موسكو أمام خيارَي الحرب المحدودة أو التنازلات المتبادلة

سيناريو «الغزو الشامل» مستبعد... والأزمة مرشحة لتكون طويلة الأمد

صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)
صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)
TT

موسكو أمام خيارَي الحرب المحدودة أو التنازلات المتبادلة

صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)
صحافيون يتابعون من غرفة مخصصة للإعلاميين وقائع اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني أولاف شولتز في الكرملين يوم الثلاثاء (د.ب.أ)

أيام كانت مثقلة بتوقعات ساخنة. قد تكون هذه الحصيلة الأساسية لأسبوع حَبَس العالم فيه أنفاسه، وهو يترقب اندلاع المعركة الحاسمة في أوكرانيا. إذ سيطرت حال التأجيج التي وجّهتها وسائل إعلام ومراكز قرار غربية على الموقف. وبات العالم يحسب الساعات والدقائق في انتظار «ساعة الصفر» بعدما حدد موعد الحرب، ورسم خرائطها. بل حدد ملامح نتائجها الأولى على الأقل.
اجتياح في 15 أو 16 فبراير (شباط) كان سيسفر عن سقوط العاصمة الأوكرانية كييف بأيدي الروس في غضون 48 ساعة، مع وقوع عشرات الألوف من الضحايا من الجانبين.
مشهد قاتم عزّزته الحشود العسكرية الروسية والغربية على طرفي الحدود. ولكن مرّ يوم 15 فبراير من دون أن يحدث شيء. ثم مرّ يوم 16 الذي حدّدته توقّعات موازية للحدث الكبير، ولم يحدث شيء أيضاً. وبدلاً من مشاهدة تقدم الحشود العسكرية واختراق الحدود، وتفجر نهر الدماء المتدفقة للضحايا، راقب العالم بحذر وريبة مشهد الدبابات الروسية وهي تغادر بهدوء «أرض المعركة» عائدة إلى أماكن تمركزها الدائمة بعد انتهاء التدريبات العسكرية التي أعلنت عنها موسكو في وقت سابق.
سخرت موسكو كثيراً من «خبراء» التحليل السياسي في الغرب والشرق، لدرجة أن الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا دعت وسائل الإعلام إلى وضع «أجندة جديدة» للغزو الروسي المحتمل «كي نتمكن من تحديد مواعيد إجازاتنا السنوية المقبلة». كذلك سخر الكرملين من ذلك على طريقته الخاصة، فقال الناطق باسمه ديمتري بيسكوف: «نمنا ليلة 16 فبراير بهدوء، وصحونا في اليوم التالي لممارسة أعمالنا الكثيرة، لم نغيّر جدول أعمالنا، وإذا كانت لديهم تواريخ أخرى تدفعنا للقلق فليبلغونا بها».
تخفي عبارات السخرية هذه نوعاً من الشماتة بقدرة الغرب، ووسائل الإعلام المتأثرة بدعاياته، على وضع تصوّرات مقنعة لمنطق تسلسل الأحداث المنتظر.
هنا يبرز السؤال الأول؛ هل أعدت موسكو فعلاً لغزو شامل للأراضي الأوكرانية؟
أظهر حجم الحشود العسكرية والمعدات والآليات التي دفعت بها موسكو إلى الحدود الغربية لروسيا، أن الكرملين تأهب فعلاً لمواجهة تطوّر حاسم، أو على الأقل، أراد توجيه رسالة حازمة بأن كل الخيارات مفتوحة أمامه. غير أن السيناريوهات التي وضعتها الإدارة الأميركية، ولقيت رواجاً واسعاً في عدد من العواصم الغربية، بدت أقرب إلى أن تكون خيالية وبعيدة عن التنفيذ على أرض الواقع.
لقد تناقل العالم «خرائط المعركة» المنتظرة، التي برز فيها توغل محتمل للقوات الروسية من أراضي بيلاروسيا شمالاً، وهي أقرب نقطة إلى العاصمة الأوكرانية كييف، يتزامن مع اختراق سريع لجبهة الشرق عبر أراضي إقليمي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين عن أوكرانيا، فضلاً عن توجيه ضربات مكثّفة ومركّزة من البحر إلى مواقع البُنى التحتية العسكرية الأوكرانية.

