السويداء... حراك «الجياع» يحاصر إجراءات النظام السوري

وسط دعم المشايخ... وتمدد الاحتجاجات إلى القرى

السويداء... حراك «الجياع» يحاصر إجراءات النظام السوري
TT

السويداء... حراك «الجياع» يحاصر إجراءات النظام السوري

السويداء... حراك «الجياع» يحاصر إجراءات النظام السوري

ثلاثة مؤشرات حملتها مظاهرات السويداء في جنوب سوريا ضد النظام السوري، تمايزه عن الحراك السياسي الذي اندلع في المحافظة التي تقطنها غالبية درزية، إثر اندلاع الأزمة السورية. المؤشر الأول أن الاحتجاجات مطلبية بحتة، خرجت ضد سياسة النظام بتقليص دعمه للمحروقات والخبز، وطالت إجراءاته مئات آلاف السكان. والثاني أن الاحتجاجات لم تقتصر على مدينة السويداء، بل اندلعت للمرة الأولى بشكل واسع في القرى والبلدات بريفها. والثالث أن العامل الروسي دخل على الخط بشكل مباشر للتهدئة حيناً، وحيناً آخر لفتح قنوات تفاوض مع النظام، وإبقاء الحراك تحت سقف منضبط لا عنفي.
هذا التمايز بين حقبتين يعطي التحركات الأخيرة دينامية جديدة، تجعلها أشبه بـ«حراك الجياع»، ما يسهّل الاستنتاج بأن الأسباب الكامنة وراء احتجاجات السويداء يصعب احتواؤها من دون حلول. وهي حلول لن تقتصر على السويداء، بعد تجربة درعا القريبة وازدياد مستوى التململ في دمشق، ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة النظام. ولا يمكن مواجهتها بحل أمني أو سياسي، أو حتى بإشراك مفاتيح محلية، مثل مشايخ العقل أو شخصيات اجتماعية نافذة، من دون حل اقتصادي يرفع عن المواطن السوري معاناة معيشية تتفاقم يومياً في ظل تدهور سعر صرف العمل، وتزايد معدلات البطالة، ورفع النظام الدعم تدريجياً.
خلال أسبوعين، خرجت الاحتجاجات في محافظة السويداء في جنوب سوريا عن السيطرة. ولم تتمكن السلطات من احتواء الاحتجاجات المتصاعدة، بينما نأت القوى المحلية والدينية الموجودة فيها بنفسها عن التدخل لتطويقها، وذلك بسبب توافر عاملين: أولهما أن النظام السوري عاجز عن تلبية المطالب الشعبية المتنامية. وثانيهما عجز القوى المحلية الفاعلة عن ضمانة النظام، أو تقديم بدائل، وخلافاً لكل التحركات السابقة التي حملت صبغات سياسية أو مطالب أمنية، كان تدخل الفعاليات المحلية مع النظام حازماً لجهة تلبيتها.
الاحتجاجات تفجَّرت إثر إعلان حكومة دمشق عن استبعاد عائلات سورية من الدعم الحكومي، وتشمل عشرات الآلاف من العائلات خلال المرحلة الأولى من تنفيذ الآلية الجديدة. وجاء ذلك خلال إجراء تعديلات جذرية بكتلة الدعم المالي المخصصة بنحو 5530 مليار ليرة سورية في موازنة 2022، التي تشكل نحو 40 في المائة من حجم الموازنة المرهقة أصلاً.
وتشهد المرحلة الأولى من آلية رفع الدعم، استبعاد نحو 600 ألف بطاقة أسرية من الدعم. واعتبرت أن «أصحاب الثروات» ومالكي العقارات وذوي الدخل المتوسط - بينهم مَن يعملون في الخارج ويرسلون حوالات إلى عائلاتهم - سيكونون أبرز المستبعدين من الدعم. كذلك شمل الاستبعاد 430 ألف عائلة تمتلك سيارات خاصة.
عملياً، ضمت قائمة المستبعدين من الدعم، أصحاب المهن الحرة، كتجار الدرجة الأولى والممتازة والثانية، والمساهمين الكبار، ومتوسطي وكبار المكلفين الضريبيين، والمحامين الممارسين للمهنة لأكثر من عشر سنوات، والأطباء والمختصين الممارسين للمهنة لأكثر من عشر سنوات، ومديري المصارف الخاصة، والمساهمين بالأنشطة الكبيرة، والمساهمين الكبار بالمصارف. ويفرض استبعاد الدعم عن المحروقات والغاز والخبز وغيره، على كل عائلة سورية، أن تتكلف أكثر من 200 ألف ليرة سورية شهرياً كمصاريف إضافية.
أمام موجة الاعتراض المتنامية، أعلنت حكومة دمشق عدة إجراءات لمعالجة الثغرات في آلية «إعادة هيكلة الدعم». وتعهدت بالاستمرار بتقديم الدعم لكل من تقدم باعتراض إلى أن يتم البت به، ويشمل ذلك كل موظف دائم أو مؤقت أو متقاعد مدني أو عسكري معين على سلم الرواتب والأجور وجرى استبعاده بسبب امتلاكه سيارة واحدة فقط. وقالت الحكومة إنها «ملتزمة بسياسة تقديم الدعم لمستحقيه الفعليين»، وأن «خطوة إعادة هيكلة الدعم تأتي من باب الحرص على استمرارية وديمومة ملف الدعم نظراً للأعباء المتزايدة لهذا الملف، وبهدف تخفيض عجز الموازنة العامة للدولة، وتوجيه جزء من الوفر المحقق من هذه العملية لدعم الفئات الأكثر احتياجاً».
