إسحق هرتسوغ... رجل «التسويات» الذي صار رئيساً لإسرائيل

سليل أسرة سياسية وعسكرية وكهنوتية لامعة

إسحق هرتسوغ... رجل «التسويات» الذي صار رئيساً لإسرائيل
TT

إسحق هرتسوغ... رجل «التسويات» الذي صار رئيساً لإسرائيل

إسحق هرتسوغ... رجل «التسويات» الذي صار رئيساً لإسرائيل

أحد الأسباب الأساسية التي قررت فيها الحكومة الإسرائيلية تسليم «الملف التركي» إلى رئيس الدولة إسحق (يتسحاك) هرتسوغ، يعود إلى استعداده الدائم للتضحية بشخصه لصالح العموم. فرئيس الوزراء نفتالي بنيت يخشى من أن يتلقى صفعة ما في أنقرة. وكذلك وزير الخارجية يائير لبيد. والحكومة بثت تصريحات وتسريبات للإعلام، قالت فيها، إنها «معنية بالتجاوب الإيجابي مع دعوة الرئيس رجب طيب إردوغان لفتح صفحة جديدة في العلاقات، غير أنها تريد أن يتحقق ذلك بمسار بطيء وحذر». وفسّر بعض الناطقين بلسان الحكومة هذا الرأي بأن «إسرائيل، منذ دخولها في أزمة مع تركيا عام 2009، تقيم علاقات وثيقة مع خصمي تركيا، اليونان وقبرص، وطورت علاقاتها لدرجة التحالف الاستراتيجي ولا تريد أن تظهر كمن أجرى انعطافاً في سياسته». لكن آخرين أضافوا تفسيراً آخر أكدوا فيه، أن «ثمة تجربة قاسية مع تركيا في الماضي، حيث إنه بعد كل انفراج في العلاقات بين البلدين كانت تركيا تفاجئ وترسل موجة عاصفة من الهجوم. وهي لا تريد تكرار ذلك».
هنا، دخل هرتسوغ على الخط بقوة. فمع أن منصبه كرئيس دولة، منصب فخري بالأساس، ولا يتمتع بأي صلاحيات سياسية، وافق على أن يتحول إلى عنوان رئيسي لتركيا. وكمحام شاطر، قال، إنه الشخص المناسب لهذه المهمة. فهو رئيس دولة وسيجتمع مع إردوغان نداً لند، حسب البروتوكول، وليس كما يحصل عندما يلتقيه رئيس الحكومة أو وزير الخارجية. وإذا مُني بفشل في أنقرة، فلن تكون تلك مشكلة كبيرة. فهو معتاد على تلقي الصفعات. ولن يتسبب في أزمة. وبالتأكيد هو قادر على تسوية الأزمات.
عُرف عن رئيس الدولة الإسرائيلي إسحق (يتسحاك) هرتسوغ كل عمره بمرونته وتوافقيته العملية. ويصفه عارفوه بأنه شخص قادر على إقامة علاقات مع الجميع، الحلفاء والخصوم، الأقرب والأبعد. ولذا؛ يلقّب في إسرائيل بـ«رجل الكومبرومايز» (التسويات التوافقية).
هرتسوغ لا يمتلك صفات قيادية، بيد أنه تمكّن رغم ذلك من الفوز برئاسة حزب العمل، والتفوق على منافسيه؛ لأنه كان الحل الوسط وسط صراع بين الزعماء القياديين. كذلك استطاع بفضل مرونتها «توافقيته» أن يصبح رئيساً للوكالة اليهودية، التي تهتم بتوحيد صفوف اليهود في العالم أجمع. وحتى في انتخابات رئاسة الدولة (رئاسة الجمهورية)، فاز بأكثرية 87 عضو كنيست مقابل 26 لمنافسته مريم بيريتس؛ ما يعني أنه حصل في التصويت السرّي على أصوات اليمين واليسار والنواب العرب أيضاً.
سياسة إرضاء الجميع
وبالفعل، لم يتأخر هرتسوغ في إرضاء الجميع حال تثبيت أقدامه في الكرسي الرئاسي. فبعد أربعة أشهر من انتخابه، سافر إلى مدينة كفر قاسم العربية، ووقف أمام أضرحة الشهداء واعتذر باسم إسرائيل دولة وشعباً عن المجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية يوم 29 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1956 وراح ضحيتها 49 فلسطينياً، وطلب العفو من أهالي ضحايا. وقال هرتسوغ باللغة العربية «أحني رأسي أمام الضحايا الـ49، وأمام أبناء عائلاتهم وأمام جميع أهل كفر قاسم، وأطلب العفو باسمي وباسم دولة إسرائيل». وأضاف «أمدّ لكم من أعماق فؤادي يداً مسانِدة ومعاوِنة، متوسلاً لله تعالى أن يكون معكم لتجدوا المواساة لألمكم».