مغامرة عسكرية خطرة
هذا السيناريو يشكل «مغامرة عسكرية» عواقبها وخيمة، كما قال الجنرال السابق ليونيد إيفاشوف، الذي حذّر في رسالة مفتوحة وجّهها مع «جمعية ضباط عموم روسيا» التي تضم جنرالات سابقين مرموقين من السير على هذه الطريق. ولكن بصرف النظر عن تحذير الخبير العسكري البارز، ولعله أمر له أهمية خاصة لأنه يظهر المزاج العام لدى طبقة «الحرس القديم» من العسكريين الروس، فإن احتمالات تطبيق هذه الخطة تبدو ضعيفة للغاية، لأنه سيعني فتح الجبهة التي تدخل فيها روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا على مساحة واسعة للصراع، ما سيجبر بلدان أوروبية على التدخل المباشر. وهذا، فضلاً عن أن هذا يعني، بالمعنى العسكري، أن تواجه موسكو «حرب عصابات» على مساحات شاسعة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا يجوز مقارنة قدرات أوكرانيا بقدرات جورجيا – المتواضعة نسبياً – عندما تعرضت الأخيرة لغزو روسي سريع عام 2008.
باختصار، في حساب التكلفة بالنسبة لروسيا لن تكون الحرب في أوكرانيا سهلة وخاطفة. وإضافة إلى تكبد خسائر كبيرة نظراً لتطور الجيش الأوكراني خلال السنوات الأخيرة، وتزويده بترسانة نوعية من الأسلحة – وبخاصة، خلال الأشهر القليلة الماضية – فإن الخيار العسكري سيهدم آخر الجسور بين الشعبين الروسي والأوكراني. ثم إنه سيجبر روسيا على خوض «حرب استنزاف»، وخاصة، في مناطق غرب أوكرانيا المعروفة تاريخياً بنفورها من سيطرة الإمبراطورية الروسية، ولاحقاً الاتحاد السوفياتي. بل فوق كل هذا، ستدخل روسيا في مواجهة مع عقوبات سياسية واقتصادية غربية، يلوّح الغرب بأنها ستكون «كرة ثلج متدحرجة» ستدفع موسكو ثمناً باهظاً لها، كما ستدفع الحرب إلى تعزيز «ناتو» (حلف شمال الأطلسي) قواعده وقواته في شرق أوروبا.
ومن جانب آخر، على الصعيد الداخلي الروسي، ليس مضموناً للكرملين منع أي ردود شعبية رافضة للحرب، قد تأخذ خطاً متصاعداً إذا طال زمن العمليات الحربية وبدأت العقوبات الغربية تلقي بثقلها على الاقتصاد الروسي.

