الخيار القاتل.. الموت غرقًا بقوارب الهجرة أو في حروب الربيع العربي

عدد ضحايا الهجرة السرية تضاعف 30 مرة خلال 2015 * ناجون من الموت تحدثوا لـ {الشرق الأوسط} : غامرنا بكل شيء من أجل «جنة أوروبا» وخسرنا

أحد قوارب الموت يقل مهاجرين غير شرعيين من دول شمال أفريقيا لحظات قبل انقاذهم من قبل خفر السواحل في لامبيدوسا (أ.ب)
أحد قوارب الموت يقل مهاجرين غير شرعيين من دول شمال أفريقيا لحظات قبل انقاذهم من قبل خفر السواحل في لامبيدوسا (أ.ب)
TT

الخيار القاتل.. الموت غرقًا بقوارب الهجرة أو في حروب الربيع العربي

أحد قوارب الموت يقل مهاجرين غير شرعيين من دول شمال أفريقيا لحظات قبل انقاذهم من قبل خفر السواحل في لامبيدوسا (أ.ب)
أحد قوارب الموت يقل مهاجرين غير شرعيين من دول شمال أفريقيا لحظات قبل انقاذهم من قبل خفر السواحل في لامبيدوسا (أ.ب)

رغم ترفيع العقوبات التي تسلطها المحاكم التونسية على كل من يقوم بتهريب مهاجرين غير قانونيين عبر البحر المتوسط إلى أكثر من عشرين عاما سجنا وغرامات مالية هائلة، لا يزال عدد من قادة مراكب التهريب تونسيون وليبيون بينهم محمد علي مالك قبطان السفينة التي تسبب غرقها الشهر الماضي في مقتل 800 مهاجر غالبيتهم من السوريين والليبيين والأفارقة، يواصلون أعمالهم المميتة.
القبطان التونسي الشاب، 27 عاما، أحيل مع مساعده السوري محمود بخيت، 25 عاما، على محكمة «كاتانيا» في إيطاليا، في وقت تجمع فيه وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي ثم نظمت قمة أوروبية طارئة عن الهجرة السرية في خطوات كشفت أن زعماء الدول الأوروبية لا يزالون يتعاملون مع هذا الملف تعاملا «أمنيا وقضائيا» رغم تضاعف عدد المغامرين بحياتهم في مياه المتوسط خلال الأشهر الأولى من العام الحالي 30 مرة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي الذي شهد بدوره «قفزة كبيرة» في عدد «الحارقين» لأسباب كثيرة من بينها الفرار من جحيم «حروب الربيع العربي» التي تسببت في تشريد نحو 12 مليون سوري و3 ملايين ليبيي أي نحو نصف شعب ليبيا.
فؤاد الزواري أحد الناجين ال28 من الموت أورد في تصريح بالهاتف قال لـ«الشرق الأوسط» أنه فقد في هذه «الكارثة البحرية العظمى» زوجته وابنه وعشرات من أصدقائه وأقربائه الليبيين والسوريين الذين شاركوه هذه «المغامرة النحسة» والتي تسببت في مقتل نحو 800 راكبا «كانوا واهمين» لأنهم صدقوا أن «الأموال الطائلة التي دفعوها - نحو 4 آلاف دولار عن كل فرد ـ ستضمن لهم السلامة في مركب كبير ومؤمن بخلاف الزوارق التقليدية التي كانت تغرق غالبا خاصة إذا كانت الرحلة في مرحلة اضطراب البحر وأمواجه في الشتاء والربيع».
فؤاد كان يبكي وهو يستحضر على الهاتف قصة اتفاقه مع زوجته وبعض أصدقائه الليبيين واللاجئين السوريين الذين قدموا من إسطنبول إلى ميناء «زوارة» الليبي خصيصا للفرار من «جحيم الحرب»: الحرب المدمرة في ليبيا والاقتتال والفتن الطائفية في سوريا.