وبعد شهر تماماً، في 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، قام هرتسوغ بزيارة إلى واحدة من أخطر البؤر الاستيطانية في المناطق الفلسطينية المحتلة، يحيط به قادة المستعمرات، واختار إيقاد الشمعة الأولى لـ«عيد الأنوار» (الحانوكاه) فيما يعتبره اليهود «مغارة المكفيلة»، وهي الحرم الإبراهيمي في الخليل. وقال هناك «لا يمكن تجاهل الصلة بين الشعب اليهودي ومدينة الخليل ومغارة المكفيلة وتراث الأجداد، مع الأخذ بعين الاعتبار الوضع المعقد فيها». ثم تابع «هذه الصلة يجب أن تكون فوق أي خلاف بين اليهود. ويجب علينا أن نواصل السعي لتحقيق حلم السلام بين كل الأديان والعقائد في هذه البلاد، وأن ننبذ كافة أنواع العنف والكراهية، متمنياً أن نضيئ البيوت بضوء كبير ونطرد الظلام».
الزيارة إلى كفر قاسم، لقيت ترحيباً كبيراً من اليسار والعرب لدرجة التأثر وإسالة الدموع، وأغضبت اليمين. أما الزيارة إلى المستوطنين في الخليل، فلقيت ترحيباً شديداً وتأثراً كبيراً لحد الدموع بين قادة اليمين والاستيطان، وأشاد به حتى النائب المتطرف بتصلئيل سموتريتش، فشكره «على هذه الخطوة الجريئة». وفي المقابل، استنكر أقطاب اليسار والنواب العرب والقادة الفلسطينيون، خطوته هذه بشدة، وقال النائب أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة للأحزاب العربية - الذي صوّت هو ونوابه مع انتخاب هرتسوغ رئيساً - إن «الرئيس هرتسوغ لم يذهب إلى الخليل لإيقاد الشمعة الأولى بل لإشعال النار في المدينة».
وأما الرئيس، نفسه، فقد عاد من الزيارتين إلى مقر رؤساء إسرائيل مرتاح البال. إذ قام بخطوتين تلائمان شخصيته المركبة، وفي داخله يقول: «إذا كان الأقطاب في اليمين يهاجمونني والأقطاب في اليسار يهاجمونني، إذن أنا أسير في الطريق المستقيمة». ولم ينزعج في الحالتين من الانتقادات الشديدة التي سمعها. بل تعامل معها بمنتهى الهدوء والسكون.
الرئيس «بوغي»
هكذا هو إسحق هرتسوغ. ولعلنا سنشهد الكثير من هذه المواقف له. ومَن يعرف تاريخه والبيئة التي قدم منها، يقول، إن هذه الطريقة هي أكثر ما يميز تطوره في سلالة عائلته المعروفة بشخصياتها القيادية في الحركة الصهيونية ومؤسسات الحكم في إسرائيل.
والدته أورا هرتسوغ، التي توفيت قبل أسابيع، كانت قد أطلقت عليه لقب «بوغي». ولقد رافقه هذا اللقب منذ الطفولة وحتى اليوم. وعندما كان قائداً لليسار، صار اللقب لعنة عليه؛ إذ استخدمه خصومه في اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو، للسخرية منه وللتقليل من شأنه والإيحاء للمجتمع الإسرائيلي بأنه شخص مدلّل لا يقوى على تحمل المسؤوليات الجسام المترتبة على توليه منصب رئيس الحكومة «ولا يستطيع مواجهة إيران». وقصة اللقب، كما شرحت والدته، جاء من «بوبا»، اللعبة الدمية. وقالت «كان جميل المحيا وذا وجه بريء. وكان والده يطلق عليه اسم (غوغو). ومع الزمن دمجنا الكلتين فصارتا (بوغي)».
ولد إسحق هرتسوغ عام 1960 في تل أبيب واحداً من «أمراء» السياسة الإسرائيلية، فهو من سلالة شخصيات قيادية. والده الجنرال السابق حايم هرتسوغ، المولود في بلفاست عاصمة آيرلندا الشمالية والبولندي الأصل، كان الرئيس السادس لإسرائيل، وأمضى في منصب الرئاسة عشر سنوات (1983 – 1993). وهو نفسه كان ضابطاً في الجيش البريطاني، ثم في التنظيمات الصهيونية المسلحة، ثم في الجيش الإسرائيلي، حيث تولى رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية وبعدها قائداً للواء الجنوبي. وعندما خلع هرتسوغ الأب البزة العسكرية عمل محامياً، ثم اختير سفيراً لإسرائيل في الأمم المتحدة. وفي أواسط سنوات السبعين، يوم اتُخذ قراراً بأن الصهيونية حركة عنصرية، اشتهر كمن مزّق الورقة التي تحمل نص القرار من على منصة الأمم المتحدة. ولاحقاً بات حاييم هرتسوغ، نائباً عن حزب «العمل»، وكان من جناح الصقور في الحزب.
أما الأم، أورا فهي من مواليد مدينة الإسماعيلية، لكنها لم تكن مصرية، بل سافرت عائلتها إلى مصر آتية من يافا، لغرض العمل. وبعد ولادتها انتقلت العائلة إلى القاهرة. وهناك تلقت علومها. ثم تابعت دراستها في جنوب أفريقيا، لاحقاً. وبعد ذلك التحقت بقوات الهاغاناه في فلسطين. وأصيبت في عملية تفجيرية قاسية ببناية الوكالة اليهودية في القدس عام 1948.
أطلق الوالدان على مولودهما اسم إسحق، تيمناً بجده الذي كان رجل دين كبيراً، وتولّى منصب الحاخام الأكبر لليهود الأشكناز في فلسطين. وترعرع إسحق هرتسوغ في تل أبيب، ثم عاش وتلقى دراسته في الولايات المتحدة (جامعة كورنيل وجامعة نيويورك)، حيث كان والده سفيراً في الأمم المتحدة بنيويورك. وعندما عاد إلى إسرائيل خدم في الحيش ضمن وحدة في الاستخبارات العسكرية «الوحدة 8200»، وحصل على رتبة رائد. ثم درس القانون في جامعة تل أبيب وأصبح شريكاً في واحد من أكبر مكاتب المحاماة في إسرائيل.
مسيرته السياسية
عام 1999 دخل هرتسوغ المعترك السياسي عندما عيّنه إيهود باراك سكرتيراً لحكومته. وبسبب قربه من باراك كاد يتورط في تهمة فساد تقضي على مستقبله السياسي. إذ أُجري تحقيق معه في صرف أموال طائلة على جمعيات وهمية لغرض كسب تمويل إضافي لحملة باراك الانتخابية، لكنه نجا من التهمة، بعدما حافظ على حقه بالصمت في التحقيق. ولما لم تنجح الشرطة في إثبات التهمة عليه صدر قرار تبرئة لصالحه عام 2003، فانخرط في العمل الحزبي من جديد ضمن حزب العمل. وانتخب نائباً في الكنيست (البرلمان) في تلك السنة.
وفي العام 2005، حصل على المركز الثاني في تصويت أعضاء حزب العمل على وزراء الحزب، الذين شكّلوا حكومة بالتحالف مع الليكود والحزب الديني «أغودات يسرائيل»، وجرى تعيينه وزيراً للبناء والإسكان، بناءً على طلبه، لكنه بعد 10 أشهر استقال وخرج مع أعضاء حزبه من الائتلاف الحكومي.
وفي 2006، كّلّف إيهود أولمرت بتشكيل الحكومة، وعيّن هرتسوغ وزيراً للسياحة. وبعد مرور 10 أشهر، ودخول حزب «إسرائيل بيتنا» إلى الحكومة، تقرر نقل وزارة السياحة إليه. واستقال هرتسوغ من منصبه، وعُيّن وزيراً للرفاة والخدمات الاجتماعية عام 2007.
بعدها، في الانتخابات التمهيدية لحزب العمل عام 2008، حصل هرتسوغ على المركز الأول في قائمة حزب العمل، وأصبح في المركز الثاني بقائمة الحزب التي سيخوض بها انتخابات الكنيست الـ18 خلف زعيم الحزب، آنذاك، إيهود باراك. وبعد فوز نتنياهو بتشكيل الحكومة في تلك الانتخابات، عُيّن هرتسوغ وزيراً للشؤون الاجتماعية والرفاه. وبعدها أصبح رئيساً للمعارضة، في مواجهة حكومة نتنياهو. ودخل في صدام مع نتنياهو متهماً إياه بعرقلة مسيرة السلام مع الفلسطينيين وبتخريب العلاقات مع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
يومذاك، كشف نتنياهو أن هرتسوغ كان يفاوضه على دخول الائتلاف الحاكم وتسليمه الملف الفلسطيني، غير تلك الجهود فشلت نتيجة للمعارضة داخل حزبه، فتراجع. وبعد ذلك لم ينجح في الوصول إلى الحكم، بل خسر في المعركة التالية، عام 2015، أمام نتنياهو بفارق 6 مقاعد. ثم خسر الانتخابات الداخلية في حزبه أيضاً، وانتخب رئيس آخر للحزب هو آفي غباي، فقدم استقالته من الكنيست واعتزل العمل الحزبي. وعام 2018 انتُخب لمنصب رئيس الوكالة اليهودية، التي تعمل بتنسيق مع الحكومة على تشجيع الهجرة إلى إسرائيل. ثم في يونيو (حزيران) الماضي انتُخب رئيساً للدولة.
مع أن منصب الرئيس في إسرائيل يُعد منصباً فخرياً، وتقتصر صلاحياته على تكليف أحد القادة بتشكيل الحكومة، ويملك أيضاً حق إصدار العفو عن المساجين والأسرى، فإن الرؤساء الأقوياء يحاولون إعطاء مضمون سياسي قيادي للمنصب ويتركون بصمات مميزة لكل منهم. ولقد صرح هرتسوغ بأنه يريد أن يهتم بالشؤون الداخلية، باعتبار أن الشروخ داخل المجتمع الإسرائيلي والصراعات الحادة بين الأفرقاء، العرب واليهود، العلمانيون والمتدينون، اليمين واليسار، هي أكثر ما يقلق الإسرائيليين. يقلقهم أكثر من إيران وأكثر من الصراع مع الفلسطينيين.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.