ماذا تريد واشنطن؟
لكن، لماذا روّجت واشنطن لهذا السيناريو رغم النفي الروسي المتكرّر له؟
يقول خبراء في موسكو إن الإدارة الأميركية «سعت إلى حشر الرئيس فلاديمير بوتين في زاوية». بمعنى أنه إذا أقدم بوتين على أي توغل فسيواجه ردّ فعل حازماً وقوياً، وسيكون - بالتالي - مضطراً لخوض مغامرة يصعب التكهن بنتائجها. أما في حال تراجع الرئيس الروسي، فسيظهر وكأنه قدّم تنازلات تحت الضغط الأميركي المتواصل، ما يؤسس لتحسين شروط واشنطن التفاوضية حول القضايا المختلفة الموضوعة على طاولة الأزمة.
فلاديمير بوتين لم يختر حتى الآن هذا الطريق، ويبدو أنه لن يغامر أصلاً باقتحامه. والسيناريو الثاني الذي تضعه بعض الأوساط الروسية بين الخيارات الأفضل للكرملين هو تنفيذ عملية عسكرية صغيرة ومحدودة في جنوب شرقي أوكرانيا، لكن هذا مرتبط بوصول كل المفاوضات الجارية مع الغرب إلى طريق مسدودة.
بدا من الزيارات النشطة التي قام بها مسؤولون غربيون إلى موسكو خلال الأسبوع الأخير، أن مسار الحوار لم يُغلَق بعد، على الرغم من فشل الأطراف في تقريب وجهات النظر في أي من الملفات المطروحة. إذ لم ينجح المستشار الألماني أولاف شولتس، ومن قبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الحصول على تعهد واضح من بوتين بأنه لن يقوم بعمل عسكري في أوكرانيا. وهذا وضع مفهوم للغاية، إذ إنه بمجرد تقديم بوتين هذا التعهد المُلزِم ستكون الأزمة الساخنة وصلت إلى نهايتها، وهذا أمر لا يرضي الكرملين طالما لم يحصل مقابله على الضمانات التي يريدها حول الأمن الاستراتيجي في أوروبا، ومسألة تمدد «ناتو» شرقاً.
لذا عمد بوتين إلى مواصلة البناء على سياسة الغموض المقلق. وكما كان متوقعاً، لم يعلن الطرفان الروسي والألماني عن تحقيق نتائج ملموسة في ختام جولة المباحثات التي أجراها بوتين وشولتس. لكن الطرفين تعمدا توجيه رسائل إيجابية لجهة الاستعداد لمواصلة الحوار حول الملفات الخلافية، مع أن بوتين تعمد إبقاء الأبواب مفتوحة أمام كل الاحتمالات، في حال وصلت المفاوضات مع الغرب إلى طريق مسدودة. وكان لافتاً أن الرئيس الروسي قال رداً على سؤال الصحافيين الغربيين حول آفاق التحركات الروسية إن بلاده «ستتصرف وفقاً للخطة الموضوعة». وأردف: «بالنسبة إلى الطريقة التي ستتصرف بها روسيا، فهي ستعمل وفقاً للخطة، ممّ تتألف الخطة؟... من الوضع الحقيقي على الأرض. مَن يستطيع أن يجيب كيف سيتطور الوضع على الأرض؟ لا أحد حتى الآن. الأمر لا يعتمد علينا نحن فقط».

النقطة الحاسمة
هكذا وضع الرئيس الروسي الإصبع مباشرة على النقطة الحاسمة؛ طالما لم نحصل على طلباتنا فكل السيناريوهات على الطاولة، ولسنا اللاعب الوحيد المطلوب منه تقديم تنازلات. وزاد بوتين: «نحن مستعدون لعمل مشترك، وأيضاً لمتابعة مسار المفاوضات. ولكن يجب النظر في جميع القضايا، كرُزمة متكاملة من دون فصلها عن المقترحات الروسية الرئيسة، التي يعد تنفيذها أمراً ضرورياً. إنه أولوية مطلقة بالنسبة إلينا». ثم أوضح قائلاً إن بين هذه المواضيع الإحجام عن توسّع «ناتو»، وإزاحة البنية التحتية العسكرية للكتلة الأطلسية إلى مواقعها عام 1997، والامتناع عن نشر أنظمة الضربات القتالية قرب الحدود الروسية.
عموماً، يطرح فشل الجهود الدبلوماسية الكثيفة خلال الأسبوعين الأخيرين أسئلة متزايدة فيما إذا وصلت الأزمة الأوكرانية إلى «نقطة اللاعودة» بانتظار الغزو الوشيك. ورغم الاختلاف الواسع في الآراء والتقديرات، يبدو أن الجميع متفقون على أن نتيجة الصراع المحتدم ستنبثق عنها قواعد جديدة للعلاقة بين روسيا والغرب. وهذه القواعد سترسم إلى حدّ كبير مسار العلاقات الروسية - الأوكرانية مستقبلاً، مع تأثير ما سبق على ميزان القوى العالمي ومخاض ولادة خرائط جيوسياسية جديدة.
وفي ظل شكوك الغرب إزاء النيات الروسية، بدا أن موسكو سجلت نقطة في صالحها، بإثارة الغموض حول حقيقة موقفها، والهدف النهائي من حشودها العسكرية على الحدود مع أوكرانيا، والسيناريوهات التي قد تُقدم على تنفيذها. أيضاً بدت موسكو حريصة على تجنب وضع أي سقوف زمنية مقيدة لها، أو التلويح مباشرة باستخدام القوة، بل على العكس من ذلك اتهمت موسكو الولايات المتحدة ودول «ناتو» بمحاولة صبّ الزيت على نار الأزمة بين روسيا وأوكرانيا. ولطالما نفى المسؤولون الروس وجود نية لغزو أوكرانيا، كما لم يتردد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في محاولة تصوير روسيا على أنها هي مَن تتعرض للتهديد، وعبّر عن ذلك في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيرته البريطانية ليز تراس في الأسبوع الماضي بالقول: «نحن لا نرغب في تهديد أحد. انظروا إلى التصريحات. ليس فيها أي تهديد على الإطلاق، إنما هم يهددوننا».
من ناحية ثانية، إذا كان من شأن تكتيك الغموض الذي تتبعه موسكو فتح الباب واسعاً أمامها للمناورة، فإن الموقف الذي وضعت فيه نفسها، بتلويحها باستخدام القوة عبر الحشود العسكرية، يضعها في موقف المغامرة. إذ إن تراجعها خطوة إلى الوراء من دون تحقيق مكاسب وازنة سيرتد عليها خسائر جيوسياسية. والأمر ذاته ينطبق على واشنطن و«ناتو» والاتحاد الأوروبي، بما يتعدى نطاق وحيثيات الأزمة الأوكرانية والتداعيات المباشرة التي قد تنتج عنها.
وفي حال حسمت موسكو قرارها - سواء بالغزو أو بالتراجع عنه - فالورقة الأوكرانية بالنسبة لموسكو وواشنطن و«ناتو» والاتحاد الأوروبي، على حد سواء، تعدّ ورقة مهمة في إطار صراع جيوسياسي، تريد روسيا من خلاله تثبيت موقعها كدولة كبرى في عالم متعدد الأقطاب. وبالتالي، فرض منظومة أمنية جديدة في أوروبا، تكون طرفاً مقرراً، وتأخذ بعين الاعتبار مصالحها التي تطالب بها، وألا تستند أي مباحثات حول أمن القارة الأوروبية على ورقة أوروبية جماعية.
من الواضح الآن أن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يقبلوا بالشروط التي وضعتها موسكو كسلّة واحدة، لكن يبقى الباب موارباً أمام مخرج غير مهين لروسيا، بإبداء مرونة إزاء مطلب موسكو بتحاشي ضم أوكرانيا لعضوية «ناتو»، وتجنب الإعلان عن خطط من قبل الحلف للتوسع شرقاً، إنما دون التزامات قاطعة على المدى البعيد. ويمكن تمرير ذلك عبر تجميد البتّ بقبول عضوية أوكرانيا، أو دول أخرى كانت في عداد الاتحاد السوفياتي، لفترة زمنية طويلة، أو أن تتبنى أوكرانيا خيار الحياد مع ضمانات أمنية واضحة بالدفاع عنها في حال حصل اعتداء روسي.
وكأسهل طريقة لخفض التصعيد، تطالب موسكو كلاً من واشنطن والاتحاد الأوروبي بممارسة ضغوط أكبر على كييف لتنفيذ «اتفاقيات مينسك» لحل الصراع مع انفصاليّي شرق أوكرانيا. ولكن التصريحات الأوكرانية الأخيرة عن أن الاتفاقيات وقّعت تحت ضغط التهديد العسكري الروسي تعني أنه سيصعب إقناع أي حكومة أوكرانية بتنفيذ هذه الاتفاقيات وفقاً لتسلسلها وملحقاتها التوضيحية.
وهكذا، بين تحفظات كييف على بعض بنود الاتفاقية والتحذير من أن فرضها بحذافيرها سيؤدي إلى انهيار أوكرانيا كدولة، وبين تمسك موسكو بتنفيذها بلا تعديل أو تسويف، يتوقف الأمر كثيراً على إمكانية شق «طريق ثالث» يخفف من مخاوف كييف، فيبقي «الوضع الخاص» للمنطقتين الانفصاليين لوغانسك ودونيتسك... ولكن تحت سقف «وحدة تراب أوكرانيا». وطبعاً هذا الأمر يتطلب وقتاً، ولعله لن يتحقق، بينما تقرع طبول الحرب.

