«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

بعد إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية وسط تخبط المشهد السياسي

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا
TT

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

عند انتصاف النهار الأخير من الشهر الماضي كانت شاحنة ضخمة تحمل الأمتعة الخاصة لرئيس الجمهورية الإيطالية سيرجيو ماتاريلا متجهة من العاصمة روما إلى مسقط رأسه نابولي، حيث كان قرّر الانتقال بعد تسليم منصبه للرئيس الجديد الذي كان البرلمان ينتخبه منذ مطلع ذلك الأسبوع. ولكن في هذا الوقت بالذات، اتصل مدير المراسم في رئاسة الجمهورية بالسائق يطلب إليه العودة إلى العاصمة، لأن الرئيس قرّر البقاء سبع سنوات أخرى في منصبه.
حصل ذلك بعد دقائق من تجاوب ماتاريلا مع الطلب الملحّ الذي كان نقله إليه ذلك الصباح رؤساء الكتل النيابية لتجديد ولايته. وكان ماتاريلا قد أعلن مراراً وتكراراً رغبته عن تجديدها لأسباب خاصة ودستورية، إثر فشل البرلمان - ومعه السياسة الإيطالية برمتها - في انتخاب رئيس جديد، بعد ستة أيام. وجاء الفشل بعد سلسلة من الجلسات المتتالية التي كانت أشبه بمسرحية سوريالية تابعها الإيطاليون بين الدهشة واللامبالاة، والخيبة العميقة من الطبقة السياسية التي نادراً ما كانت في مستوى التحديات والاستحقاقات الكبرى.
وبانتخابه، أصبح ماتاريلا الرئيس الثالث عشر للجمهورية الإيطالية، والثاني الذي يجدد ولايته بعد سلفه جيورجيو نابوليتانو الذي وجد نفسه في وضع مماثل منذ تسع سنوات، عندما عجزت الأحزاب السياسية عن انتخاب خلف له، وطلبت منه تمديد الولاية لسنتين. وفي حين قوبل انتخاب ماتاريلا بارتياح واسع في الأوساط الشعبية، التي وجدت فيه مرة أخرى منقذاً من العقم السياسي الذي تتخبط فيه البلاد منذ عقود، تنفَّست العواصم الأوروبية الصعداء بعدما كانت تراقب بقلق عميق انحدار الشريك الإيطالي نحو هاوية جديدة في هذه المرحلة الحرجة.
وُلِد سيرجيو ماتاريلا، رئيس جمهورية إيطاليا، في صيف 1941، وترعرع في كنف أسرة ناشطة سياسياً ضمن صفوف حزب الديمقراطية المسيحية «الحزب الدولة» - أو «الحزب الديمقراطي المسيحي»، الذي هيمن على المشهد السياسي الإيطالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطالع ثمانينات القرن الماضي.
كان والده برناردو قد تولّى حقائب وزارية خمس مرات متتالية، في أعقاب توليه عدة مناصب برلمانية وتنفيذية في جزيرة صقلية. وبعد تخرّج سيرجيو في كلية الحقوق بجامعة روما، اتجه إلى التخصص في القانون البرلماني والدستوري والتدريس في جامعة باليرمو (كبرى مدن صقلية) عندما وقعت حادثة اغتيال شقيقه بيرسانتي. بيرسانتي كان رئيساً لمنطقة صقلية، وقد اغتيل على أيدي المافيا، مطلع عام 1980. ويومذاك كان سيرجيو على بُعد أمتار منه، وحاول يائساً إنقاذه بعد إصابته بست رصاصات داخل سيارته.