انفجار الاعتراض في السويداء
سلك الاحتقان الشعبي الذي ظهر في مناطق سيطرة النظام مساراً آخر في محافظة السويداء، إذ تجمع عشرات المحتجين السوريين في مدينة السويداء، عاصمة المحافظة. وخرجت مسيرات متفرقة في القرى المحيطة بالمدينة الواقعة جنوب غربي البلاد، حيث أغلق محتجون الطرق، واحتشد العشرات في الساحة الرئيسية بالمدينة للمطالبة بإلغاء تخفيضات الدعم التي أعقبت زيادة في أسعار البنزين في الأشهر الأخيرة.
المحتجون برّروا خروجهم انطلاقاً «من وجع أهلنا»، مؤكدين أن «هناك غلاءً فاحشاً ولا قدرة لنا على العيش». وأضافوا: «لا نحصل على حقوقنا... لا غاز ولا مازوت... نريد أن نعيش في وطن يصون كرامتنا وحقوقنا». وهتف المتظاهرون: «بدنا نعيش بكرامة»، وحمل بعضهم لافتات كتب عليها «ما ظل شيء للفقير»، ولوحوا بعلم طائفة الموحدين الدروز الخماسي الألوان.
من جهتها، تدعي الحكومة أن التخفيضات في برنامج الدعم الذي كان سخياً في السابق تهدف لتخفيف العبء عن الموارد المالية للدولة المتضررة من العقوبات، وأنها لن تمس سوى الأغنياء. لكن العديد من المتظاهرين يقولون إن هذه الخطوة أدت إلى تفاقم محنة المواطنين السوريين الذين نجوا من ويلات حرب مدمرة مستمرة منذ عشر سنوات، ويعانون الآن من أجل توفير الغذاء والإمدادات الأساسية في مواجهة استشراء التضخم وتآكل الأجور. كذلك يلقي السكان باللوم، في السخط المتزايد حتى بين أولئك الذين وقفوا إلى جانب الرئيس بشار الأسد إبّان السنوات الأخيرة، على تفشي الفساد وتفاقم أوجه انعدام المساواة.
ويؤكد محمد علي، الناشط المعارض للنظام في جنوب سوريا، أن الحراك أخذ منحى آخر مختلفاً عما كان عليه في السابق، موضحاً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أنه في العام الماضي «كانت التحركات سياسية بحتة وجرى حلها، لكن التحركات اليوم تخص لقمة العيش والمحروقات مع قدوم الشتاء، وهو ما يصعب حلّه من دون حلول اقتصادي وتقديمات وتحسينات». وإذ يشير إلى أن الجانب الروسي «يحاول الإثبات أنه يسيطر على الوضع»؛ فهو يضيف أن «المشكلة تتجدد، وتكبر كرة الثلج، ما يجعل احتواءها دون تقديمات اجتماعية، أكثر تعقيداً».
حركة شعبية
لقد اتخذ الحراك الطابع الشعبي بما يتخطى الطابع السياسي. فللمرة الأولى، تميز الحراك بالمشاركة الواسعة لرجال الدين وانضمام فئات اجتماعية لم تكن ترى في المظاهرات والاحتجاجات وسيلة فاعلة لحل مشاكلها الاقتصادية والسياسية. وهنا يتوقف الناشط الحقوقي والسياسي السوري إياد الشاعر عند واقع أن الشخصيات التي كانت تتصدر المشهد السياسي في وقت سابق، فيقول: «بدت على مسافة من الحراك الأخير وداعمة له، لكنها لم تكن أساسية فيه، بمعنى أنها كانت متأثرة بالحراك وليست مؤثرة فيه... حتى يستقر ويأخذ الزخم الشعبي». وتابع الشاعر لـ«الشرق الأوسط» أن «أبرز ما في الحراك الأخير أنه نتيجة السنوات العجاف الماضية والخوف القمعي المتجذّر عند الناس التي ظلمت طوال السنوات الخمسين الماضية... لقد انتفضت الكتلة الصامتة عندما لم تعد تشعر بالأمان، وفرضت المرحلة وجود تلك الشخصيات في الحراك بشكل كامل، فلم تعد تحيد نفسها عن وجع معيشي يشعر به الجميع».
ثم أضاف أن النظام في الأساس: «لم يفِ بوعوده، وما زال يعتبر نفسه ممسكاً بخيوط اللعبة، بمعنى أن الناس ملك له، والدولة مجرد مزرعة وهو يديرها»، مشدداً على أن هذه المقاربة «لم تعد مجدية، وهو ما ظهر في خروج الناس عليه».
حياد وتحييد
ظلت محافظة السويداء، تقريباً، على مسافة من النظام والمعارضة على حد سواء إبان الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف وشرد الملايين. ولفترة اعترف النظام بـ«خصوصية» المحافظة التي تسكنها غالبية من طائفة الموحدين الدروز، وتعامل مع البنية الاجتماعية والتركيبة الطائفية فيها بحذر شديد.
هذا الواقع يعيده إياد الشاعر إلى أن النظام، لحظة خروج الاحتجاجات ضده في عام 2011، «أشاع في كل قنواته الإعلامية واتصالاته المباشرة مع المجتمع الدولي الادعاء بأنه حامي الأقليات في مواجهة حركة إرهابيين ومتشددين ضد الجسم السوري ومؤامرة خارجية للنيل من هيبة الدولة والأقليات».