تنسيق مع مهاجرين ناجين
الليبي فؤاد الزواري أورد أنه غامر بحياة شريكة عمره ذات الـ26 ربيعا وبابنه ذي 8 أعوام بعد «عملية تنسيق» مع بعض الناجين الليبيين والتونسيين في عمليات هجرة سابقة العام الماضي بينهم ابن عمه حمزة الذي حصل بعد مدة وجيزة من الإيقاف والتتبعات في إيطاليا «وثيقة سفر وقتية تسند إلى المرشحين للجوء الإنساني». انتقل بعدها سويسرا التي تمنح مع ألمانيا فرصا أفضل للإقامة في مراكز إيواء الفارين من الحروب والاضطهاد شمالي شرقي مدينة لوزان وتمكنهم من فرص تعلم اللغة الألمانية ومهنة مع منحة مالية رمزية لفترات تتراوح بين 6 أشهر وعام.
برمج فؤاد مع زوجته الغريقة وابنه أن يتبعا نفس الطريق في انتظار البحث عن «بديل» من خلال التنسيق مع أقارب وأصدقاء ليبيين آخرين انتقلوا إلى البلدان الاسكندنافية أو حصلوا على بطاقات ترسيم في جامعات بريطانية «حيث آلاف الطلاب ورجال الأعمال الليبيين وعائلاتهم منذ عقود».

استياء ونقمة في تونس
وفي ضواحي العاصمة التونسية الفقيرة مثل «دوار هيشر» و» حي التضامن «كان رد الفعل على غرق المركب وعلى متنه 800 راكبا مواكب عزاء و«صلاة الغائب».
في شارع خالد بن الوليد المجاور للسوق الشعبي التقت «الشرق الأوسط» الشابين نور الدين ومحمد علي حيث لخصا معضلة الشباب في حارتهما ذات الـ200 ألف ساكن، والتي فقدت مئات من شبابها في البحر أو في حروب سوريا وليبيا والعراق».
في شارع واحد خسرت العائلات 13 من أبنائها في حروب «الربيع العربي». إنه النفق المظلم ثلث شبابنا يموت في البحر غرقا وثلث يهاجر مع الجماعات المتطرفة للحرب وثلث ممزق بين المخدرات والحشيش في تونس.
زميلهما سليم الوسلاتي ترحم على أرواح «أولاد الجيران» الذين ماتوا غرقا في البحر وتذكر حوادث مؤلمة سابقة تبدأ بقصص «تبرعات» من أفراد العائلة للشباب الذي يحلم بالهجرة «إلى جنة أوروبا» وتنتهي غالبا بالغرق أو بالاعتقال في سجون إيطاليا ومالطا بدءا من مراكز الإيقاف في جزيرة «لمبادوزا» التي يفصلها عن السواحل التونسية 70 ميلا يمكن قطعها في أقل من ساعتين ليلا على زورق متوسط إذا لم تعترضه العواصف أو قوات خفر السواحل التونسية أو الأوروبية والأطلسية.

الرئيس التونسي يحتج
وفي تعقيب من الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي على هذه الحادثة وعلى استفحال ظاهرة الهجرة السرية بين السواحل التونسية والليبية وسواحل إيطاليا ومالطا احتج خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس الألماني في قصر قرطاج على «وجهة النظر التي تعتبر سلطات تونس وبلدان جنوب المتوسط مكلفة بدور الشرطي لحماية حدود أوروبا الجنوبية ومنع المهاجرين غير القانونيين من التسسل إلى بلدان الشمال».
ومضى قائد السبسي قائلا: «هذا ليس دورنا وليس مطلوبا منا ونحن لا نقبل مثل هذا وليس لدينا تجهيزات وموارد تمكننا من إنجاز ما عجزت عنه الدول الأوروبية» قبل أن يطالب كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي بإعادة فتح ملف الهجرة القانونية وغير القانونية والتفاوض مع تونس وبلدان جنوب المتوسط حول الطرق الأنجع للتعامل معه ضمن رؤية شاملة «لا تختزله في مشكل أمني بحت».

