الحب... الفرنسيّون رسموا له خرائط والأستراليّون شخّصوه عُصاباً

أكثر النّاس بحثاً في ماهيته ومعناه وتأثيراته هم المثقفون

الحب... الفرنسيّون رسموا له خرائط والأستراليّون شخّصوه عُصاباً
TT

الحب... الفرنسيّون رسموا له خرائط والأستراليّون شخّصوه عُصاباً

الحب... الفرنسيّون رسموا له خرائط والأستراليّون شخّصوه عُصاباً

يشتعلُ، فيُلهِب الوقت ويحوّله إلى متفرجٍ ليس أكثر، نخترعهُ ليُعيدَ اختراعنا على شاكلة بشر إن ماتوا فهم لن يموتوا، لا يستكين ولا يهدأ، لا عاطفة أكثر اجتياحاً منه. هو الحب سواء أكان عشقاً لآخر قد تخصّب من تلاقح كيمياء غير مفهومة أو بناءً لتصورات آيديولوجيّة موهومة، فلا بدّ من التورط به كي تتشكلّ تجربة العيش الإنساني الدّافع والغرض والمعنى، ولا يمكن فهم مجمل سلوكيّات المرء دون أن تجده دائماً هناك في الخلفيّة كالحافز الأكثر فاعليّة وجبروتاً على أرواح البشر في مراحل أعمارهم المتعاقبة.
ولعلّ أكثر النّاس اعتناء بالبحث في ماهيّة الحبّ ومعناه وتأثيراته هم المثقفون بحكم اشتغالهم الدّائم، علماء وفلاسفة وأدباء وشعراء، على استكشاف أركان تجربة الوجود ورصدها وتوصيفها في معادلات، أو مفاهيم، أو نصوصٍ، أو قصائد. ولكن هذا يطرح بالضرورة تساؤلات حول طبيعة علاقات الحبّ عند أمثال هؤلاء المثقفين، فهل هي «أعمق» لأنهم أقدر على تفكيك المشاعر وتقديرها أو «أكثر تعقيداً» بسبب تطلّبهم من الشريك، وهل يصبح المثّقف –أو المثقفة– أكثر جاذبيّة بسبب تجاربهم الفكريّة أساساً، أم أنّهم يعانون لذلك من صعوبة إضافيّة للالتقاء بأقران على سويتهم العقليّة الرفيعة؟ ولعل الأهم من ذلك كلّه، هل يكون المثّقف أقدر من غيره على إدارة مسار علاقته بالآخر على العموم، أم لا بدّ من علاقة فكر ندّيّة على نسق «المثقفون للمثقفات»؟
حاول بعض المثقفين الفرنسيين منتصف القرن السابع عشر إيجاد طريقة للتعامل مع الحبّ: لقد رسموا خرائط له، بناءً على خبرة جمعٍ منهم كي تكون دليلاً للآخرين. واستخدم هؤلاء لتمثيل المشاعر والعواطف على خرائطهم المجازية العناصر الطبوغرافية المعروفة، فهناك «بحر العداوة» الذي قد يسقط فيها المحبّون إن هم كسروا قلوب محبيهم، أو «القلعة في الهواء» عندما يكون الحبّ من طرف واحد ليس متبادَلاً ويعيش صاحبه –أو صاحبته- على وهم لن يتحقق، وكذلك «بحر الحبّ الخطير»، وأقاليم «الضّياع» مجهولة الأبعاد. ولعل المثال الأشهر لتلك الخرائط الطريفة هو الـ«كارت دي تندر» أو «خريطة الحنان» الذي وضعته سيّدة صالونات مثقفين باريسيّة تدعى دي سكوديري ونُشر في عام 1654 كجزء من رواية «كليلي» ورسمها شخص يدعى فرنسوا شوفيو. وفي الرواية، تقوم «كليلي» الشخصية الرئيسية برسم خريطة لكيف يمكن للمرء أن يصبح عاشقاً وفق منطق يصغي للقلوب -وقد لا يتوافق بالضرورة مع أنظمة الزّواج التقليدي في ذلك الحين- ويعكس إلى حد ما طبيعة التغييرات الثوريّة التي كانت تعصف بالمجتمع الفرنسي وقتها وصولاً إلى ثورة الباستيل. ويبدو أن دي سكوديري رسمت تلك الخريطة بالتوافق مع عدة مثقفين من رواد أحد الصالونات حيث كانوا يلتقون دوريّاً لتجاذب أطراف الحديث وتبادل الأفكار.
خريطة بلاد الحنان لا تفترض بالمسافر الالتزام بمسار واحد محدد، بل تطرح أمامه عدّة احتمالات. وينتهي المطاف بالباحثين عن الحب في مدن كبرى جميلة تحمل أسماء ترتبط بحالات إيجابيّة كالتقدير أو الامتنان. ومع ذلك، يمكن له أن يتوه فتجرفه الأهواء نحو «بحيرة اللامبالاة» أو يهوي في «بحر العداوة» أو يمر بتجارب سيئة في مدن صغيرة مظلمة كـ«الإهمال» أو «الرضا عن الذات»، أو حتى يصطدم بجرف صخري يدعى «الكبرياء» أو يسقط في «هاوية اليأس». ويبدو أن تلك الخرائط كانت نتاج نقاشات صريحة حول طرق المغازلة والبحث عن الحبّ والإبحار في مياهه في وقت كان عامة الفرنسيين بالكاد قد شرعوا لتوّهم بالتحدّث عن ذلك بشكل مباشر ودون تمويه.
