كبير من أعمال لفنانين صينيين في البينالي، وهو سؤال أطرحه على المنسق الفني للبينالي، فيليب تيناري، أثناء حوار خاص بـ«الشرق الأوسط» معه.

 «بين بحار الصحراء» لأيمن زيداني

أطلق حواري مع تيناري بالسؤال عن المقاربة بين الأعمال الفنية السعودية والصينية، والفكرة التي دفعته لطرح هذا المفهوم. يعود بنا في إجابته للمرة الأولى التي زار فيها السعودية، وكان ذلك عام 2019 قبل الجائحة: «راودني ذلك الشعور الطاغي بأن المملكة تخوض غمرة التغيير الاجتماعي الشامل.


 «ولادة مكان» لزهرة الغامدي

لقد عملت وعشت معظم حياتي في بكين، ولكوني من خارج الصين كان عليّ أن أدرس وأتعلم، وكان معظم النقاشات التي خضتها هناك يدور حول التحولات المجتمعية في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وصولاً للتسعينات». يشير إلى أن النقاشات والتأملات كانت وراء إقامته لمعرض فني في متحف غوغنهايم حول الفن الصيني في عام 2017 وكان يركز على التحولات الثقافية هناك. وكان من الطبيعي أن تكون المقارنة مع فترة التغييرات الاجتماعية والثقافية في السعودية ماثلة في ذهن تيناري، لكنه يعترف أنها مقارنة غير «مكتملة»، فهناك فارق زمني (40 عاماً) واختلاف كبير جداً في المجتمع والثقافة بين البلدين، وإن كان يجد أن هناك تشاركاً في الحماسة والإثارة التي تصاحب لحظات الانفتاح والتحول، وهي مهمة جداً للفنانين، «فهي لها القدرة على دفع أجيال من الفنانين مثلما حدث في الصين أو في الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية». وبشكل مقرب، يرى مثالاً لتلك التحولات في معرض «ديزرت إكس بالعلا». ويضيف: «نستطيع رؤية تطور هذا الجيل من الفنانين السعوديين، واكتسابه الصلابة يوماً بعد يوم».

 «شد الرحال» لسلطان بن فهد

يشير إلى أن عدد الفنانين الصينيين في البينالي هو عدد صغير نسبياً (12 فناناً) مقارنة بالعدد الكامل للفنانين المشاركين، وهو 64، ويستطرد قائلاً: «أعتقد أن ذلك أمر طبيعي، فأنا على علم وألفة بالمشهد الفني والفنانين الذين عملت معهم عبر السنين، ولكن أيضاً هناك مقارنة غير مباشرة وغير كاملة، ولكني أعتقد أنها بناءة نوعاً ما».


 «تسع وتسعون» لعمر عبد الجواد

وفي إطار الفهم المشترك للمتغيرات التي أثّرت على أجيال الفنانين في الصين في القرن الماضي، والآن في السعودية، ما الذي يراه تيناري فيما يقدمه فنانو السعودية؟ يجيبني: «ما يجذبني للفن السعودي هو الكوزموبوليتانية، فكثير من الفنانين هنا عاشوا وعملوا لفترات خارج بلادهم، وأغلبهم يتفاعلون مع التيارات والنقاشات العالمية أثناء حدوثها. أعتقد أيضاً أنهم منخرطون في قضايا هامة، مثل المناخ والبيئة، وهو أمر نرى مثلاً له في عمل الفنان أيمن زيداني في البينالي، أو عمل الفنانة مروة المقيط، الذي يتعامل مع مسألة الجندرية. أرى أنها أعمال وقتية تعرض في نفس الوقت الذي يشهد تطورات تلك القضايا في العالم. في السعودية يجد الفنانون أنفسهم في مكان يمكنهم من الدخول في نقاشات ضخمة، ولكنهم يفعلون ذلك بطريقتهم الخاصة».


«لا مزيد من السلبية» لشادية عالم

البداية من العالم

يرى تيناري في عمل مها الملوح نقطة مناسبة للغاية لإطلاق الحوار الفني التي ينطلق أمامنا في صالات البينالي، ويعلق: «هنا أكثر من عامل، فهي أولاً تعتبر من الفنانين الرواد بالنسبة لهذا الجيل، بدت لي كعامل مؤثر لا بد من وجوده في العرض، وكان مناسباً جداً أن يأتي عملها في البداية، تعجبني فكرة العمل الذي يقدم رؤية للعالم، مستخدماً مواد محلية للغاية. هذا التعامل مع العولمة والفرص التي تقدمها، إضافة إلى مخاطرها، هو اتجاه، فكّر فيه الفنانون في العالم منذ التسعينات، منذ أن نفّذ الفنان ريتشارد لونغ العمل المجاور لعمل مها. بالنسبة لي أحسست أننا لا نزال نعيش في تلك المحادثة التي بدأت بعد نهاية الحرب الباردة وبداية العولمة».

زائران أمام عمل للفنان مهدي الجريبي

وضع تيناري العملان على قدم المساواة من حيث الحجم والعرض، ويتحدث عن عمل الملوح قائلاً إن العنصر المحلي «خاطبني بشكل خاص، بالنسبة لي عمل الملوح يشبه أعمال الفنان الصيني آي وي وي الأولى، هي مهتمة بكيان الأشياء التي كانت يوماً ذائعة الانتشار وأصبحت الآن تذكارات للحظات مضت، ليس فقط من حيث مضمون الشرائط الكاسيت الذي تغير، بل أيضاً لكون الشرائط نفسها أصبحت غير مستخدمة».

تواصل أجيال

في القاعة الأولى من البينالي تلفتني أعمال من مقتنيات مؤسسة المنصورية، وتبدو كعرض خاص داخل البينالي، يضم العرض أعمالاً رائدة لفنانين، مثل منيرة موصلي، ومهدي الجريبي، وفيصل سمرة، وشادية عالم. بالنسبة لتيناري يمثل هذا الجانب من العرض فصلاً من تاريخ الفن السعودي لا يمكن تجاهله، ويرى فيها تصويراً لتطور الفن المعاصر.
أسأله إن كان العرض الذي يضم أعمالاً لفنانين رواد، أمثال محمد السليم، وفهد الحجيلان، وعبد الله حماس، ربما يمكن رؤيته كحلقة وصل مع الأجيال الأحدث، التي تعرض أعمالها هنا، يجيب: «نعم، رأيت مثل هذا القسم في عدد من البيناليات الدولية؛ حيث توجد وقفة فنية ذات طابع خاص، مثل العرض الصغير داخل عرض أكبر».


 «قصة مرجعية... جداول وجبال لا تنتهي» لزو بينغ

البيئة هاجس فني

من المواضيع القوية في أعمال البينالي كان موضوع البيئة والمناخ حيث تعاملت أعمال كثيرة مع القضايا التي تؤثر على الحياة على الأرض، وكان لها جانب آخر، وهو تأملات على هامش الوباء، تضافرت بشكل ما مع الموضوعات المناخية. يؤكد على ذلك ويقول ضارباً المثل: «هناك عمل للفنان تيمور سي كين عن فيروس كورونا المستجد يتحدث عن أن الوباء كان بمثابة لقاح للبشرية ضد نوازعها التدميرية». تتشارك الأعمال في هذا القسم في التركيز على «الهم المشترك للعالم والأمل في عالم آخذ في التشكل الآن». في عمل جون جيرارد «أوراق الشجر» نرى شخصاً ما يرتدي غطاء من أوراق الشجر ينوح على حال الكوكب، أما في عمل الفنان المبدع أيمن زيداني «بين بحار الصحراء» الذي يسمرنا في أماكننا، فنسمع أصوات الحيتان العربية المعرضة للخطر. يؤكد تيناري على أن هذه الأعمال ليست مقحمة، وإنما تحاول الإجابة على تساؤلات كثيرة، «هي تعبر عن رؤية للفنانين مع اقترابنا من الربع الأول من القرن الثاني والعشرين، مع تطور تلك القضايا لتصبح أسئلة ملحة ومن المستحيل تجاهلها».