وعلى هذا الأساس، وفق الشاعر، اعترف النظام بخصوصية المحافظة، إذ «كان حذراً بالتعامل معها، خصوصاً في حركة الاعتقالات، وكان القمع مدروساً». وأردف شارحاً أن النظام «كان يدرك حجم الترابط الاجتماعي للموحّدين الدروز، وقد تجلّى ذلك بأوج صوره يوم تصدّيهم لهجمات (داعش) على الريف الشرقي للسويداء في عام 2018. ومن ثم، كان حذراً لمعرفته وتيقّنه بأن أي تجاوز لن يُسكت عنه في أي من الدول الأربع (سوريا ولبنان وفلسطين/ إسرائيل والأردن) التي يعيش الدروز فيها).
وبالفعل، احتفظت السويداء بتسلحها، وكانت القنوات الاجتماعية والدينية سبيلاً لحل المشكلات. لم يتعامل نظام دمشق مع السويداء، كما تعامل مع «جارتها» درعا مثلاً؛ فالمحافظة الأخيرة، «صُبغت منذ خروجها الأول، بصبغة المعارضة المسلحة، وتعامل معها النظام بالعنف»، مستبعداً الخلفية المعيشية. أما في السويداء - التي يتعذّر اتهامها بـ«الأصولية» و«الإرهاب» - فقد احتفظ فيها مع مشايخ العقل الثلاثة بخطوط تواصل. ونجح هؤلاء في تجنيب السويداء الصراع الدامي إلى حد بعيد... وعندما كان أبناء المحافظة يصطدمون بالنظام، كانت تجري مصالحة لمنع تمدد الخلاف وتراكمه».
لقد اعتمد النظام على هذا الترابط الاجتماعي لتفكيك الاحتجاجات ضده، ونجح إلى حد كبير بتحييد المحافظة عن المشاركة بزخم عنفي ضده في سنوات الحرب. غير أنه في الفترة الأخيرة، تغير الوضع، عندما لم تعد تلك المنظومة الاجتماعية من ضبط الاحتجاجات. وهنا يشدد الناشط محمد علي على أن الواقع في الاحتجاجات الأخيرة «مختلف». وفي هذا السياق، يشير إلى متانة العصبة الاجتماعية في المحافظة من خلال حادثة تسليم السكان بطاقات الدعم الممغنطة لرئيس البلدية في إحدى قرى محافظة السويداء، اعتراضاً على الاستنسابية بتوزيعها، فجاء الرد: «إما الجميع يأخذ الدعم، أو لا أحد». ويؤكد الناشط في الجنوب السوري أن هذا الواقع «يدلل إلى أن الحراك منظم وليس عشوائياً، وأن مؤسسة مشيخة العقل ما عادت قادرة على تخطي مطالب السكان في هذه اللحظة المصيرية».
نهاية حقبة
هذا يشير إلى أن حقبة التواصل مع النظام لحل النزاعات قد انتهت. وحقاً، أكد الشيخ حكمت الهَجَري، الرئيس الروحي الأول للموحدين الدروز، أن «التظاهر السلمي حق مشروع للمواطنين الذين يطالبون بحقوقهم»، خلال لقائه زواره من أبناء الطائفة. وأبدى تأييده للحراك السلمي المطالب بالحقوق المشروعة، مع المحافظة على مؤسسات الدولة. كذلك أوضح الشيخ الهجري أن «مطالبات الناس لم تعد موضوع رفع الدعم ورغيف الخبز، بل أصبحت تمس كرامة السوريين، ومن خرج ليطالب بحقوقه وبمكافحة الفساد وبمطالب معيشية هو مواطن صاحب حق وعلى المعنيين في السلطة الاستماع والاستجابة».
الواقع أن شيوخ الطائفة الدرزية إن الاحتجاجات السلمية ضد الإجراءات الحكومية المجحفة لها ما يبررها. هذا الاعتراف، يمهد لمقاربة مختلفة سيتعامل بها النظام في ملف السويداء. وبينما يشير الناشط محمد علي إلى أن «حاجز الخوف تم كسره منذ عام 2011»، وأن مشيخة العقل «لن تكون قادرة على تهدئة الوضع قبل تقديم النظام لبدائل وحلول، أسوة بتدخلها في مرات سابقة»، يقول إياد الشاعر إن «ما يجري هو حركة شعبية واعية وذكية، وتسقط تهمة الحراك الطائفي أو أنها حركة جياع فحسب، مع أن حركات الجياع هي من الثورات المهمة تاريخياً كالثورة الفرنسية مثلاً».
ويرى الشاعر أن «النظام يتعامل مع السويداء بشكل مختلف، إذ لن يستخدم القوة». لكنه يعرب عن مخاوفه من قمع المظاهرات بالآلية التي استخدمها في السابق، اعتماداً على «الشبيحة» الذين واجهوا «حراك النخب السلمي في السابق الذي شاركت فيه نقابات المحامين والأطباء والمهندسين والمعلمين والطلبة وغيرهم، إذ لم يستخدم القوة، بل لجأ إلى طبقة الشبيحة المنفلتة من كل الضوابط».
لكن ذلك لا يمنع أن يكون منظمو الحراك والمنخرطون فيه «باتوا واعين لهذا الأمر». وعليه، بنوه الشاعر بـ«الإصرار الكامل على الحراك السلمي والشعبي، مهما حدث من تطورات، بغية إيصال رسائل حقيقية وجدانية أنه حراك لكل السوريين، لوجعهم ومعاناتهم ومظلوميتهم، وليس حراكاً مناطقياً او طائفياً».