وعلى كلٍّ فإن الحاجة إلى خرائط الحبّ التي تعددت فرنسياً -ووصلت إلى إنجلترا في وقت لاحق- إنّما تعكس نوعاً من الوحدة أو العزلة التي تجد أغلب فئات المثقفين نفسها أسيرة لها رغم أنّ بعضهم قد يحظى بالشهرة أو يعيش تحت الأضواء، فكأن عدداً قليلاً يتوفر لهم من الشركاء المحتملين الذين يمكن أن ينسجوا معهم علاقات عميقة أبعد من مجرّد النشوة الحسيّة، لقاءات للعقول كما الأرواح في مساحات أكوان مفاهيميّة لا يمكن لكثيرين العبور إليها، قادرة على التسرّب إلى داخل نخاع عظام المحبيّن والبقاء فيها.
وهناك قصص كثيرة من تاريخ المثقفين لعلاقات هذه النوعيّة النادرة كتلك التي جمعت مثلاً الفيلسوفين جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، أو مارتن هايدغر وحنّا أردنت، كما فولتير وإميلي دو شاتليه، وفي الشرق جبران خليل جبران ومي زيادة أو غسّان كنفاني وغادة السّمان. لكن المطلعين على دقائق تلك النوعيّة من العلاقات يصفون عادةً تعقيدات ومفارقات تكاد لا تنتهي، وتقاطعات مع علاقات شرعيّة قائمة أصلاً أو التعايش في ظلّ تعدد الشركاء وما إلى ذلك مما ليس مألوفاً أو مقبولاً في المجتمعات التقليديّة.
والجليّ من سير قصص الحبّ هذه بين المثقفين أنّهم قبل -أو بعد التقائهم- شريك روحهم الفكري قد يدخلون في علاقات طويلة المدى مع آخرين ليسوا بقدر ثقافتهم. فما الذي يجذب هؤلاء العاديين –إذا شئت– للتورّط في علاقات مع أناس يفوقونهم في الذكاء والمعرفة، مع كلّ ما يمثله ذلك من خطر انعدام التكافؤ، وفقدان الانسجام، وربمّا السقوط في «بحر الملل» على ما تقول خريطة دي سكوديري؟
يقول علماء أستراليون إن هنالك نوعاً من العصاب أو الشذوذ السلوكي (أطلقوا عليه اسم (سابيوسيكتواليتي) ينجذب الذين يعانون منه جسديّاً إلى أشخاص أذكياء للغاية، ويدفعهم إلى بناء علاقات معهم رغم كل المخاطرات والتعقيدات التي قد تنطوي على ذلك. لكن علماء اجتماع ونفس آخرين انتقدوا هذا الادعاء وعدّوه أقرب إلى أعمال الاحتيال منه إلى شأن علمي محض، ومحاولة أخرى لتبرير علاقات غراميّة –غالباً غير صحيّة- قد تنشأ بين أفراد غير متكافئين. كما تحدّث آخرون عن الذّكاء الفردي كصنم صنعته ثقافة المشاهير التي تحبّها هوليوود وتروّج لها الصحف الصفراء، وبأن الأستراليين وراء الدراسة ينطلقون من مرجعيّات نخبويّة أورومركزيّة غربيّة محض. وبالطبع، فإن صحّ موضوع (سابيوسيكتواليتي) هذا أو لم يصح، فإن ذلك لا يعني بالطبع أن ثقافة الشخص لا يجب أن تكون مصدراً لتميزه وتعزيزاً لحضوره الإنساني ومادة لجاذبيته، ولكن دون أن تكون تلك الثقافة حصراً هي سرّ العلاقة الوحيد، لأن ذلك قد لا يسمح ببناء علاقات متكاملة وفق مقاييس «الحس السليم» للمجتمع في مكان وزمان معينين.
من المؤكد أن أغلب المثقفين ينتهون بشكل أو بآخر للعيش في فضاء خيال مفهومي ترتفع فيه قيمة أفكارهم الخاصّة عن العالم ويدفعهم إلى النظر في الحياة بعمق بعيداً عن ضيق الأفق، ويتوقعون نمطاً من حياة اجتماعية متجذرة في ذلك الفضاء، وهذا يفرض عليهم تحدياً في حياتهم اليوميّة: محاولة تقنين الحبّ في معادلات، أو مفاهيم، أو نصوص، أو قصائد، لن تكون في أي حال كافية للقبض على معنى الحبّ بالنّظر إلى تعدد أشكال القوارير التي قد يتموضع فيها، وفي ذات الوقت قد يَدْفَعُوا دون قصدٍ ونتيجة تحليقهم في ذلك الفضاء المتخيّل بشركاء كثيرين محتملين بعيداً عنهم، مما يوقعهم في العزلة والوحدة وربّما اليأس من العثور على رفيق - رفيقة في رحلة العمر أو الغرق في سلسلة من العلاقات العابرة القصيرة التي لا تُرضي غرورهم المعرفيّ. وربّما لهذا السبب تحديداً تحدّث الحكماء عن الشّقاء المرافق للمعرفة مقابل الراحة والثقة التي يتملكها المتمتعون بنعمة الجهل.