أين الـ25 مليار دولار؟
وخاطب الرئيس التونسي أوروبا بلهجة تحد قائلا: «نحن نستقبل منذ 2011 سنويا أكثر من مليون مهاجر ليبي وفتحنا بلدنا لمهاجرين من كل الجنسيات من بين الفارين من حرب ليبيا، وهو ما يكلف ميزانيتنا سنويا نحو 6 مليارات دولار رغم الصعوبات الكبيرة التي تمر بها البلاد، وأوروبا تقيم الدنيا وتقعدها بسبب آلاف المهاجرين الجدد وتتردد في معالجة الملف من منطلقات إنسانية واقتصادية ولا تقدم لنا إلا الوعود المعسولة بالمساعدة بينما لم نستلم أي فلس من الـ25 مليارا التي وعدتنا بها الدول الغنية السبعة منذ كنت رئيسا للحكومة في 2011».
كما سجل الرئيس التونسي في مؤتمره الصحافي المشترك مع الرئيس الألماني أن «الغالبية الساحقة من المهاجرين الذين يتسللون إلى إيطاليا ومالطا من تونس وليبيا ليسوا تونسيين. وأورد قائد السبسي أن من بين الـ22 ألفا الذي تسللوا إلى أوروبا بعد أسبوع من سقوط حكم بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011 قدر عدد التونسيين بـ80 فقط أي إن تونس وليبيا تعتبران أساسا بلد عبور».

عائلات المفقودين والمعتقلين
في الأثناء تتابع عشرات الجمعيات غير الحكومية التونسية دعم تحركات «عائلات المفقودين والمعتقلين» في حوادث غرق سابقة في البحر الأبيض المتوسط بناء على تقارير أمنية وأخرى صحافية أكدت «نجاة عشرات المهاجرين التونسيين في عمليات هجرة سرية سابقة ثم اعتقالهم في سجون إيطالية لأنهم رفضوا الإدلاء بهوياتهم حتى لا تقع إعادة ترحيلهم إلى مواطنهم».
وتجري منذ 3 أعوام مفاوضات مطولة بين الجانبين التونسي والإيطالي حول ملف هؤلاء المفقودين في محاولة لغلقه لكن الاختلافات كبيرة بين الطرفين لأن تونس ترفض استقبال مهاجرين ليس لديهم ما يثبت هويتهم التونسية في وقت يرفض فيه المعتقلون الكشف عن هوياتهم الحقيقية. وبلغت المفاوضات حد تسخير أجهزة تحليل «دي إن إيه» لكن المهاجرين المعتقلين رفضوا إجراءها حسب مصادر حقوقية تونسية.

عدد قياسي للضحايا
وقد أورد رضا الكزذغلي المدير العام لمركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية لـ«الشرق الأوسط» أن عام 2014 أكبر عدد من الضحايا بين المهاجرين غير الشرعيين، وأكبر عدد من النازحين واللاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب ما أعلنته المنظمة الدولية للهجرة، بمناسبة اليوم العالمي للمهاجرين الموافق الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) سنويا.
وأورد المدير العام للمنظمة العالمية للهجرة في مؤتمر نظمه مركز تونس لجامعة الدول العربية ويليان لايسي «إن عام 2014 سجل سقوط 4868 مهاجرا صرعى، إما غرقا في عرض البحر، أو جوعا وعطشا في الصحاري النائية أو الجبال، ما يجعل من هذا العام هو الأكثر دموية على الإطلاق بين من يحاولون البحث عن حياة أفضل، حيث تضاعف عدد الوفيات مقارنة بالعام الماضي».
وأورد لايسي أن «عدد الغرقى في البحر الأبيض المتوسط فاق أكثر من ثلاثة آلاف شخص جراء ركوب قوارب غير صالحة للاستخدام، فيما غرق نحو 540 مهاجرا في خليج البنغال، ووفاة ما لا يقل عن 307 خلال محاولتهم عبور الحدود البرية بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية».
وسجل مدير عام المنظمة العالمية للهجرة أن العام الحالي «شهد أعلى رقم مسجل للنازحين داخل دولهم، وهو 33.3 مليون، وللاجئين خارج دولهم، وهم 16.7 مليون نسمة، وهو أعلى رقم مسجل منذ الحرب العالمية الثانية».