الروس على خط احتواء الوضع
* يتحدث أهالي السويداء عن تقارب روسي معهم، برز من خلال المساعدات الإنسانية، والتواصل المستمر مع الرئاسة الروحية (مشايخ العقل الثلاثة) للطائفة، من خلال عدة زيارات أجرتها قوات روسية إلى مشايخ الطائفة في السويداء.
وبعد شيوع أنباء عن تحركات أمنية للنظام وتعزيزات عسكرية في أعقاب الاحتجاجات، زار وفد عسكري روسي محافظة السويداء. واستفسر الوفد الروسي الزائر عن طريقة تعاطي السلطات مع المحتجين، وأسباب قدوم التعزيزات الأمنية الأخيرة.
المسؤولون التابعون للنظام نفوا أمام الوفد الروسي أن تكون القوات الأمنية والشرطية قد استخدمت القوة ضد المحتجين، وادعوا أن «نقل القوات الحكومية تم من أجل منع التصعيد وتجنب الاستفزازات»، وأن «السلطات على اطلاع جيد بما يجري وتبقي الوضع تحت السيطرة».
من جهته، ناقش الجانب الروسي عدة مواضيع خدمية في السويداء مثل تحسين شبكات المياه والكهرباء، وافتتاح المركز الثقافي الروسي في السويداء، والمساعدات الإنسانية التي توزعها روسيا في السويداء، وإخلاء «معسكر الطلائع» في مدينة السويداء الذي يحوي لاجئين من محافظات سورية مختلفة، وإيجاد بديل لهم.