«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة
TT

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

«الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة

الصورة المرئية هي أفضل وسيلة لنقل الأفكار الفلسفية مهما كانت صعبة، لقد كتبت من قبل عن الفنانين الذين استخدموا السينما - أو التلفزيون - لتبسيط أفكار «الوجودية» أو «الرواقية»، وأظن أن الصورة ليست محصورة بأنواع معينة من الفلسفات، بل بإمكانها تقريب أي فلسفة ولو كانت فلسفة هيغل نفسه.

في تحفة ريدلي سكوت الأخيرة «المُجالد 2» هناك عدة فلسفات تتحدث وتتنافس، ولعله مما يزيد استمتاعنا بالفيلم أن نتعرف على تلك الفلسفات، عندما تنقل الشخصية الرئيسة مقولة: «إذا كنا في الوجود فإن الموت لن يكون موجوداً، وإذا جاء فعلاً فإننا لن نكون في الوجود»، وبالتالي فلا حاجة إلى الخوف منه لأننا لن نلتقي به أبداً، فأحدنا سيكون حاضراً والآخر سيكون غائباً. هذه المقولة لأبيقور، ونحن نعلم أن أبيقور أحد الفلاسفة الرئيسيين في العصر الهلنستي، الذي امتد على مدى ثلاثة قرون بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 قبل الميلاد، وأرسطو في عام 322 قبل الميلاد.

يبدو أننا عثرنا على مقولة أبيقورية في بيئة رواقية، فالفيلم بجزئيه يسبح في بحر «الرواقية».

لطالما كان أبيقور عرضة لسوء الفهم، خصوصاً عند الحديث عن مذهب اللذة ونظريته في السعادة. يتضح هذا عندما ندقق في مذهبه، فالسعادة عنده هي العيش في سلام بعيداً عن الألم، وطعامه الخبز والماء، في حياة زهد تشبه حياة المتصوفة. كل ما يُنسب إلى أبيقور مما يدعو إلى العبّ من الملذات هو في الحقيقة من كلام أرسطبوس، تلميذ سقراط. ذلك الفيلسوف المنسي الذي كان يعيش المتعة فعلاً في حياته نديماً للملوك، ولا يكترث بأي علم لا يزيد من استمتاعنا بالحياة، ويقرر أن الحكيم لا يقلق ولا يكترث بالأمور التافهة.

وقد ارتفعت أسهم نسخة أرسطبوس المنقحة (أبيقور) في العصر الروماني لتكون إحدى ثلاث فلسفات مهيمنة في تلك الفترة. الثانية هي «الرواقية»، والثالثة هي «الشكوكية». بينما تراجعت كل الفلسفات الأخرى لتبقى في دائرة اهتمام النخبة فقط، لأن الإنسان العامي لم يعد مشغولاً بالوجود والفلك ومراقبة الكواكب ودراسة الحيوان، بقدر ما هو مشغول بالتخلص من الخوف والألم والجوع في أزمنة مضطربة.

كان الصراع بين «الأبيقورية» و«الرواقية» شديداً، فلا تسلك واحدة طريقاً أو تتبنى رأياً حتى تسلك الأخرى طريقاً غيره. و«الشكوكيون» يرفضون الجميع، وإن كان عداؤهم أشد للرواقيين. إلا أن الجميع متفقون على أن الفلسفة ليست لعباً، بل هي فن يهدف إلى تحقيق الشفاء الروحي، قبل أي غاية أخرى. ولا شك أن المسيحية كانت تنافسهن في الخفاء، حتى جاء نصرها الكبير عندما عُمد قسطنطين مسيحياً في القرن الرابع وأصبحت دين الإمبراطورية الرسمي بعد قرون من الاضطهاد.

«المجالد 2» لا ينطلق من العصر الهلنستي، بل بعده، من عصر الإمبراطورية الرومانية الذي ابتدأ سنة 27 قبل ميلاد المسيح. لقد حُسمت الحروب الأهلية والصراعات السياسية بانتصار أوكتافيان على ماركوس أنطونيوس وكليوباترا في معركة أكتيوم في عام 31 قبل الميلاد، والغزو اللاحق لمملكة البطالمة في مصر. في عام 27 قبل الميلاد، منح مجلس الشيوخ الروماني أوكتافيان سلطة عسكرية شاملة، مما يعني توليه العرش كأول إمبراطور روماني.

وعاش الناس في أول قرنين من عمر الإمبراطورية فترة من الاستقرار والازدهار غير المسبوقين تعرف باسم «السلام الروماني»، ومن ضمن الأباطرة الذين حكموا كان الإمبراطور ماركوس أوريليوس الذي دعا للفلسفة الرواقية. يحاول الفيلم تصويره على أنه جمهوري أوصى بالحكم من بعده لمجلس الشيوخ. بينما الأقرب للصحة أن شيئاً من هذا لم يحدث، وأنه أوصى بالحكم من بعده لولده كومودوس، وأنه قد نكّل بالمسيحيين أشد تنكيل.

مع القرب بين الفلسفتين إلا أننا نلحظ بينهما اختلافاً. ففي «الأبيقورية» تتحقق السعادة بالسعي وراء المتعة الذي يُفهم على أنه غياب الألم والقلق، وتدافع عن الملذات البسيطة والصداقة، والفكر باعتباره مفتاح حياة الرضا. بينما ترى «الرواقية» أن السعادة تكمن في الفضيلة والعيش وفق الطبيعة والعقل، وتنمية السلام الداخلي بغض النظر عن الظروف الخارجية، ولا يعطون الأولوية للمتعة. بدلاً من ذلك، يؤكدون على أن الفضيلة، ويعنون بها الحكمة والشجاعة والعدالة والاعتدال، هي الخير الحقيقي الوحيد، وأن الملذات الخارجية ليست ضرورية لحياة جيدة.

إدارة العواطف وفهمها ضرورية عند «الأبيقورية» لأنها يمكن أن تؤدي إلى الألم والاضطراب. ولذا تشجع على تنمية المشاعر الإيجابية متوسلة بالصداقة والتأمل الفلسفي. بينما تدعو «الرواقية» إلى السيطرة على العواطف ولا تدعو إلى ابتداع مشاعر إيجابية، بل تدعو إلى قبول ما هو كائن. المشاعر السلبية تنشأ من الأحكام الخاطئة، ولذا يجب على المرء أن يسعى جاهداً للحفاظ على الاتزان وقبول ما لا يمكن تغييره.

وتؤمن «الأبيقورية» بمادية الكون، متأثرة بالمذهب الذري. يعتقدون أن كل شيء مصنوع من ذرات، وأن الآلهة لا تتدخل في شؤون الإنسان. بينما يؤمن الرواقيون بعالم عقلاني منظم تحكمه سببية إلهية (لوغوس). إنهم يرون أن الكون مترابط ويؤكدون على أهمية قبول الفرد لمصيره كجزء من خطة عقلانية أكبر.

التركيز الأخلاقي في «الأبيقورية» يقوم على تكثير المتعة وتقليل الألم. ويتضمن ذلك دراسة متأنية لنتائج الأفعال على رفاهية الفرد ورفاهية المجتمع. فيما يقوم التركيز الرواقي على العيش الفاضل وقيام الفرد بدوره في المجتمع، وبالتصرف وفقاً للعقل والفضيلة، بغض النظر عن النتائج، هل هي سعيدة أم لا، وإن أدّت إلى حرمان الأم من ابنها.