                                      راجمة صواريخ خلال مناورات روسية - بيلاروسية يوم الخميس (أ.ف.ب / وزارة الدفاع الروسية)

السيناريوهات المحتملة لتطور الأزمة
>مع انتشار القوات الروسية قرب الحدود الأوكرانية من الجنوب والشرق وشبه جزيرة القرم، ومن الشمال في بيلاروسيا، والانتشار البحري في بحر أزوف، فإن روسيا قادرة - في حال وجود إرادة سياسية – على شن الحرب. وبينما يبدو السحب الجزئي للقوات من بعض المناطق «بادرة حسن نية» تجاه الغرب، فإنه لا يغير عملياً من الواقع الميداني وقدرة موسكو على تنفيذ هجوم فعال.
ومع استبعاد السيناريو الأول المتمثل في الغزو الشامل، للأسباب التي ذكرت سابقاً، ومنها أن موسكو لن تكون قادرة على تحمل تكاليفه طويلة الأمد. هناك السيناريو الثاني. وهو يتمثل في إطلاق عمليات عسكرية واسعة انطلاقاً من المحافظات الجنوبية الروسية المحاذية لشرق أوكرانيا، وكذلك من شبه جزيرة القرم، وعمليات بحرية من بحر آزوف والسيطرة على جميع المناطق الجنوبية الشرقية، ووصل القرم مع حوض الدونباس وتحويل بحر آزوف إلى بحر روسي مغلق بالكامل. بذا تمنع روسيا عملياً مرور السفن البحرية التابعة لـ«ناتو» عبر مضيق كيرتش، كما تسيطر على أهم ميناء لتصدير المواد الخام والمواد الزراعية، وتسيطر على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية. هذا الاحتمال أقل كلفة نظراً لوجود أقلية روسية وازنة في هذه المنطقة المرتبطة تاريخياً واجتماعياً بروسيا، ولن يواجه الجيش الروسي مواجهة قوية من السكان المحليين.
السيناريو الثالث ينحصر في احتمال اكتفاء روسيا بشن حرب محدودة على إقليم الدونباس. ومع أن هذا الاحتمال يبقى أكبر من احتمال الاجتياح الشامل، فإنه يحمل بدوره محاذير خطرة قد تقود إلى حرب واسعة ومدمرة، تنجم عنها خسائر بشرية كبيرة بين المدنيين والقوات المسلحة الأوكرانية والروسية. ثم إنه لن يحول دون العقوبات السياسية والاقتصادية الغربية.
وأما السيناريو الرابع فيقوم على دفع المقاتلين الانفصاليين في منطقتي لوغانسك ودونيتسك لشن حرب بالوكالة ضد الجيش الأوكراني، بدعم لوجستي من روسيا، مترافقاً مع شن حرب «سيبرانية» ضد البنية التحتية الحيوية، والهيئات والمؤسسات الحكومية، والقطاعات المصرفية والتجارية والخاصة. وهنا، رغم أن هذا السيناريو سيكون أقل تكلفة لموسكو، ويمكِّنها من أن تدفع عن نفسها تهمة التدخل المباشر، باعتبار أن ما يجري «صراع داخلي» أوكراني، فإن ميزان القوى الراهن يميل لمصلحة الجيش الأوكراني بمواجهة الانفصاليين. كذلك، قد تجد روسيا نفسها متورطة مجدداً في حرب مباشرة مع أوكرانيا.
مقابل السيناريوات العسكرية المطروحة، ثمة فرصة لتجنّب الحرب عبر سيناريو خامس يتضمن تراجع روسيا عن التلويح باستخدام الخيار العسكري، وتبريد الأزمة تدريجياً والبدء بسحب قواتها المحتشدة على الحدود مع أوكرانيا. ويمكن لموسكو الإقدام على هذه الخطوة بالإعلان عن انتهاء المناورات، علماً بأن المسؤولين الروس دأبوا في تصريحاتهم على نفي وجود أي نية لدى روسيا بشن حرب على أوكرانيا. هذا السيناريو سيكون مرجّحاً في حال مالت تقديرات الكرملين إلى أن الكلفة ستكون باهظة جداً، وأيضاً من خلال توفير الغرب مخرجاً مشرفاً للرئيس بوتين... أي بتقديم تنازلات قد لا تكون مرضية تماماً لموسكو، لكنها تعد كافية لفتح حوار جدي حول المطالب الأمنية المطروحة. هنا يستطيع الكرملين اعتباره إنجازاً مهماً قد يطوي مؤقتاً هذه الصفحة من المواجهة المفتوحة بين روسيا والغرب، مع أنه لا يضع آليات مباشرة لتطويق الأزمة نهائياً، بل يحوّلها إلى أزمة طويلة الأمد تستنزف طاقات الطرفين لسنوات مقبلة.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.