مواجهة «ناعمة» مع الفرقة الرابعة و«حزب الله»
> فشل النظام في احتواء الاحتجاجات... مقارباته الحكومية بدت عاجزة عن إيقاف حركة الاعتراض التي ستتمدد، حكماً، إلى مناطق سيطرته الأخرى في دمشق وريفها وحمص والساحل وحلب، خصوصاً بعد انتشار مقطع فيديو يظهر أحد الصناعيين يقرّع المسؤولين الحكوميين، طالباً منهم تنفيذ الوعود بإيصال التغذية الكهربائية.
ومثل أي منطقة أخرى، دخل العامل الروسي على الخط، إذ زار وفد عسكري روسي محافظة السويداء، والتقى محافظها ورئيس فرع «أمن الدولة» فيها، بهدف الاطلاع على المستجدات الأخيرة في السويداء. ولاحقاً، أفيد عن زيارة «لرئيس الروحي للطائفة الدرزية بفلسطين، الشيخ موفق طريف، إلى موسكو إثر الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها السويداء».
وقالت مصادر لبنانية مطلعة على مآلات الحراك في السويداء لـ«الشرق الأوسط» إن وجود الشيخ طريف في موسكو «مؤشر على وجود تيار بين العائلات والعشائر في السويداء، ينتهج استراتيجية المواجهة الناعمة مع الفرقة الرابعة وحزب الله بدعم روسي في جنوب سوريا»، وأن هذا الحراك باتجاه روسيا أتاح مفاوضات غير مباشرة بين النظام وفعاليات المحافظة، فقد أفيد عن «مفاوضات غير مباشرة» بين دمشق والسويداء، بعد توقف الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المحافظة. وتتجسد المفاوضات غير المباشرة عبر إعداد مجموعة من منظمي الحراك الشعبي وناشطين والزعامات المؤيدة للحراك الشعبي في السويداء «ورقة مطالب»، سترفع إلى الحكومة في دمشق، تحدد مطالب الأهالي المحتجين. وتؤكد حالة الاحتجاجات على الأوضاع المعيشية والاقتصادية فقط.
هذا، وأعلن مدير ريّان معروف، تحرير «شبكة السويداء 24»، أن عدة اتصالات من جهات حكومية وردت إلى السويداء تطالب بالتهدئة، وضبط الاحتجاجات، والطلب بالقدر المستطاع، وأن هذه الجهات بررت موقف النظام «بالأوضاع التي تشهدها عموم سوريا» بعد استمرار الحرب منذ أكثر من عشر سنوات، والعقوبات المفروضة على سوريا، وابتعاد كثير من الثروات النفطية عن سيطرة وخزينة الدولة.



فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس
TT

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات العامة الأحد الماضي، قد خسر معركة داخلية للسيطرة على الحزب أمام أنجيلا ميركل في عام 2002، بعدما تمكنت من تحييده والاستيلاء على زعامة الحزب. وانسحب ميرتس كلياً من السياسة عام 2009 ليعود بعد نهاية «حقبة ميركل» التي طالت حتى عام 2021. إلا أنه حتى عودته تلك لم تكن سهلة؛ ذلك أنه حاول الفوز بالزعامة 3 مرات، ولم ينجح إلا في المحاولة الثالثة بعد فشل الزعيمين السابقين اللذين فضلهما الحزب، آنغريته كرامب كرامباور وآرمين لاشيت، اللذين كانا مقرّبين من ميركل وينتميان لجناحها في الحزب. ولكن في عام 2022، نجح ميرتس أخيراً في كسب أصوات المندوبين للوصول في النهاية إلى مقر المستشارية وهو في سن السبعين. قصة ميرتس داخل حزبه تعكس شخصيته التي تثير انقسامات كبيرة، ليس فقط داخل حزبه، بل أيضاً على المستوى الوطني. فتحالفه مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» لتمرير اقتراح داخل البرلمان عارضته كل الأحزاب الأخرى - ولم ينجح إلا جزئياً بسبب دعم الحزب اليميني المتطرف - أثار انقسامات كبيرة في ألمانيا، وكاد يكلفه طموحه الذي انتظر عقدين لتحقيقه. أما الآن وقد فاز حزبه بالانتخابات، ووقعت عليه مهمة تشكيل الحكومة الألمانية المقبلة، فسيتوجّب على الرجل الذي أمضى فترة «تقاعده» السياسي في عالم الأعمال، أن يقود ألمانيا التي تواجه تحديات كثيرة خلال الأشهر والسنوات الآتية.

يوصف فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المكلّف، أحياناً بأنه «شعبوي» ويغازل قاعدة اليمين المتطرف. وهو صاحب عبارات اشتهرت وأثارت انتقادات كبيرة، بل رُميت أحياناً بـ«العنصرية»، كوصفه مرة طلاب مدارس من أصول عربية وتركية بأنهم «باشاوات صغار»، أو زعمه أن اللاجئين يأتون إلى ألمانيا لـ«إجراء عمليات تجميل لأسنانهم في حين أن الألمان عاجزون عن حجز مواعيد لدى أطباء الأسنان» (ادعاء نفته نقابة أطباء الأسنان التي قالت إن التأمين لا يغطي إلا العمليات الضرورية وليس التجميلية)، أو وصفه اللاجئين الأوكران الذين أتوا إلى ألمانيا في بداية الحرب مع روسيا بأنهم «لاجئون سيّاح»، قاصداً أنهم يأتون للاستفادة من التسهيلات المالية التي تقدمها لهم السلطات الألمانية.

فكر محافظ صريح

ميرتس هو أيضاً صاحب عبارة: «الثقافة الألمانية الطاغية» التي روّج لها منذ قبل «تقاعده الإجباري» المؤقت من البرلمان الذي دفعه إليه عصر ميركل. وبذلك كان يتعمّد انتقاد التعددية الثقافية التي لا يعتبرها «ألمانية»، مكرّراً «ضرورة» أن يتقبّل المهاجرون في ألمانيا «الثقافة الطاغية».

وفي صيف 2023، بعد انتخابه أخيراً زعيماً للديمقراطيين المسيحيين، وقف ميرتس أمام مجموعة من سكان غيلاموس، وهي بلدة صغيرة في ولاية بافاريا، قائلاً: «كرويتسبيرغ ليست ألمانيا. غيلاموس هي ألمانيا»، أمام هتافات الحاضرين وتصفيقهم. وللعلم، كرويتسبيرغ منطقة في برلين معروفة بتنوعها الثقافي، وتُعدّ معقل الجالية التركية في العاصمة الألمانية.

وأخيراً، في مطلع العام، قبل أسابيع من الانتخابات، كسر ميرتس قاعدة ذهبية تعتمدها الأحزاب الألمانية منذ هزيمة النازيين خوفاً من صعود اليمين المتطرف مرة جديدة ومنعاً لتكرار التاريخ... وهذه القاعدة غير المكتوبة تنص على رفض التعاون مع أحزاب يمينية متطرفة، في ما يُعرف ألمانيّاً بـ«جدار الحماية».