- مأساة جعلته سياسياً
تلك الحادثة المأساوية غيّرت مجرى حياة سيرجيو ماتاريلا، الذي قرّر على الأثر التخلي عن التدريس الجامعي والانصراف إلى السياسة. وبالفعل، ترشّح إلى الانتخابات البرلمانية للمرة الأولى في عام 1983، وظل عضواً في مجلس النواب حتى عام 2008. وإبان هذه المسيرة ترأس لجنتي الشؤون الدستورية والعلاقات الخارجية، كما تولّى وزارة العلاقات مع البرلمان، عام 1987، ثم شغل حقيبة وزارة التربية والتعليم عام 1989. وفي عام 1998، عُيّن نائباً لرئيس الوزراء، ثم وزيراً للدفاع حين أُلغيت على عهده الخدمة العسكرية الإلزامية.
كان ماتاريلا ينتمي إلى الجناح التقدمي في حزب «الديمقراطية المسيحية»، ذلك الجناح الذي كان المخرج السينمائي الشهير والناشط السياسي بيير باولو باسوليني - الذي اغتاله الفاشيون - يطلق عليه مسمى «اليسار الكاثوليكي». وبعد انفراط الحزب تحت وطأة فضائح الفساد التي كشفتها مجموعة قضاة «الأيادي النظيفة»، لعب ماتاريلا دوراً أساسياً في تشكيل حزب «الزيتون» الذي كان يضمّ التقدميين في «الديمقراطية المسيحية» إلى المعتدلين في الحزب الاشتراكي وبعض القوى اليسارية. وفي عام 2008، قرّر ألا يترشح للانتخابات، منهياً بذلك نشاطه السياسي، لينتخب بعد ذلك عضواً في المحكمة الدستورية عام 2011.
ولكن، في عام 2015، جاء انتخابه رئيساً للجمهورية مفاجأة لكثيرين. وتحقق هذا الأمر بعد الاتفاق الذي كان توصل إليه السياسي والملياردير اليميني سيلفيو برلوسكوني مع خصمه اليساري اللدود ماسّيمو داليما لانتخاب جوليانو داماتو (والثلاثة من رؤساء الحكومات السابقين). لكن رئيس الوزراء الشاب والنجم الصاعد في صفوف الحزب الديمقراطي ماتّيو رنزي فاجأ الجميع بترشيحه ماتاريلّا، الذي جرى انتخابه في الدورة الثالثة.
كانت ولاية ماتاريلا الأولى محفوفة بالمصاعب منذ بدايتها، إذ كانت تتعاقب على إيطاليا حكومات تتشكّل من تحالفات برلمانية هشّة، بعد مخاض طويل وعسير. وفي الوقت الذي كانت القوى اليمينية المتطرفة المناهضة للمشروع الأوروبي تصعد بسرعة في المشهد السياسي الإيطالي، كانت الأحزاب المعتدلة تواصل تشرذمها، وتتعمق الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ سنوات. مع هذا، أظهر الرئيس المخضرم الآتي من عمق التجربة الديمقراطية المسيحية قدرة عالية على الاعتدال والحياد والدفاع عن المؤسسات الدستورية، وكان على مسافة متساوية من جميع القوى السياسية المتناحرة في بلد تهوى أحزابه العمليات الانتحارية في أعصب الأوقات.

