عملان فنيان استثنائيان يتحاوران في الجناح اللبناني في آرسنال «المعرض العالمي للفن المعاصر – بينالي البندقية» في دورته التاسعة والخمسين، تحت عنوان «العالم على صورة الإنسان»، حيث يشارك لبنان للمرّة الثانية في تاريخه وبعد غيابٍ دام خمسة أعوام. ومن 23 أبريل (نيسان) ولغاية 27 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الحالي، بمقدور الزوار رؤية التجهيز الضخم والجريء للفنان التشكيلي أيمن بعلبكي الذي أصبح له صيت عالمي، وفي مواجهته عمل بصري على شاشة تعرض تسجيلات السينمائية المتميزة دانيال عربيد. يتواصل العملان ويتناغمان عبر الساحة التي تفصل بينهما. أمّا المبنى فيتميز بشكله البيضاوي، الذي صممته المهندسة المعماريّة ألين أسمر دامان، مستوحية المشهد العمراني اللبناني. فهي انحناءات تذكّر بمبنى «البيضة» في وسط بيروت لجوزيف فيليب كرم، ومبنى معرض «رشيد كرامي الدولي» ﻟ«أوسكار نيماير» في طرابلس.
شوارع بيروت موضوع ثنائي
أيمن ودانيال كلاهما مسكون ببيروت، دانيال التي تركت بلادها في عمر 17 عاماً، ولا تزال تبحث عن العائلة والبيت والحرارة التي افتقدتها منذ ذلك الوقت. وأيمن المصمم على الصمود في المدينة وقد أصبحت محور أعماله، وجوهر بحثه عن المعنى.
وكانت وزارة الثقافة اللبنانيّة، قد كلّفت ندى غندور، أمينة التراث، المشروع، وهي في الأصل صاحبة الفكرة، وتحاول بلورتها منذ سنوات، وسعيدة بأنّها جمعت دانيال وأيمن في حوار فني، ظاهره حول بيروت «لكن بيروت ليست مدينة محلية، فكل سماتها تعكس ما نراه من تحولات كبرى. هي نموذج يحكي الفنانان من خلال شوارعها، عن معضلات، أصبحنا نراها في كل مكان. لعل بيروت سبّاقة، وفيها تختزل تحولات كثيرة». وتضيف غندور التي تقيم في باريس «نحن حين نأتي من الخارج ونسير في شارع الحمرا، فكأنما نرى العالم أجمع».
الشكل البيضاوي يعزز الحوار
مبنى الجناح اللبناني، وعلى مساحة 150 متراً مربعاً، مستمدة روحه من عمارة شاعت منذ الستينات، حيث تغطيه ألواح منحنية مطليّة بنسيج خرساني يشير إلى مدينة هي دائماً في حالة إعادة بناء.
وعقد مؤتمر صحافي في «قصر سرسق» في بيروت يوم أمس، لشرح فكرة العمل، حضره وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، الذي قال إن «لبنان الوطن، يغرق اليوم في خضمّ أزمات متنوعة. من هنا تبرز الحاجة الماسّة إلى محاولة الخروج منها، من خلال رسم مشهدٍ ثقافي فني حافلٍ يعبّر عن جراحنا وإنجازاتنا. ولذلك؛ فإنّ وجود لبنان في البندقية يستجيب لهذه الدعوة».
وتحدثت ندى غندور، المفوضة العامة للجناح، عن أهميّة الحدث في ظلّ الفترة العصيبة التي يمرُّ بها لبنان «إذ أصبحَ الحفاظ على القطاع الفنّي أولويّة لاسترجاع الصورة الجميلة لبلادنا وحياكة النسيج الوطني المهم للبنانيين على اختلاف انتماءاتهم».
تختلط في الجناح، أصوات دانيال التسجيلية بمشهد تجهيز أيمن بعلبكي بألوانه الصاخبة. «كانت تجربة جديدة على الصعيد الفني»، يقول أيمن بعلبكي. «إذ استخدمت مادّة الـ(فليكس) وهي مادّة لا تلتصق عليها الألوان بسهولة. وأضفت أيضا ملصقات والكثير من الموادّ الأخرى المأخوذة من شوارع بيروت». انطلق بعلبكي من بيروت لأنّه يراها «غنيّة بـ(الأماكن الأخرى) حسب مفهوم ميشال فوكو. بيروت هي (مكان مغاير) و(زمن مغاير) في آن واحد، كما لو كانت تتطوّر باستمرار في زمانين مكانيين مختلفين لهما حدود معيّنة. وهكذا، استناداً إلى كلمة (لبننة) التي تشير إلى تفكّك الدولة، أقترح استحداث كلمة (البيرتة) للإشارة إلى الأماكن التي تنغّصها المتاريس والكتل الخرسانية، للإشارة إلى تقطيع المدينة وتقسيمها إلى كتل منفصلة. وهي ظاهرة، شهدتها مدن أخرى في الشرق الأوسط وفي الغرب مثل القدس وبرلين وبلفاست».
باب يانوس
يحمل تجهيز بعلبكي اسم «باب يانوس» وهو «الإله الروماني ذو الوجهين، الذي ينظر إلى الداخل والخارج، الماضي والمستقبل». وكذلك هي حال اللافتات الإعلانية الشاهقة والأنيقة التي تغلف واجهات المباني قيد الإنشاء، ومنها تم استيحاء التجهيز. هي تخفي وراءها أشياء كثيرة، منها غرفة الحارس. يشرح بعلبكي «بنيت هيكلاً تتعايش فيه مساحتان: مساحة خارجيّة مشعّة ومساحة داخليّة تشبه جميع الأحياء الفقيرة في العالم، أو مخيّمات اللاجئين».
يتّسم التجهيز أو الهيكل ثلاثي الأبعاد بواجهة وخلفية. يشرح بعلبكي «يسمح الباب، في وسط العمل، بالمرور من مساحة إلى أخرى. ويشير ذلك أيضاً إلى عبارة (أغلقوا باب يانوس) التي تعني (إحلال السلام)، إذ يعني الباب المفتوح الحرب. أمّا في هذا العمل فالباب نصف مفتوح أو نصف مغلق».
أمّا دانيال عربيد، فعملها الذي يعرض مقابل تجهيز بعلبكي، هو جزء من مجموعة مكوّنة من تسعة أشرطة فيديو، قريباً ينضم الجزء العاشر إليها، صُوّرت بين العام 2001 والعام 2022. العمل يُخبر قصّة امرأة تتجول في سيارة، وتجري اتصالات مستمرة، نفهم منها أنّها تبحث عن كسب المال. في الفيلم، نرى شبيهاً لما نلمحه في تجهيز بعلبكي، كتل خرسانية، حواجز تقسم المدينة، أقمشة المشمّعة خاصّة بالإعلانات التي تغلف واجهات العمارات قيد الإنشاء.
دانيال «ألو حبيبي»
«ألو حبيبي» هو اسم هذا العمل لعربيد. يعكس «طريقتي لجمع شجرة عائلتي، وطريقتي لتجميد لبنان، هذا البلد الذي نشعر وكأنّه قد يزول في الأيام المقبلة. الشخصية في الفيديو هي أمي في الحقيقة، وهي تشبه صورة هذا البلد، تجسّده، بعقليتها القاتلة، حبها للمخاطرة، واندفاعها للحياة. إنّها مأسورة في سباق جامح لكسب المال تجول في سيارة حول مدينة بيروت. كفاحها مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنف المُسيطر في لبنان اليوم الذي عاشته بلدان أخرى، في أوروبا أو أماكن أخرى».
المشاركة اللبنانية في بينالي البندقية، لم تكن لتتم لولا مجموعة من الفنانين والداعمين اللبنانيين في مختلف المجالات. والملاحظ أنّ غالبية القيمين على تنظيم هذه المشاركة الدولية هنّ من النساء. فإضافة إلى المفوضة العامة ندى غندور، والمعمارية ألين أسمر دامان، هناك أنابيل تيناز، وهي عالمة حفريّات مؤرشفة، وكبيرة أمناء التراث. ولمى سلامة المديرة الإداريّة لمؤسّسة «بوغوسيان – فيلا آمبان» في بروكسل.
تنظم المعرض «الجمعية اللبنانية للفنون البصرية، وهي منظمة غير ربحية مهمّتها الرئيسة تنظيم الجناح اللبناني في بينالي البندقيّة للفن المعاصر.