تشديد قوانين الهجرة

وفي الأسابيع التي سبقت الانتخابات، إثر تكرار الهجمات التي نفّذها لاجئون أفغان أو سوريون، خرج ميرتس غاضباً ليعلن طرحه اقتراحاً أمام البرلمان لتشديد قوانين الهجرة. ومع أن الاقتراح لم يكن مُلزماً للحكومة، قرّر ميرتس المضي بطرحه رغم اعتراض الأحزاب التقليدية عليه لمخالفته عدداً من القوانين الأوروبية، بحسب منظمات حكومية، مثل إغلاق الحدود مع «دول الشنغن»، ووقف استقبال اللاجئين غير الشرعيين. وأيضاً أصرّ ميرتس على طرح الاقتراح في «البوندستاغ» مع أن الحزب الكبير الوحيد الذي دعمه كان «البديل من أجل ألمانيا».

وحقاً، مرّ جزء من الاقتراح بفضل أصوات الحزب المتطرّف؛ ما أثار موجة من المظاهرات خرج فيها مئات الآلاف يصفون ميرتس بـ«الخائن». ومع إثارة ميرتس انقسامات داخل حزبه، توالت الدعوات من الأحزاب الأخرى له للانسحاب من السباق لمنصب المستشارية؛ لأنه «ما عاد مناسباً لقيادة ألمانيا». لكن الزعيم المحافظ سارع لاحتواء الأزمة والتعهد بأنه لن يتحالف مع «البديل» في حال فوز حزبه بالانتخابات. ورغم احتلال الحزب المتطرّف المرتبة الثانية في الانتخابات بـ20 في المائة من الأصوات ومضاعفته عدد مقاعده البرلمانية، رفض ميرتس الدخول في مباحثات لتشكيل الحكومة معه. واختار بدلاً منه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الذي حلّ ثالثاً بـ15 في المائة من الأصوات.

أهمية الملفات الدولية

وبسرعة بدا واضحاً، بعد فوز الديمقراطيين المسيحيين، أن زعيمهم الجديد يعي أهمية الملفات الدولية التي تنتظره؛ فهو قبل أن يبدأ المشاورات الرسمية لتشكيل حكومته، سافر إلى باريس في زيارة غير رسمية للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتناول العشاء معه لمناقشة ملفات لم يكشف عنها أي من الطرفين. وجاء اللقاء بُعيد عودة ماكرون من واشنطن حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبدا الاختلاف بينهما واضحاً حول التعاطي مع أوكرانيا.

ومع أن ميرتس من كبار مؤيدي «العلاقات عبر الأطلسية» والمروّجين لها، فإنه بدا متشكِّكاً في الأيام الماضية من إنقاذ العلاقة المتغيّرة. وهو انضم بعد مغادرته البرلمان عام 2009 إلى «أتلانتيك بروكيه» (أو الجسر الأطلسي)، وهي جماعة ضغط تروّج للعلاقات عبر الأطلسية.

نظرة إلى سيرته

ميرتس الآتي من عالم القانون؛ إذ درس المحاماة في جامعة بون، انخرط في عالم الأعمال خلال السنوات التي ابتعد فيها عن السياسة. وعمل في شركة «بلاك روك» الأميركية، وجنى ثروة من جلوسه كذلك في مجالس إدارة عدة شركات ومصارف، بل اعتقد كثيرون أن خلفية ميرتس هذه قد تقرّبه من ترمب الآتي من خلفية مشابهة؛ فهو رجل أعمال ثري يملك حتى طائرته الخاصة التي يقودها بنفسه أحياناً؛ كونه طياراً هاوياً تدرب على الطيران خلال السنوات الماضية، ثم إن أفكاره المحافظة حول الهجرة والإجهاض مثلاً، وأفكاره الليبرالية حول السوق، قريبة جداً من أفكار الجمهوريين؛ ما عزز توقعات اقترابه فكرياً من الرئيس الأميركي.

ويُذكر أنه رغم انتقاد كثيرين مهاجمة مؤيدي ترمب مقر الكونغرس بعد فوز الرئيس السابق جو بايدن، ظل ميرتس مؤمناً حتى بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض بأنه يمكن ترميم العلاقات المتدهورة مع واشنطن. ولكن خطابه إزاء واشنطن بدأ يتغيّر بعد كلمة نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في ميونيخ، وبدا وكأنه يُعدّ لعلاقة صعبة أساسها التركيز على تشكيل وبناء تحالفات أوروبية قوية. وبالفعل، انتقد ميرتس فانس لدعوة الأخير للأحزاب الألمانية إلى التعاون مع حزب «البديل»، مشدداً على أن هذا شأن داخلي.