- ترنح الحكومات...وصعود اليمين
وجرياً على عادتها منذ قيام «الجمهورية الأولى»، شهدت إيطاليا خمس حكومات خلال الولاية الأولى لماتاريلا، الذي أوشك في إحدى المرات على تجاوز البرلمان، والدفع لتشكيل حكومة تكنوقراط منعاً لوصول الشعبويين واليمين المتطرف إلى الحكم. وبعد فترة من التوتر الشديد ذهب حزب «النجوم الخمس» الشعبوي، الذي يملك أكبر كتلة في البرلمان، حد التهديد بعزله، فيما كان زعيم «الرابطة» اليميني المتطرف ماتّيو سالفيني يكرر أن سرجيو ماتاريلا ليس رئيسه. غير أن ماتاريلا استطاع أن يستقطب تأييداً شعبياً واسعاً راح ينعكس تدريجياً على التفاف الأحزاب السياسية حوله، والتوافق عليه بوصفه الوحيد القادر على إخراج البلاد من المستنقع السياسي الذي وصلت إليه.
ومع أن النظام السياسي الإيطالي ليس رئاسياً، بل يحصر السلطات التنفيذية بيد رئيس الحكومة، فإنه يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات حساسة تكتسب أهمية كبيرة في الأزمات، مثل سلطات تعيين رئيس الحكومة وحل البرلمان والدعوة إلى إجراء الانتخابات العامة. وكان ماتاريلا قد لجأ إلى استخدام هذه الصلاحيات منذ بداية ولايته، عندما عيّن باولو جنتيلوني، وزير الخارجية الأسبق والمفوّض الأوروبي للشؤون الاقتصادية حالياً، لتشكيل حكومة وقطع الطريق أمام اليمين المتطرف الذي كان يدفع باتجاه الانتخابات المسبقة التي كانت الاستطلاعات ترجّح فوزه بها. وعندما توافق حزب «الرابطة» مع «النجوم الخمس» لتشكيل حكومة ائتلافية في ذروة هجوم القوى اليمينية المتطرفة على المشروع الأوروبي، رفض ماتاريلا إسناد وزارة الاقتصاد إلى بالو سافونا الذي كان ينادي بالخروج من نظام العملة الأوروبية الموحّدة.
في أول تصريح لماتاريلا بعد عودته عن قراره عدم التجديد، وتجاوبه مع طلب القوى البرلمانية قبول انتخابه لولاية جديدة، استخدم الرئيس الإيطالي «الثمانيني» عبارات قاسية مثل «الظروف العصيبة» التي تعيشها البلاد، بسبب الأزمتين الصحية والاقتصادية. وشدّد على «روح المسؤولية» لمواجهة «حالة الطوارئ» السياسية لتوصيف الحالة التي وصلت إليها إيطاليا.
وإذا كان انتخاب ماتاريلا لولاية ثانية مبعثاً للارتياح في الداخل والخارج، لما يمثّله من قدرة على الاعتدال والاستقرار، فهو أدى إلى المزيد من الانشقاقات داخل القوى الرئيسة في الائتلاف الحاكم وقياداتها المتنازعة. وكان أبرز الخاسرين في حصيلة المناورات على الجلسات البرلمانية الست لانتخاب الرئيس، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني الطامح لقيادة تحالف القوى اليمينية في الانتخابات المقبلة، الذي بدأ نجمه بالأفول بعدما تصدعت علاقته بحليفيه برلوسكوني وزعيمة حزب «إخوان إيطاليا» جورجيا ميلوني، التي تنافسه منذ أشهر على قيادة القوى اليمينية المتطرفة.
الخاسر الآخر كان جيوزيبي كونتي، رئيس الوزراء السابق والزعيم الجديد لحزب «النجوم الخمس»، الذي يتعرّض لخطر الانقسام الوشيك، بعد المواجهة الصدامية التي نشأت عن الانتخابات الرئاسية بين كونتي ووزير الخارجية وأحد رموز الحركة، لويجي دي مايو.

- خادم ومنقذ للديمقراطية
من ناحية أخرى، عندما قبل ماتاريلا بتجديد ولايته، وقال: «أنا مواطن في خدمة الجمهورية ولا أستطيع التنصّل من هذه المسؤولية»، كان يدرك أن قراره هذا قد يكون فرصة أخيرة لإعادة تشكيل النظام السياسي الإيطالي الذي يتهاوى منذ ثلاثة عقود. وهو النظام الذي جعل من إيطاليا الحلقة الأضعف بين الديمقراطيات الأوروبية، ومن حالة الطوارئ السياسية تعبيراً لازماً في قاموسها السياسي.
لكن السنوات السبع الأولى التي أمضاها ماتاريلا في رئاسة الجمهورية لم تقتصر على تجسيده المؤسسات الدستورية وحرصه الدؤوب على صونها والدفاع عنها في وجه المحاولات العديدة، والمستميتة أحياناً، لتجاوزها؛ فهو كان حريصاً أيضاً على إعادة الاعتبار للفئات الاجتماعية التي همّشتها السياسة في صراعاتها الطويلة والعقيمة من أجل البقاء والتوارث الذاتي. ومع مرور السنوات اكتسب الرئيس الهادئ تأييداً شعبياً كاسحاً كان يظهر بعفوية خلال تنقلاته، واحتراماً عميقاً في المحيط الأوروبي عبّرت عنه شهادات الدكتوراه الفخرية التي منحته إياها جامعات أوروبية مرموقة، والمدائح التي كانت تنهال عليه من نظرائه الأوروبيين.

- هل يكمل مدة رئاسته؟
ليس معروفاً بعد ما إذا كان ماتاريلا سيكمل السنوات السبع من ولايته الرئاسية الثانية، خصوصاً أنه تجاوز الثمانين من العمر، وكان صرّح مراراً بأنه راغب في الانكفاء عن النشاط السياسي. وليس من المستبعد أن يكتفي بسنتين فحسب من هذه الولاية حتى إجراء الانتخابات العامة المقبلة في ربيع عام 2023، وتشكيل الحكومة الجديدة، تمهيداً لوصول رئيس الوزراء الحالي ماريو دراغي إلى رئاسة الجمهورية. والمعروف على نطاق واسع أن دراغي يسعى للرئاسة ويتوافق الجميع على أنه المرشح الأمثل لتوليها، لكنه عزف عنها نزولاً عند الضغوط الأوروبية والدولية كي يبقى في رئاسة الحكومة حتـى إنجاز خطة الإنقاذ والإصلاحات الهيكلية التي فشلت إيطاليا في تحقيقها طوال العقود الثلاثة الماضية. وثمة اعتقاد بأن هذه المعادلة كانت في أساس الاتفاق بين ماتاريلا ودراغي عندما قبل هذا الأخير في العام الماضي تكليفه تشكيل الحكومة الحالية.
مقابل ذلك، من المحتمل أيضاً أن يكمل ماتاريلا ولايته حتى النهاية ليصبح الرئيس الذي أمضى أطول فترة في رئاسة الجمهورية الإيطالية، إذا ما قرر دراغي الترشح لمنصب رئيس المفوضية الأوروبية خلفاً لأورسولا فون در لاين، الرئيسة الألمانية الحالية للمفوضية، التي تتراجع حظوظها في تجديد ولايتها، خاصة بعدما فقدت دعم «عرّابتها» المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.
الذين يراهنون على بقاء ماتاريلا حتى نهاية ولايته يربطون ذلك ببعض الاستحقاقات الدستورية التي قد تنشأ عن البرلمان الذي ستتمخض عنه الانتخابات العامة المقبلة، ومنها تعديل الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب بعد المهازل المتكررة التي تسبب بها انتخابه من مجلسي النواب والشيوخ والرؤساء الإقليميين، فضلاً عن احتمال تعديل قانون الانتخاب الذي يشكّل بنداً دائماً على برنامج الأحزاب السياسية الإيطالية. ولا يستبعد هؤلاء أن ماتاريلا، الضليع في القوانين البرلمانية والدستورية، له رغبه في مواكبة هذه الاستحقاقات وتوجيه دفتها.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

الأردن... رئيس لا يجامل في مواجهة مجلس نواب برؤوس حامية

تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
TT

الأردن... رئيس لا يجامل في مواجهة مجلس نواب برؤوس حامية

تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)
تشكيلة الحكومة الأردنية الجديدة بحضور الملك عبدالله الثاني (وكالة الأنباء الأردنية بترا)

لم يُفسّر أحد «قلة اكتراث» الشارع الأردني أمام حدثين مهمين على المستوى المحلي: إذ بعد نتائج الانتخابات النيابية التي أُجريت في العاشر من سبتمبر (أيلول) الحالي وجاءت نتائجها بعكس جميع التوقعات الرسمية، تشكلت حكومة جديدة مُشبعة بمفارقات عدة، بدءاً من اختيار الرئيس، وليس انتهاءً بخريطة التشكيل سياسياً وديموغرافياً وجغرافياً. وحقاً، لم ينشغل أحد سوى الإعلام ونخبه السياسية ببث تحليلات متناقضة بين التبشير ونقص التفاؤل بالمرحلة. إذ يُعتقد وسط النخب أن جبهة المواجهة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية مقبلة، لا سيما وأن اختيار الفريق الوزاري سبق انعقاد مجلس الأمة ليصادر معه طموحات النواب الحزبيين بأن يكون لهم تأثير في اختيار الوزراء من بوابة «المشاورات» - التي درجت أحياناً ويعتبرها البعض «شكلية»، - الأمر الذي قلّص مساحات نفوذ الأحزاب الطامحة أمام منتسبيها والرأي العام.

اختيار جعفر حسّان رئيساً للحكومة الأردنية الجديدة كان مفاجأة لم تتوقعها الأوساط السياسية؛ كونه «رجل ظل مؤثراً» في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية خلف الكواليس، وذلك من خلال خدمته في فترتين مديراً للمكتب الخاص للعاهل الأردني (الفترة الأولى من 2014 - 2018، والفترة الثانية من عام (2021 - 2024)، بل، حتى وهو وزير في 6 حكومات، عُرف عنه زهده الإعلامي.

المقربون من حسّان يصفونه بأنه حاد الطباع، وإن خفتت هذه الصفة إبّان خدمته الأخيرة بالقصر الملكي. وهو منتظم بالعمل لساعات طويلة لدرجة يرهق معها مَن حوله، ثم أنه محسوب على نخب الاقتصاد أكثر من نخب السياسة، وقريب من تيار ينتمي إلى فكرة الإصلاحات الشاملة في البلاد، وهو التيار الذي أثّر بحسّان خلال فترته الثانية في خدمة الملك عبد الله الثاني.

أشبه بـ«تعديل موسّع»

لم تأتِ حكومة جعفر حسّان التي أدت اليمين الدستورية يوم 18 سبتمبر (أيلول) الحالي بأسماء من خارج صندوق الخيارات التقليدية؛ ما دفع بعض النقاد إلى اعتبار التشكيل أشبه بـ«تعديل موسع» على حكومة بشر الخصاونة، التي استقالت غداة إعلان النتائج النهائية لانتخابات أعضاء مجلس النواب في الجريدة الرسمية. ويأتي ذلك انسجاماً من أعراف أردنية تتعلق بمشاورات مراكز القرار المدنية والأمنية، وحسابات الجغرافيا والمحاصصة.

ولقد تحصّنت حكومة حسّان في تشكيلتها الجديدة بخبرات بيروقراطية وخبرات نيابية ونقابيّة سابقة تأهباً لـ«المواجهة المرتقبة» مع مجلس النواب الذي سيتعامل مع استحقاقين دستوريين في مطلع عهده، هما: مناقشة البيان الحكومي والتصويت على الثقة، واستحقاق مناقشة وإقرار قانون الموازنة العامة المُثقل بأرقام العجز وارتفاع سقوف خدمة المديونية الخارجية والداخلية. وكذلك سيتعامل مع مطالبات نيابية موسمية تُطالب بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، ومطالب اقتصادية لم يعد بإمكان الحكومات الاستجابة لها في ظل تنامي أرقام المديونية العامة وعجز الموازنة. وفضلاً عن هذا وذاك، فإن الرئيس الجديد المعروف عنه اقتصاده في المجاملة سيواجه بنواب عُرف عنهم الإسراف في المطالبات الخدمية.

من جهة ثانية، جاء احتفاظ حسّان بحقائب لعدد من الأصدقاء المقربين منه - وهو واقع استقرت عليه الأعراف السياسية في البلاد من حيث الاستعانة بالمعارف والثقات في اختيار الوزراء - فإنه لم يستطع تجاوز أسماء خلال الـ48 ساعة الماضية التي سبقت إعلان تشكيلة فريقه الوزاري، ولقد خصّ في تشكيلته ثلاثة أحزاب فقط من التي نجحت في الانتخابات الأخيرة.

قراءات أولية يصعب التنبؤ بنتائجها

استدعى جعفر حسّان من الخبرات النيابية السابقة كلاً من: المحامي عبد المنعم العودات، رئيس مجلس النواب الأسبق ورئيس اللجنة القانونية لدورات عدة، ليكون وزيراً للشؤون السياسية والبرلمانية، وخالد البكار، النائب السابق لدورات عدة وعضو مجلس الأعيان وزيراً للعمل، وخير أبو صعيليك، النائب السابق لدورات عدة ورئيس لجنة الاقتصاد والاستثمار في مجلس النواب لدورات عدة وزير دولة لتطوير القطاع العام. كذلك استعان حسّان بمصطفى الرواشدة، عضو مجلس الأعيان وأول نقيب لنقابة المعلمين (المُعطل عملها بموجب قرار قضائي) في البلاد وزيراً للثقافة، والنائب السابق يزن شديفات وزيراً للشباب.

جرى استدعاء هؤلاء في مواجهة مجلس النواب الجديد، بكتله الحزبية الوازنة التي تتقدّمها كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي»، كتلة «المعارضة الحرجة» الممثلة بـ31 مقعداً، إلا أن ما ينقصهم في خبرة العمل الحكومي، قد يعوّضه الوزير العائد والمحسوب على تيار البيروقراط الرسمي المهندس وليد المصري الذي عيّن وزيراً للإدارة المحلية. وكان المصري قد خدم رئيساً لبلدية إربد الكبرى، ثاني أكبر بلديات المملكة، ثم وزيراً في حكومات متعاقبة، ولقد نجح في تفريق جبهات المعارضة النيابية في ملفات عدة أيام مشاركته في حكومات عبد الله النسور، وهاني الملقي وعمر الرزاز خلال السنوات بين 2013 و2019.

وبين الخطوات المهمة كان الإبقاء على أيمن الصفدي، الوزير الأكثر شعبية في الحكومة السابقة بسبب تصريحاته القاسية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة وموقفه المعادي لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، نائباً للرئيس ووزيراً للخارجية، وأيضاً الاستعانة بعضو مجلس الأعيان محمد المومني صاحب لقب «أطول وزراء الإعلام بقاءً»؛ إذ عمل وزيراً خلال السنوات (2013 - 2018) مسجلاً حضوراً لافتاً في عدد من الأحداث الأمنية والسياسية التي عاشتها البلاد، ومعروف عنه دقة تصريحاته، ودبلوماسيته العالية في الإجابة عن أسئلة الصحافيين.

الأحزاب في البرلمان

وكما سبقت الإشارة، جاءت تشكيلة حكومة الرئيس حسّان كـ«أمر واقع» وفق موعد تكليفه، لتتجاوز فكرة المشاورات النيابية الحزبية غير المُلزمة؛ الأمر الذي ترك ظلالاً على فرص تشكيل حكومة «توافقات حزبية». وهذا ما يؤيده مناصرو فكرة منع «حرق المراحل»؛ إذ من المبكّر الذهاب لهذا الخيار في ظل غياب غالبية حزبية مؤثرة نيابياً. وبين المفارقات الرقمية والمحاصصات التقليدية ما يلي:

أولاً- توزّعت جغرافيا اختيار الفريق الحكومي تبعاً للتقاليد المحلية، فحظي شمال المملكة بحصة وازنة من الحقائب، وتمثل الجنوب بخمس حقائب وزارية، وكان للوسط حصة أعلى في الحقائب مما كان له في الحكومة السابقة، وذلك لصالح محافظتي العاصمة والبلقاء، في حين بقيت أرقام «كوتات» الشركس والمسيحيين من دون ارتفاع. وتَسقط هذه الحسابات إلا من جلسات النميمة السياسية في البلاد، بيد أنها لن تؤثر في ارتفاع منسوب النقاش المجتمعي بسبب ابتعاد الأردنيين عن سجالات المحاصصة والجهوية إذا كان أداء الفريق الوزاري جاداً في حل الأزمات الاقتصادية المتراكمة.

ثانياً - انخفض عدد النساء في الحكومة الجديدة إلى 5 سيدات، ولقد توزّعن على وزارات السياحة التي أسندت إلى لينا عناب، والتخطيط والتعاون الدولي لزينة طوقان، والتنمية الاجتماعية لوفاء بني مصطفى، والنقل لوسام التهتموني. وبقيت نانسي نمروقة في الحكومة الجديدة، لكن كوزيرة الدولة للشؤون الخارجية بعدما كانت تشغل حقيبة وزارة الدولة للشؤون القانونية في الحكومة السابقة. وفي المقابل، خرجت من الحكومة وزيرة الاستثمار خلود السقّاف، ووزيرة العمل ناديا الروابدة، ووزيرة الثقافة هيفاء النجار.

ثالثاً - أبقت الحكومة الجديدة على وزراء الخارجية أيمن الصفدي، والتربية والتعليم والتعليم العالي عزمي محافظة، ووزير الداخلية مازن الفراية، ووزير الأشغال ماهر أبو السمن، ووزير المياه رائد أبو السعود، والزراعة خالد حنيفات، والطاقة صالح الخرابشة، والأوقاف محمد الخلايلة، والصحة فراس الهواري، والبيئة خالد الردايدة، إضافة إلى الوزيرات الخمس. في حين انتقلت وزارة الإدارة المحلية من الوزير المخضرم توفيق كريشان إلى وليد المصري، والاتصال الحكومي من مهند مبيّضين إلى محمد المومني، ووزارة المالية من محمد العسعس لأمينها العام عبد الحكيم الشبلي، ووزارة الدولة للشؤون القانونية من نانسي نمروقة إلى فياض القضاة رئيس ديوان التشريع والرأي، ووزارة الدولة لشؤون رئاسة الوزراء من إبراهيم الجازي إلى عبد الله العدوان، ووزارة الدولة من وجيه عزايزة إلى أحمد العبادي، ووزارة الدولة للشؤون الاقتصادية من ناصر شريدة إلى مهند شحادة، ووزارة الاقتصاد الرقمي والريادة من أحمد الهناندة إلى سامي سميرات، والشؤون البرلمانية من حديثة الخريشا إلى عبد المنعم العودات، والعمل من ناديا الروابدة إلى خالد البكار، ووزارة الثقافة من هيفاء النجار إلى مصطفى الرواشدة، ووزارة الصناعة والتجارة من يوسف الشمالي إلى يعرب القضاة.

هذا، وبدلاً من وزير العدل أحمد زيادات دخل الفريق الحكومي بسام التلهوني - وهو الذي غادر ومعه وزير الداخلية السابق سمير مبيضين بتعديل طارئ من حكومة بشر الخصاونة بسبب مخالفتهما شروط وقواعد السلامة العامة المتبعة أثناء انتشار فيروس «كوفيد - 19» -، كما عاد إلى الحكومة وزيراً للاستثمار مثنّى الغرايبة بعد مغادرة خلود السقاف، وللعلم سبق للغرايبة العمل في حكومة عمر الرزاز (2018 - 2020)، وكان قبلها حراكياً نشطاً خلال سنوات الربيع الأردني. ولقد عادت السفيرة الأردنية لدى اليابان لينا عناب إلى موقعها وزيرة للسياحة بدلاً من مكرم القيسي، ويذكر أنها كانت قد استقالت من حكومة الرزاز، ومعها وزير التربية والتعليم عزمي محافظة، بعد فاجعة وفاة 22 طالباً وطالبة في البحر الميت بسبب الظروف الجوية ومخالفة تعليمات الرحلات المدرسية شتاء عام 2019.

جبهات حكومية مزدحمة المعارك

بناءً على ما سبق؛ من المتوقع أن يكون لحزب «جبهة العمل الإسلامي» (الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» غير المرخّصة في البلاد) فرصة لتحقيق مزيد من الشعبية من خلال مقاعده الـ31 في مجلس النواب العشرين؛ إذ يعتقد أن نواب الحزب سيسعون لتسجيل المواقف مسلحين بملَكة الخطابة ومتجهّزين بقراءات سابقة وتحضير جيد لجداول أعمال الجلسات النيابية الرقابية والتشريعية.

وبالفعل، بدأ استثمار الحزب مبكّراً في حصد الإعجاب الشعبي من خلال مطالباته بمواقف تصعيدية ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ودعوته إلى النزول للشارع بهتافات «تزايد» على الموقف الرسمي الذي حظي باحترام النخب السياسية بعد تقدّمه على عدد من المواقف العربية والدولية، ويتوقع أن يواصل نواب الحركة الإسلامية حصد المزيد من الشعبية على حساب موقع الحكومة المحاصرة بمحدّدات لا يمكن تجاوزها. ومن ثم، يتوقّع مراقبون أن تكون «عقدة المواجهة» المنتظرة بين نواب الحركة الإسلامية والحكومة هي مسألة نقابة المعلمين التي جمّد القضاء أعمالها منذ عام 2018، وجرى توقيف نقيبها وأعضاء من مجلسها، وهذا النقيب هو اليوم نائب فاز عن مقاعد الدائرة الحزبية المخصصة للأحزاب، وهو شخصية شاغبت كثيراً في ملف نقابة المعلمين وتعرّضت للتوقيف مرات عدة.

الإسلاميون... ومفاجأة الرسميين

> جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة «صادمة» لمراكز القرار السياسي في الأردن، وبالأخص بعد الكشف عن «زيف» بعض الدراسات والاستطلاعات التي أجرتها مؤسسات مجتمع مدني روّجت لقراءات داخلية تتعارض مع الواقع الذي ظهرت عليه النتائج النهائية. وكانت هذه قد أشارت إلى «محدودية» أصوات الحركة الإسلامية، وتنامي فرص أحزاب محسوبة على الخط الرسمي. لكن نتيجة كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي» جاءت بما لم يتوقعه أحد في أعقاب حصول مرشحيها على أكثر من 450 ألف صوت من أصل 1.65 مليون من المقترعين. ومقابل ذلك، جاءت نتائج أحزاب «الميثاق» 93680 ألف صوت، و«إرادة» 75121، والحزب الوطني الإسلامي 87519، و«تقدم» 61199، وهذه النتائج على مستوى الدائرة العامة المخصصة للأحزاب. من ناحية أخرى، بعيداً عن التلاوم بين «عرّابي العملية الانتخابية»، فإن قانون الانتخاب الذي أجريت بموجبه الانتخابات الأخيرة صعد بالجميع على الشجرة، فأمام حقيقة النتائج، فإن أي تعديل على القانون سيكون بمثابة «رِدة» على برنامج التحديث السياسي. وإذا بقي القانون على حاله، فإنه من المقرّر ارتفاع أرقام المقاعد الحزبية في البرلمان المقبل بنسبة 50 في المائة؛ وهو ما سيعني زيادة ضمنية لمقاعد الإسلاميين في المجلس المقبل، وهذا تحدٍ أمام «الدولة العميقة» التي تبحث عن تعدّدية متقاربة الأثر والدور والتنظيم. والحقيقة أن الإسلاميين كانوا مُدركين لحقيقة أرقامهم. فأي قانون انتخاب بصوتين: واحد لدائرة محلية حدودها الإدارية ضيقة وواحد آخر للدائرة العامة (الوطنية) المخصّصة للأحزاب... يعني مضاعفة حصصهم في عدد المقاعد. وهذا مع الوضع في الحسبان أن «مطبخ» إدارة العملية الانتخابية لدى الحركة الإسلامية، ابتعد تماماً عن مزاحمة مرشحيه في الدوائر المحلية، وركّز على «خزّانه التصويتي» في معاقله التاريخية. وهكذا حصل في الدوائر المحلية على 14 مقعداً في عشر دوائر محلية ترشّحوا عنها، وفي الدائرة العامة حصل على 17 مقعداً، مستفيداً من أصوات مجّانية حصل عليها من المحافظات ودوائر البدو المُغلقة ذات الصبغة العشائرية التي كانت تُحسب تاريخياً على المؤسسة الرسمية.