اتفاقية برشلونة 1995
في الأثناء تطالب القيادة الإيطالية شركاءها في فضاء شينغن وبقية دول الاتحاد الأوروبي بـ«تحمل مسؤولياتهم» معها بعد أن قدر عدد المهاجرين غير القانونيين في عام 2014 وحده نحو 130 ألفا.. مقابل تقديرات تحوم حول 40 ألفا قبل «حروب الربيع العربي» و«تدمير» كثير من مؤسسات السلطات المركزية والدولة الوطنية في عدد من دول جنوب المتوسط بينها تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن..
لكن علماء الاجتماع والحقوقيين في جنوب المتوسط - مثل الأستاذ مهدي مبروك المختص في ملف الهجرة غير القانونية - يعتبرون أن سقوط مئات القتلى بصفة منتظمة غرقا في البحر الأبيض المتوسط «من بين مؤشرات فشل اتفاقية برشلونة الأورو متوسطية» المبرمة في 1995 والتي وقع تأكيدها في القمة الأورو متوسطية في برشلونة أيضا في 2005 ثم خلال سلسلة من الاتفاقيات المشتركة ثنائيا وإقليميا.
وكانت كل تلك الاتفاقيات أكدت على بناء «فضاء أورومتوسطي يضمن حرية تنقل المسافرين والسلع ورؤوس الأموال بين دول ضفتي المتوسط أي بين الـ28 بلدا أوروبيا و12 بلدا من جنوب المتوسط».

الموت في بلدانهم أو الغرق
في نفس السياق ينتقد عدد من خبراء السياسة الدولية والحقوقيين المغاربيين والعرب - مثل الجامعيين حسن الرحموني من المغرب ورشيد التلمساني من الجزائر - في اختزال «التعامل مع ملف الهجرة» في ردود فعل أمنيين وعسكريين بينهم ثلة من كبار المسؤولين في الحلف الأطلسي عن «الهجرة السرية»..
وينتقد خبراء ليبيون وسوريون عراقيون - مثل نعمان عثماني - «تجاهل العواصم الأوروبية والأطلسية لحجم المأساة التي يعيشها عشرات ملايين المواطنين العرب منذ تدهورت الأوضاع الأمنية في بلدانهم أي منذ حرب احتلال بغداد في 2003 ثم حروب «الربيع العربي».. فأصبح ملايين المواطنين العرب مخيرين بين الموت قتلا في بلدانهم أو الموت غرقا لا سميا بالنسبة للمواطنين السوريين والليبيين الذين تطل سواحلهم على البحر الأبيض المتوسط ويغامرون بالفرار نحو أوروبا «هربا ن القتل» وإن كان سيناريو الموت غرقا واردا جدا.

15 مليون لاجئ سوري وليبي
وإذ يحمل كثير من الساسة العرب - مثل الجامعيين الليبيين عبد الله زيدان وفؤاد عمر - سلطات باريس ولندن وروما وحلفاءهم الأطلسيين مسؤولية «حروب الربيع العربي» فإنهم يعتبرون أن من بين واجباتها الأخلاقية والسياسة العاجلة «إيجاد حلول جذرية للأسباب العميقة للهجرة السرية» وعلى رأسها غياب الأمن والاستقرار في بلدان كانت مستقرة قبل «التدخل الأطلسي» المباشر وغير المباشر على غرار ما جرى في ليبيا وسوريا والعراق واليمن.
ويستدل الباحث الليبي محمد الفيتوري بوجود نحو 3 ملايين لاجئ ليبي حاليا في كل من تونس ومصر والجزائر ونحو 12 مليون لاجئ سوري في دول كثيرة أغلبهم في تركيا والأردن ولبنان..

ملايين في قائمة الانتظار؟
ولئن سبق لبعض العواصم الأوروبية - خاصة في البلدان الاسكندنافية - أن استضافت خلال الأعوام الماضية آلاف المهاجرين الهاربين من الموت في العراق وسوريا وليبيا والصومال فإن تقديرات المنظمة العالمية للهجرة ترجح أن يكون ما لا يقل عن مليون سوري ومئات آلاف الليبيين والعراقيين واليمنيين والمصريين.. «في قائمة الانتظار» أي أنهم يسعون بكل جهد للرحيل من بلدانهم خوفا من القتل وحملات الانتقام الجماعية و«الثأر» على أسس قبلية وطائفية وعرقية ومذهبية..

تخوفات من أقصى اليمين
لكن اليسار الأوروبي والمنظمات الحقوقية في عدة لبلدان غربية - خاصة في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا - تعتبر أن «فتح الحدود أمام أمواج من المهاجرين الجدد «سيعني ببساطة مزيد خدمة» الأحزاب اليمينية المتطرفة و«والمنظمات العنصرية والمعادية للعروبة والإسلام».
إنه الدوران في حلقة مفرغة..

 



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».