بين روسيا وأوكرانيا

وكذلك، لم يتردّد ميرتس في انتقاد ترمب شخصياً بعد وصف الأخير للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ«الديكتاتور»؛ إذ اعتبر كلام ترمب «عكساً كلاسيكياً لرواية الجاني والضحية»، مضيفاً أن بوتين يصوّر الأمر بهذه الطريقة منذ سنوات، وأنه يشعر بـ«الصدمة» من استخدام ترمب الرواية نفسها اليوم.

ميرتس يُحسب من أشدّ المؤيدين لأوكرانيا، وكان يحثّ الحكومة الألمانية طوال السنوات الماضية على إظهار دعم أقوى لكييف، ودأب على انتقاد سلفه المستشار الاشتراكي أولاف شولتس لـ«تردده المتكرّر» في تزويد أوكرانيا بالمعدّات العسكرية التي كانت تطالب بها... وأكثر من هذا، ترك الباب مفتوحاً أمام أوكرانيا للانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).

وأيضاً، يؤيد ميرتس زيادة الإنفاق العسكري لفوق 2 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما تنفقه ألمانيا حالياً في تحوّل منذ الحرب في أوكرانيا. وفي إشارة إلى أن هذا الأمر أولوية بالنسبة له، عقد ميرتس لقاء مع شولتس بعد يوم على الانتخابات لمناقشة زيادة الإنفاق العسكري قبل تشكيل الحكومة الجديدة، وفق وسائل إعلام ألمانية. ومعلوم أن تشكيل الحكومة قد يستغرق شهرين على الأقل.

كذلك قد يكون ميرتس ناقش مع ماكرون أيضاً مسألة الضمانات العسكرية التي يمكن لأوروبا أن تقدّمها، وبخاصة أنه يؤيد طرح الرئيس الفرنسي حول إنشاء جيش أوروبي قوي، وهو ما يطالب به الرئيس الأوكراني أيضاً.

وعليه، فهنا يعتبر ميرتس «أوروبياً» بامتياز، مع أنه لا يؤيد السياسات الأوروبية المتعلقة بالهجرة، مفضلاً تشديدها، حتى إنه يروّج لخطوات تعتبر غير قانونية داخل الاتحاد الأوروبي، مثل إغلاق الحدود، ووقف استقبال طالبي اللجوء.

تحدّيات مستقبلية صعبة

من ناحية أخرى، فرغم تعهّد ميرتس بتشديد القوانين المتعلقة بالهجرة، فإنه ربما يواجه عراقيل قانونية تمنعه من ذلك، وقد يرفض «شركاؤه» الاشتراكيون التوقيع على بيان حكومي يتعهد باتخاذ إجراءات مشددة، كإغلاق الحدود وغيره. لكن المستشار المكلّف يعي أيضاً أنه سيكون عليه التعامل بجدّية مع مسألة الهجرة - التي كانت في طليعة اهتمامات الناخبين – من أجل الحد من شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» التي تضاعفت على المستوى الوطني خلال 4 سنوات، بشكل أساسي، بسبب الهجرة.

وفي مقابلة قبل أيام، حذّر ميرتس من أن زيادة شعبية الحزب المتطرف هي «الإنذار الأخير» لنا. وللتذكير، كان الرجل نفسه من أشد منتقدي ميركل حين قررت السماح لمئات آلاف السوريين بالدخول إلى ألمانيا عام 2015، وحمّلها في السنوات التي تلت مسؤولية صعود حزب «البديل».

في أي حال، الحزب المحافظ الذي قادته ميركل طوال 20 سنة، يبدو الآن مختلفاً كلياً تحت قيادة فريدريش ميرتس، مع أن القائد الجديد نفسه لم يتغيّر أو يغيّر الكثير من أفكاره منذ «تقاعده» قبل أكثر من 16 سنة؛ فهو لا يخالف ميركل في مسألة الهجرة فحسب، بل تراه يؤيد أيضاً إبقاء العمل بالمفاعلات النووية التي كانت ميركل قد قرّرت إغلاقها بعد حادثة فوكوشيما للتسرّب الإشعاعي عام 2011. وهو كان أيضاً من منتقدي توسيع مشروع «نورد ستريم» لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، وكان يدعو إلى إيقاف المشروع حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا.