«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

بعد إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية وسط تخبط المشهد السياسي

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا
TT

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

عند انتصاف النهار الأخير من الشهر الماضي كانت شاحنة ضخمة تحمل الأمتعة الخاصة لرئيس الجمهورية الإيطالية سيرجيو ماتاريلا متجهة من العاصمة روما إلى مسقط رأسه نابولي، حيث كان قرّر الانتقال بعد تسليم منصبه للرئيس الجديد الذي كان البرلمان ينتخبه منذ مطلع ذلك الأسبوع. ولكن في هذا الوقت بالذات، اتصل مدير المراسم في رئاسة الجمهورية بالسائق يطلب إليه العودة إلى العاصمة، لأن الرئيس قرّر البقاء سبع سنوات أخرى في منصبه.
حصل ذلك بعد دقائق من تجاوب ماتاريلا مع الطلب الملحّ الذي كان نقله إليه ذلك الصباح رؤساء الكتل النيابية لتجديد ولايته. وكان ماتاريلا قد أعلن مراراً وتكراراً رغبته عن تجديدها لأسباب خاصة ودستورية، إثر فشل البرلمان - ومعه السياسة الإيطالية برمتها - في انتخاب رئيس جديد، بعد ستة أيام. وجاء الفشل بعد سلسلة من الجلسات المتتالية التي كانت أشبه بمسرحية سوريالية تابعها الإيطاليون بين الدهشة واللامبالاة، والخيبة العميقة من الطبقة السياسية التي نادراً ما كانت في مستوى التحديات والاستحقاقات الكبرى.
وبانتخابه، أصبح ماتاريلا الرئيس الثالث عشر للجمهورية الإيطالية، والثاني الذي يجدد ولايته بعد سلفه جيورجيو نابوليتانو الذي وجد نفسه في وضع مماثل منذ تسع سنوات، عندما عجزت الأحزاب السياسية عن انتخاب خلف له، وطلبت منه تمديد الولاية لسنتين. وفي حين قوبل انتخاب ماتاريلا بارتياح واسع في الأوساط الشعبية، التي وجدت فيه مرة أخرى منقذاً من العقم السياسي الذي تتخبط فيه البلاد منذ عقود، تنفَّست العواصم الأوروبية الصعداء بعدما كانت تراقب بقلق عميق انحدار الشريك الإيطالي نحو هاوية جديدة في هذه المرحلة الحرجة.
وُلِد سيرجيو ماتاريلا، رئيس جمهورية إيطاليا، في صيف 1941، وترعرع في كنف أسرة ناشطة سياسياً ضمن صفوف حزب الديمقراطية المسيحية «الحزب الدولة» - أو «الحزب الديمقراطي المسيحي»، الذي هيمن على المشهد السياسي الإيطالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطالع ثمانينات القرن الماضي.
كان والده برناردو قد تولّى حقائب وزارية خمس مرات متتالية، في أعقاب توليه عدة مناصب برلمانية وتنفيذية في جزيرة صقلية. وبعد تخرّج سيرجيو في كلية الحقوق بجامعة روما، اتجه إلى التخصص في القانون البرلماني والدستوري والتدريس في جامعة باليرمو (كبرى مدن صقلية) عندما وقعت حادثة اغتيال شقيقه بيرسانتي. بيرسانتي كان رئيساً لمنطقة صقلية، وقد اغتيل على أيدي المافيا، مطلع عام 1980. ويومذاك كان سيرجيو على بُعد أمتار منه، وحاول يائساً إنقاذه بعد إصابته بست رصاصات داخل سيارته.

- مأساة جعلته سياسياً
تلك الحادثة المأساوية غيّرت مجرى حياة سيرجيو ماتاريلا، الذي قرّر على الأثر التخلي عن التدريس الجامعي والانصراف إلى السياسة. وبالفعل، ترشّح إلى الانتخابات البرلمانية للمرة الأولى في عام 1983، وظل عضواً في مجلس النواب حتى عام 2008. وإبان هذه المسيرة ترأس لجنتي الشؤون الدستورية والعلاقات الخارجية، كما تولّى وزارة العلاقات مع البرلمان، عام 1987، ثم شغل حقيبة وزارة التربية والتعليم عام 1989. وفي عام 1998، عُيّن نائباً لرئيس الوزراء، ثم وزيراً للدفاع حين أُلغيت على عهده الخدمة العسكرية الإلزامية.
كان ماتاريلا ينتمي إلى الجناح التقدمي في حزب «الديمقراطية المسيحية»، ذلك الجناح الذي كان المخرج السينمائي الشهير والناشط السياسي بيير باولو باسوليني - الذي اغتاله الفاشيون - يطلق عليه مسمى «اليسار الكاثوليكي». وبعد انفراط الحزب تحت وطأة فضائح الفساد التي كشفتها مجموعة قضاة «الأيادي النظيفة»، لعب ماتاريلا دوراً أساسياً في تشكيل حزب «الزيتون» الذي كان يضمّ التقدميين في «الديمقراطية المسيحية» إلى المعتدلين في الحزب الاشتراكي وبعض القوى اليسارية. وفي عام 2008، قرّر ألا يترشح للانتخابات، منهياً بذلك نشاطه السياسي، لينتخب بعد ذلك عضواً في المحكمة الدستورية عام 2011.
ولكن، في عام 2015، جاء انتخابه رئيساً للجمهورية مفاجأة لكثيرين. وتحقق هذا الأمر بعد الاتفاق الذي كان توصل إليه السياسي والملياردير اليميني سيلفيو برلوسكوني مع خصمه اليساري اللدود ماسّيمو داليما لانتخاب جوليانو داماتو (والثلاثة من رؤساء الحكومات السابقين). لكن رئيس الوزراء الشاب والنجم الصاعد في صفوف الحزب الديمقراطي ماتّيو رنزي فاجأ الجميع بترشيحه ماتاريلّا، الذي جرى انتخابه في الدورة الثالثة.
كانت ولاية ماتاريلا الأولى محفوفة بالمصاعب منذ بدايتها، إذ كانت تتعاقب على إيطاليا حكومات تتشكّل من تحالفات برلمانية هشّة، بعد مخاض طويل وعسير. وفي الوقت الذي كانت القوى اليمينية المتطرفة المناهضة للمشروع الأوروبي تصعد بسرعة في المشهد السياسي الإيطالي، كانت الأحزاب المعتدلة تواصل تشرذمها، وتتعمق الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ سنوات. مع هذا، أظهر الرئيس المخضرم الآتي من عمق التجربة الديمقراطية المسيحية قدرة عالية على الاعتدال والحياد والدفاع عن المؤسسات الدستورية، وكان على مسافة متساوية من جميع القوى السياسية المتناحرة في بلد تهوى أحزابه العمليات الانتحارية في أعصب الأوقات.

- ترنح الحكومات...وصعود اليمين
وجرياً على عادتها منذ قيام «الجمهورية الأولى»، شهدت إيطاليا خمس حكومات خلال الولاية الأولى لماتاريلا، الذي أوشك في إحدى المرات على تجاوز البرلمان، والدفع لتشكيل حكومة تكنوقراط منعاً لوصول الشعبويين واليمين المتطرف إلى الحكم. وبعد فترة من التوتر الشديد ذهب حزب «النجوم الخمس» الشعبوي، الذي يملك أكبر كتلة في البرلمان، حد التهديد بعزله، فيما كان زعيم «الرابطة» اليميني المتطرف ماتّيو سالفيني يكرر أن سرجيو ماتاريلا ليس رئيسه. غير أن ماتاريلا استطاع أن يستقطب تأييداً شعبياً واسعاً راح ينعكس تدريجياً على التفاف الأحزاب السياسية حوله، والتوافق عليه بوصفه الوحيد القادر على إخراج البلاد من المستنقع السياسي الذي وصلت إليه.
ومع أن النظام السياسي الإيطالي ليس رئاسياً، بل يحصر السلطات التنفيذية بيد رئيس الحكومة، فإنه يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات حساسة تكتسب أهمية كبيرة في الأزمات، مثل سلطات تعيين رئيس الحكومة وحل البرلمان والدعوة إلى إجراء الانتخابات العامة. وكان ماتاريلا قد لجأ إلى استخدام هذه الصلاحيات منذ بداية ولايته، عندما عيّن باولو جنتيلوني، وزير الخارجية الأسبق والمفوّض الأوروبي للشؤون الاقتصادية حالياً، لتشكيل حكومة وقطع الطريق أمام اليمين المتطرف الذي كان يدفع باتجاه الانتخابات المسبقة التي كانت الاستطلاعات ترجّح فوزه بها. وعندما توافق حزب «الرابطة» مع «النجوم الخمس» لتشكيل حكومة ائتلافية في ذروة هجوم القوى اليمينية المتطرفة على المشروع الأوروبي، رفض ماتاريلا إسناد وزارة الاقتصاد إلى بالو سافونا الذي كان ينادي بالخروج من نظام العملة الأوروبية الموحّدة.
في أول تصريح لماتاريلا بعد عودته عن قراره عدم التجديد، وتجاوبه مع طلب القوى البرلمانية قبول انتخابه لولاية جديدة، استخدم الرئيس الإيطالي «الثمانيني» عبارات قاسية مثل «الظروف العصيبة» التي تعيشها البلاد، بسبب الأزمتين الصحية والاقتصادية. وشدّد على «روح المسؤولية» لمواجهة «حالة الطوارئ» السياسية لتوصيف الحالة التي وصلت إليها إيطاليا.
وإذا كان انتخاب ماتاريلا لولاية ثانية مبعثاً للارتياح في الداخل والخارج، لما يمثّله من قدرة على الاعتدال والاستقرار، فهو أدى إلى المزيد من الانشقاقات داخل القوى الرئيسة في الائتلاف الحاكم وقياداتها المتنازعة. وكان أبرز الخاسرين في حصيلة المناورات على الجلسات البرلمانية الست لانتخاب الرئيس، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني الطامح لقيادة تحالف القوى اليمينية في الانتخابات المقبلة، الذي بدأ نجمه بالأفول بعدما تصدعت علاقته بحليفيه برلوسكوني وزعيمة حزب «إخوان إيطاليا» جورجيا ميلوني، التي تنافسه منذ أشهر على قيادة القوى اليمينية المتطرفة.
الخاسر الآخر كان جيوزيبي كونتي، رئيس الوزراء السابق والزعيم الجديد لحزب «النجوم الخمس»، الذي يتعرّض لخطر الانقسام الوشيك، بعد المواجهة الصدامية التي نشأت عن الانتخابات الرئاسية بين كونتي ووزير الخارجية وأحد رموز الحركة، لويجي دي مايو.

- خادم ومنقذ للديمقراطية
من ناحية أخرى، عندما قبل ماتاريلا بتجديد ولايته، وقال: «أنا مواطن في خدمة الجمهورية ولا أستطيع التنصّل من هذه المسؤولية»، كان يدرك أن قراره هذا قد يكون فرصة أخيرة لإعادة تشكيل النظام السياسي الإيطالي الذي يتهاوى منذ ثلاثة عقود. وهو النظام الذي جعل من إيطاليا الحلقة الأضعف بين الديمقراطيات الأوروبية، ومن حالة الطوارئ السياسية تعبيراً لازماً في قاموسها السياسي.
لكن السنوات السبع الأولى التي أمضاها ماتاريلا في رئاسة الجمهورية لم تقتصر على تجسيده المؤسسات الدستورية وحرصه الدؤوب على صونها والدفاع عنها في وجه المحاولات العديدة، والمستميتة أحياناً، لتجاوزها؛ فهو كان حريصاً أيضاً على إعادة الاعتبار للفئات الاجتماعية التي همّشتها السياسة في صراعاتها الطويلة والعقيمة من أجل البقاء والتوارث الذاتي. ومع مرور السنوات اكتسب الرئيس الهادئ تأييداً شعبياً كاسحاً كان يظهر بعفوية خلال تنقلاته، واحتراماً عميقاً في المحيط الأوروبي عبّرت عنه شهادات الدكتوراه الفخرية التي منحته إياها جامعات أوروبية مرموقة، والمدائح التي كانت تنهال عليه من نظرائه الأوروبيين.

- هل يكمل مدة رئاسته؟
ليس معروفاً بعد ما إذا كان ماتاريلا سيكمل السنوات السبع من ولايته الرئاسية الثانية، خصوصاً أنه تجاوز الثمانين من العمر، وكان صرّح مراراً بأنه راغب في الانكفاء عن النشاط السياسي. وليس من المستبعد أن يكتفي بسنتين فحسب من هذه الولاية حتى إجراء الانتخابات العامة المقبلة في ربيع عام 2023، وتشكيل الحكومة الجديدة، تمهيداً لوصول رئيس الوزراء الحالي ماريو دراغي إلى رئاسة الجمهورية. والمعروف على نطاق واسع أن دراغي يسعى للرئاسة ويتوافق الجميع على أنه المرشح الأمثل لتوليها، لكنه عزف عنها نزولاً عند الضغوط الأوروبية والدولية كي يبقى في رئاسة الحكومة حتـى إنجاز خطة الإنقاذ والإصلاحات الهيكلية التي فشلت إيطاليا في تحقيقها طوال العقود الثلاثة الماضية. وثمة اعتقاد بأن هذه المعادلة كانت في أساس الاتفاق بين ماتاريلا ودراغي عندما قبل هذا الأخير في العام الماضي تكليفه تشكيل الحكومة الحالية.
مقابل ذلك، من المحتمل أيضاً أن يكمل ماتاريلا ولايته حتى النهاية ليصبح الرئيس الذي أمضى أطول فترة في رئاسة الجمهورية الإيطالية، إذا ما قرر دراغي الترشح لمنصب رئيس المفوضية الأوروبية خلفاً لأورسولا فون در لاين، الرئيسة الألمانية الحالية للمفوضية، التي تتراجع حظوظها في تجديد ولايتها، خاصة بعدما فقدت دعم «عرّابتها» المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.
الذين يراهنون على بقاء ماتاريلا حتى نهاية ولايته يربطون ذلك ببعض الاستحقاقات الدستورية التي قد تنشأ عن البرلمان الذي ستتمخض عنه الانتخابات العامة المقبلة، ومنها تعديل الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب بعد المهازل المتكررة التي تسبب بها انتخابه من مجلسي النواب والشيوخ والرؤساء الإقليميين، فضلاً عن احتمال تعديل قانون الانتخاب الذي يشكّل بنداً دائماً على برنامج الأحزاب السياسية الإيطالية. ولا يستبعد هؤلاء أن ماتاريلا، الضليع في القوانين البرلمانية والدستورية، له رغبه في مواكبة هذه الاستحقاقات وتوجيه دفتها.


مقالات ذات صلة

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

حصاد الأسبوع الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

تنطلق الأحد، الجولة الأولى من الانتخابات النيابية الفرنسية المبكرة، حيث دعي 49.5 مليون مواطن فرنسي للتوجه إلى صناديق الاقتراع بعد سنتين فقط من الانتخابات السابقة المماثلة. ولقد كان من المفترض أن تحصل هذه الانتخابات في العام 2027، بيد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نسف الأجندة الانتخابية بقراره ليل الأحد في التاسع من يونيو (حزيران) الحالي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. هذا الأمر أثار الذهول ليس في فرنسا وحدها، بل أيضاً داخل الاتحاد الأوروبي... لا، بل إن المستشار الألماني أولاف شولتس، المعروف بتحفظه، لم يتردد في التعبير عن «قلقه» إزاء ما ستحمله نتائج الانتخابات، وتخوّفه من تمكن اليمين المتطرّف ممثّلاً بـ«التجمع الوطني» ورئيسه الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 سنة فقط، إلى السلطة.

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع مارين لوبن (رويترز)

ماكرون: أنا موجود في الإليزيه حتى مايو 2027... ولن أخرج منه

> إزاء واقع الانسداد السياسي، لم تتردد مارين لوبن، زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف والطامحة في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، في دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون.

حصاد الأسبوع ستيفاني خوري

ستيفاني خوري... «خبيرة حل أزمات» تسعى إلى إنهاء «الانسداد السياسي» في ليبيا

دفع اختيار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري، نائباً للمبعوث الأممي إلى ليبيا، إلى الكلام عن مساعٍ للاستعانة بـ«خبيرة الأزمات» لإنهاء حالة «الانسداد السياسي» في ليبيا، التي لم تفلح معها جهود المبعوثين الأمميين السابقين على مدار أكثر من 13 سنة. ثم إن اختيار خوري، خلال مارس (آذار) الماضي «قائماً بأعمال المبعوث الأممي» هناك، أعاد إلى الأذهان الدور الذي لعبته مواطنتها ستيفاني وليامز قبل 4 سنوات عند اختيارها نائباً للمبعوث الأممي، ثم مبعوثة أممية في مارس 2020. وكانت وليامز قد أشرفت حينذاك على اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية»، والاتفاق على إجراء انتخابات كانت مقرّرة في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021، قبل تعثر تلك الخطوة.

أحمد إمبابي (القاهرة)
حصاد الأسبوع من جولات القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان (رويترز)

التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»... تمهيد للأسوأ أم للتسوية؟

انتقلت المواجهات بين «حزب الله» اللبناني وإسرائيل إلى مرحلة الحرب النفسية مع ارتفاع مستوى التهديدات بين الطرفين واستمرار العمليات التي تتصاعد حدّتها وتتراجع وفقاً لمسار المساعي التي تبذل لمنع توسّع الحرب إلى لبنان. اليوم، يستخدم كل من «حزب الله» وإسرائيل وسائل التهديد التي انتقلت من الشروط والشروط التفاوضية المضادة إلى الرسائل السياسية والعسكرية، التي وصلت إلى الإعلان عن «بنك أهداف» الحرب المقبلة؛ الأمر الذي يطرح جملة من «علامات الاستفهام» حول النيات الحقيقية خلفها، منها ما يراه البعض أنها ليست إلا سعياً لرفع سقف التفاوض ؛لأن لا مصلحة للطرفين بتوسيع الحرب، ولا قرار حاسماً بهذا الشأن.

كارولين عاكوم (بيروت)
حصاد الأسبوع حوار على الواقف بين هوكشتين مع بري في بيروت (آ ف ب/غيتي)

«الحرب النفسية» تنعكس توتّراً في لبنان

> على الرغم من أن أهالي جنوب لبنان يعيشون حرباً حقيقية، فإن اللبنانيين بشكل عام، ومعهم القطاعات الاقتصادية على اختلاف أنواعها، يعيشون على وقع مستوى التهديدات.


ستيفاني خوري... «خبيرة حل أزمات» تسعى إلى إنهاء «الانسداد السياسي» في ليبيا

ستيفاني خوري
ستيفاني خوري
TT

ستيفاني خوري... «خبيرة حل أزمات» تسعى إلى إنهاء «الانسداد السياسي» في ليبيا

ستيفاني خوري
ستيفاني خوري

تناوبَ على رئاسة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا دبلوماسيون وسياسيون من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية. وكانت «الاستقالة» هي السمة الغالبة التي صاحبت نهاية أعمالهم في البعثة الأممية؛ نتيجة لغياب أفق الحلول السياسية منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في 2011.

تعيين الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري نائباً لرئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، جاء إثر استقالة المبعوث الأممي عبد الله باتيلي في منتصف أبريل (نيسان) الماضي. ووسط حالة التعثر هذه، بدت خوري خلال الأسابيع الماضية وكأنها تصارع الزمن بلقاءات مع الأفرقاء الليبيين، في مسعى للدفع قُدماً بالعملية السياسية، وإنهاء حالة الانقسام الداخلي، وتحقيق المصالحة والسلام.

خوري، التي تتسلح بخبرة في أزمات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هدفها الرئيسي في مهمتها الأممية بليبيا، تيسير «عملية سياسية وطنية شاملة يقودها الليبيون»، كما قالت في إحاطتها الأولى لها أمام مجلس الأمن أخيراً، عند سردها نتائج مشاورات أجرتها مع الأفرقاء الليبيين خلال الأسابيع الأخيرة. لكن ثمة تساؤلات مطروحة إزاء قدرة الدبلوماسية الأميركية على تهيئة الأجواء السياسية الكفيلة بتجاوز اختبار الانتخابات المقرّرة نهاية العام الحالي، والتعاطي مع التناقضات والتوازنات بين الأفرقاء، وسط استمرار تنافس القوى الدولية على أدوار ومكانة في الداخل الليبي.

من هي ستيفاني خوري؟ستيفاني خوري، دبلوماسية أميركية تتحدّر من أصول لبنانية، وهي تتكلّم اللغتين العربية والإنجليزية. وعلى الصعيد الأكاديمي، حصلت على درجة البكالوريوس في الآداب من جامعة تكساس الأميركية، ودرجة الإجازة في القانون من الجامعة ذاتها، وعملت أيضاً باحثة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. وفي سجلّها العملي، مارست خوري جهوداً طيبة لدعم عمليات السلام والاستقرار عبر التعاون مع عدد من المنظمات غير الحكومية، منها منظمة «البحث عن أرضية مشتركة»، وهي منظمة دولية غير حكومية مقرها في واشنطن، وتُعنى بتعزيز جهود السلام والاستقرار، ويمتد نشاطها لنحو 33 دولة حول العالم. وأيضاً تمتلك خوري خبرة واسعة في أزمات المنطقة، حيث تمتد مسيرتها المهنية لأكثر من 30 سنة في دعم العمليات السياسية ومباحثات السلام والوساطة.

خبرة أمميةلقد اقتربت خوري أكثر من قضايا المنطقة، من واقع مهام عملية مع الأمم المتحدة على مدى أكثر من 15 سنة، خصوصاً في الدول العربية التي تشهد صراعات خلال السنوات الماضية، خصوصاً في كل من العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن والسودان. بل كانت قد عملت في وقت سابق مع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا خلال الفترة ما بين 2011 و2013، ثم عُيّنت ممثّلة عن مكتب المستشار الخاص للأمم المتحدة في العاصمة اليمنية صنعاء، ومديرة لمكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة في العاصمة اللبنانية بيروت، وممثلة لمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا.

وفي السودان، شغلت خوري منصب القائم بأعمال بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة، خلال الفترة الانتقالية في السودان عام 2021، ثم مدير الشؤون السياسية للبعثة الأممية في السودان عام 2022. وبعد ذلك عادت خوري إلى البعثة الأممية في ليبيا مرة أخرى، عبر اختيارها من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، نائباً للممثل الخاص للشؤون السياسية في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، خلال شهر مارس الماضي، وقادت مهام مبعوث الأمم المتحدة، بعد استقالة باتيلي من هذا المنصب.

في المقابل، على الرغم من كل هذه الخبرات الواسعة في العمل الأممي، فإن مراقبين يرون أن خوري لم تحقق أي إنجاز أو تسوية سياسية في أي من دول النزاع التي خدمت فيها. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى إخفاقها وقت أزمة «الفترة الانتقالية» في السودان، عام 2021، في تجاوز الخلاف بين «المكونَين العسكري والمدني» للحكم الانتقالي بالسودان وقتها. إذ رأت أن دور البعثة الأممية يتمحور حول «الاستماع إلى أصحاب المصلحة السودانيين، وتوثيق رؤاهم ومقترحاتهم في هذه المرحلة».

استعادة الثقةيذكر، أن ستيفاني خوري هي عاشر مسؤول دولي تُسند إليه مهام البعثة الأممية في ليبيا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي. وهي تتولى المهمة في خضم ارتفاع أصوات النقد إلى البعثة بحجة عجزها عن تحريك «الجمود» المطبق على العملية السياسية، بعد فقدان أطراف ليبية الثقة في دورها الداعم لإيجاد تسوية سياسية للأزمة. وبالإضافة إلى ذلك، تعاني البعثة في ليبيا من حملها إرثاً غير مشجّع من إخفاقات المبعوثين الأمميين، ولهذا فهي تسعى الآن أولاً إلى استعادة الثقة المفقودة في دور بعثة الأمم المتحدة، كي لا تلقى مصيراً مثل مصائر أسلافها من المبعوثين.

من جهة ثانية، ليست خوري الأميركية الوحيدة التي تولت مهام البعثة الأممية في ليبيا، فكما سبقت الإشارة، سبقتها ستيفاني وليامز، التي حظيت جهودها بإشادة أممية بعد دفعها خريطة الانتخابات، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية» عام 2021. ويتوقع المراقبون أن تعيد «ستيفاني الثانية» الدور ذاته الذي لعبته مواطنتها، لا سيما، إذا توافر دعم كافٍ من الإدارة الأميركية يتحقّق من خلاله اختراق للمشهد السياسي الليبي. بيد أن هذه التوقعات، تقابَل بتصريحات لعديد من السياسيين الليبيين، تقلل من قدرتها على إحداث تغيير بالعملية السياسية الليبية في ضوء تعقيدات «النفوذ الدولي»، وتأثيره في عناصر الأزمة الليبية.

تحديات بالجملةوحقاً، تصطدم مهمة خوري بمجموعة من التحديات والاختبارات الصعبة: أبرزها القدرة على إحداث حلحلة للمشهد السياسي المجمّد، وإنهاء حالة الانقسام السياسي الداخلي، وإقناع أطراف الأزمة بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة منذ عام 2021، لإخراج ليبيا من مراحلها الانتقالية المتتالية. وهي اليوم تعمل على جمع الأفرقاء الليبيين على طاولة حوار أملاً بإنهاء حالة «الفوضى» القائمة بسبب تنافس حكومتين على السلطة. والمعروف أن «الحكومة الأولى»، التي تسيطر على غرب ليبيا ويرأسها عبد الحميد الدبيبة، كانت قد شُكّلت إثر حوار سياسي مطلع 2021. و«الحكومة الثانية» تسيطر على شرق البلاد ويرأسها أسامة حماد، وهي مكلّفة من مجلس النواب ومدعومة من قائد «الجيش الوطني الليبي» خليفة حفتر.

وفي سبيل ذلك، رسمت خوري «خريطة طريق» لمهمتها في رسالة مصورة بثتها البعثة الأممية عبر صفحاتها على منصات التواصل في مايو (أيار) الماضي. وتعهدت خوري فيها «بمساندة الليبيين على تجنيب البلاد مخاطر الانقسام والعنف وهدر الموارد، من خلال تيسير عملية سياسية شاملة يملكها ويقودها الليبيون أنفسهم، بمَن فيهم النساء والشباب ومختلف المكونات». كذلك أكدت التزام البعثة بالعمل على «دعم إجراء انتخابات وطنية شاملة حرة ونزيهة لإعادة الشرعية للمؤسسات الليبية، ودعم عملية مصالحة وطنية شاملة مع كل الشركاء، والعمل مع الليبيين على التنفيذ الكامل والمستدام لاتفاق وقف إطلاق النار».

مشاورات سياسيةوطوال الأسابيع الماضية، كثفت خوري لقاءاتها مع الأفرقاء في مناطق عديدة بين الشرق والغرب الليبيَّين، ونشرت عبر حسابها بمنصة «إكس»، إفادات عن نتائج المشاورات. وللعلم، شملت اللقاءات والمشاورات رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفّي، ورئيس حكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، والقائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» خليفة حفتر، ويضاف إلى هؤلاء «المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا» وممثلو الأحزاب الليبية ونشطاء مدنيون، وكذلك أجرت خوري مشاورات مع سفراء دول أجنبية لدى ليبيا. وقالت خوري لاحقاً إنها ناقشت «سبل الخروج من الانسداد الراهن والدفع بالعملية السياسية للأمام، وتهيئة الظروف المواتية لإجراء الانتخابات، وتعزيز اتفاق وقف إطلاق النار والحفاظ على وحدة ليبيا وسيادتها».

الإحاطة الأولىوفي الإحاطة الأولى التي قدمتها خوري أمام مجلس الأمن حول الأوضاع في ليبيا، أخيراً، تكلمت عن مشروع «عملية سياسية شاملة يقودها الليبيون» لتخطي الجمود السياسي الراهن، و«حاجة الليبيين لاتفاق سياسي، يمهّد لإجراء انتخابات ذات مصداقية». وترى المسؤولة الأممية وجود فرصة لدفع عملية المصالحة الوطنية في ليبيا. وهي تستند في ذلك إلى اتفاق «المجلس الرئاسي» الليبي ومجلس النواب على مشروع قانون واحد للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، لكنها في الوقت ذاته ترى خطورة في «هشاشة الوضع الليبي» في مواجهة تحديات عديدة، أهمها وضعية الانقسام الداخلي بوجود مؤسسات حكم موازية. وإلى جانب مسار الحل السياسي، تسعى خوري إلى دفع عملية إجراء انتخابات محلية، خصوصاً مع إطلاق اللجنة الوطنية العليا للانتخابات، أخيراً، عملية تسجيل الناخبين للانتخابات البلدية في 60 بلدية في جميع أنحاء ليبيا، إلى جانب العمل على تمكين أكبر للشباب والمرأة.

الصراع الدوليعلى صعيد آخر، هناك مَن يرى أن «واقع النفوذ الدولي في ليبيا يجعل خيارات خوري في التعامل مع الأزمة الليبية محدودة». ويربط مراقبون بين الاستعانة بها في البعثة الأممية، والتحولات في السياسة الأميركية تجاه الأزمة الليبية، إذ ثمة مَن يرى أن «واشنطن تعول على دورها في مواجهة المنافسة من بعض القوى الدولية التي تشهدها الساحة الليبية، خصوصاً النفوذ الروسي والتركي والفرنسي، وبذلك تبقى قضية النفوذ الدولي، إحدى الإشكاليات، التي يجب على خوري مواجهتها».

وعبّر عن تلك الإشكالية، وكيل وزارة الخارجية بالحكومة الليبية «المؤقتة»، حسن الصغير، حين أشار عبر حسابه الشخصي على «فيسبوك» إلى أن «تعيين ستيفاني خوري نائباً للمبعوث الأممي يعيد الصراع بشكل رسمي ومباشر من صراع إقليمي لصراع دولي»، لكنه عدّ ذلك في الوقت نفسه «من شأنه سرعة الوصول لانفراجة ولو مرحلية بالملف الليبي». اقتربت أكثر من قضايا المنطقة من واقع مهامها العملية

مع الأمم المتحدة على مدى أكثر من 15 سنة