الأعمال الملحمية

الملاحظ في البينالي هو أن عدداً كبيراً من الأعمال تتميز بالحجم «الملحمي» الضخم جداً، مثل عمل الفنانة دانة عورتاني «الوقوف على أطلال حلب» وعمل الفنان الصيني زو بينغ «قصة مرجعية... جداول وجبال لا تنتهي»، وأيضاً عمل الفنانة زهرة الغامدي «ولادة مكان». تتميز الأعمال خاصة عمل عورتاني وزو بينغ بالعمل اليدوي الذي يجمع عناصر مختلفة سوياً لتكوين صورة ضخمة متعددة المعاني، في حالة عمل عورتاني نجد قطع الأرضية المتميزة بالتشكيلات الهندسية الإسلامية، التي تكسر بعضها عمداً لنقل صورة من المسجد الأموي والتدمير الذي طاله على يد متشددين. أما عمل زو بينغ فله جانبان، أحدهما منمق، يصور الجبال والأشجار ومياه النهر المنسابة، أما من الخلف فنجد كل التفاصيل الدقيقة لعمل الفنان من قطع القطن إلى شريط لاصق يثبت به العناصر المختلفة في عمله. يبدو الجانبان مكمل بعضهما بعضاً، هنا نرى الظاهر والباطن، المادية والروحانية. في عمومه العمل ممتع جداً بكل تفاصيله ما ظهر منه وما لم يظهر. «ولادة مكان» لزهرة الغامدي لا يقل ضخامة أو اتساعاً عن عمل عورتاني، يعبر عن «رحلة الاضمحلال والعودة للحياة، وتحديداً جهود المملكة لإحياء الفنون المعمارية»، بحسب ما تصف الفنانة عملها في تغريدة على موقع «تويتر».
بالنسبة لتيناري الأحجام الضخمة للأعمال المعروضة جاءت مناسبة للمساحات الشاسعة المتوافرة، «قمنا بتنسيق المعروضات بدون معرفة ما ستكون عليه مساحة المستودعات الضخمة في حي جاكس (التي تم تحويلها لتصبح قاعات عرض البينالي)» ولكنه وجد أن المساحات الشاسعة «أظهرت للجمهور الأشكال المختلفة التي يمكن للفن أن يأخذها، فهو أكثر من مجرد لوحات مرسومة أو منحوتات، فالأعمال يمكن أن تكون (غامرة) أيضاً».

الجانب الروحي للعرض

«فيما يخص الروح» هو عنوان أحد أقسام العرض، هنا تتجلى الروحانية والتجليات، وبحسب دليل العرض، فذلك أمر طبيعي في «أمة عامرة بالأماكن المقدسة» حيث تتجلى العلاقة بين الفن والأسئلة المرتبطة بالوجود الإنساني بطرق جديدة وقوية؛ حيث يستلهم بعض الفنانين من الموروثات الدينية. في هذا القسم تعرض مجموعة من أجمل ما أبدع الفنانون السعوديون، مثل عمل الفنان سلطان بن فهد «شد الرحال» الذي يتمتع بجماليات بصرية عالية جداً، وبدفقة روحانية تنبع من الأماكن المقدسة المصورة هنا، ومن الضوء الغامر الذي يلف مساحة العرض بعد ممر خافت الضوء. هناك أيضاً عمل لا يمكن وصفه سوى بالبديع جداً للفنانة المتميزة دائماً لولوة الحمود، المعنون «لغة الوجود»، وهو أيضاً عرض ضوئي باللون الأزرق في الغالب يجسد الأشكال الهندسية من أعمال الحمود، ويحولها لكائن حي متغير عبر الصوت والضوء، أيضاً العمل هنا غامر وروحاني يغري الزائر بالجلوس أمامه لفترات طويلة. ولا بد هنا من ذكر عمل الفنان عمر عبد الجواد المعنون «تسع وتسعون» الذي يعبر عبر مسار واحد مصنوع من صفائح الأكريليك المضيئة على وحدة المصير، على الرغم من تنوع الخلفيات ووجهات النظر.
يقول تيناري إن الروحانية المستقرة في كيان الأشياء كانت من أولى الأشياء التي أحس بها خلال زياراته الأولى للمملكة: «كنت متأثراً بالجانب الكبير الذي تمثله الروحانية في حياة الناس هنا، وتتجلى بشكل طبيعي وعميق، كان جانباً لا بد من تناوله في العرض، عبر التأكيد على هذا العنصر وتوضيحه وجدت أن هذا القسم هو أفضل مكان لختام العرض، ربما يمكننا رؤية ذلك بشكل ما على أنه نقطة وصل أو جسر يصل بنا لبينالي الفن الإسلامي الذي سيقام في نهاية العام بمدينة جدة».

تأملات نهائية

ما هو إحساس تيناري بالتجربة بعد الوصول للنهاية؟ يقول: «أشعر أنه كان أمراً إيجابياً للغاية بالنسبة لي ولأناس كثيرين غيري، سواء أكانوا من الزوار أم من الفنانين المشاركين من الداخل والخارج، أن نكون جزءاً من نقطة حاسمة بشكل من الأشكال».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».