«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

أنظمة هشّة وتنافس دولي وإرهاب... عثرات على طريق الديمقراطية

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا
TT

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

«عدوى الانقلابات» تتسارع في غرب أفريقيا

مثل عدوى الوباء الذي تصعب السيطرة عليه، باتت الانقلابات العسكرية تضرب، بوتيرة متسارعة، دول غرب القارة الأفريقية، واحدة تلو أخرى، إذ وقعت خلال 10 أشهر فقط 3 انقلابات عسكرية ناجحة، آخرها الإطاحة برئيس بوركينا فاسو، روك مارك كريستيان كابوري، نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، بخلاف محاولات أخرى لم يكتب لها النجاح بعد. الأمر الذي عدّه بانكولي أديويي، مفوض السلم والشؤون السياسية بالاتحاد الأفريقي «سابقة تاريخية»، خلال قمة الاتحاد الأخيرة في أديس أبابا، مطلع فبراير (شباط) الحالي. ويُذكر أن الاتحاد الأفريقي يعلّق الآن وفق تقويمه السنوي عضوية 4 دول، هي مالي، وغينيا، وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى السودان.
إن متتبع الأحداث وراصد تلك الانقلابات الأفريقية، يجد أنها تحمل صورة متكرّرة ونمطية، تبدأ بغضب شعبي يسيطر عليه العامل الاقتصادي بشكل رئيس، ممزوجة باتهامات الفساد... ويعقبها تحرك لقادة بالجيش الوطني يحتجزون عبره رئيس البلاد أو الحكومة، ويعطلون العمل بالدستور والمؤسسات الحاكمة كافة، مع التعهد بإقامة نظام ديمقراطي دستوري خلال فترة زمنية، عادة ما يصار إلى تجاوزها وسط انتقادات دولية.

في حين تحدث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي عن دور لـ«الإرهاب»، كأحد مسببات موجة الانقلابات الأخيرة في أفريقيا، يرى مراقبون أن ثلاثية (الأنظمة الهشة، والتنافس الدولي، وانتشار الجماعات الإرهابية) عوامل رئيسة وراء فشل تجارب الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في كثير من دول القارة. ويضاف إليها إرث قديم من الانقلابات لم تتخلص منه القارة السمراء، ما ينذر بمرحلة حرجة لعمليات «التسوية الديمقراطية»، في ظل رفض إقليمي ودولي شامل لتلك الانقلابات.
ثمة عدد من العوامل تدعم المسارات المؤهلة لسياق الانقلابات العسكرية في أفريقيا، خاصة الجزء الغربي منها، الذي يوصف بأنه «بؤرة انقلابات»، في مقدمتها كما تشير الدكتورة إيمان زهران، خبيرة العلاقات الدولية والأمن الإقليمي «هشاشة الدولة الوطنية، بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية لفشل تجارب الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي التي بدأت منذ مطلع التسعينات، خاصة أن التجارب الديمقراطية في مجملها لم تتمكن من تحقيق احتياجات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، بل إنها اتجهت في الغالب إلى إضفاء الشرعية على سيطرة المجموعات العرقية والقبَلية ومراكز القوة الداخلية والخارجية، وهو ما أفضى تدريجياً إلى الخلل بالعلاقات المتباينة بين أنظمة الحكم والقاعدة الاجتماعية بتلك الدول».
نقطة أخرى تؤثر بشكل مباشر في مسار التطورات السياسية الأخيرة، تحدثت عنها زهران لـ«الشرق الأوسط»، تتعلق بنمط «المجموعات الإرهابية المسلحة». إذ تقول زهران إنها أصبحت «أحد أبرز العوامل التي تسهم في التأزم السياسي» بالمنطقة، لعدد من الاعتبارات، أبرزها؛ ضرب حالة «السلم المجتمعي» في تلك الدول، وذلك عبر توظيف ورقة «التنوع الإثني والديني والقبلي»، بما يخدم أجنداتها المتطرفة نحو تأجيج الفتنة وإشعال الصراعات الداخلية. وأيضاً ما يتعلق بـ«عسكرة الحياة السياسية»، وذلك عبر الانتقال النوعي من نظام التشكيلات الحزبية التقليدية إلى نظام الميليشيات الحزبية، وهو ما أمكن رصده بمجمل التطورات السياسية الأخيرة في الغرب الأفريقي.
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، ترى خبيرة العلاقات الدولية أن ثمة عاملاً مهماً آخر يجدر النظر إليه وإعادة تقييمه، في إطار إعادة إنتاج الأدوار الدولية المتباينة بالقارة الأفريقية، أو ما يُعرف بـ«الكولونيالية الجديدة». وهنا تضرب زهران مثَلاً بما يُساق راهناً في تقييم النشاط الروسي الجديد في غرب أفريقيا الذي يسعى لتوظيف مشاعر السخط ضد التدخل الغربي، وبالأخص التدخل الفرنسي. وهو يستغل في هذه الحالة هذا التدخل ويضعه ضمن إطار استمرار الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي لدول المنطقة؛ بينما تسعى موسكو - في المقابل – إلى تقديم نفسها على أنها قوة فاعلة في استراتيجية مواجهة الإرهاب والدفاع عن الأنظمة الموالية وضمان الاستقرار بالمنطقة، وهو ما قد يدفع إلى التحول في شكل الصراع، إذ لن يقتصر فقط على مدارات الانقلابات العسكرية، بل سيتخطى الأمر حاجز صراعات النفوذ وتقاسم المناطق بين الفواعل الدولية بالقارة الأفريقية.

- انتشار العدوى
بعيداً عن الظروف الاقتصادية والسياسية المتردية في دول القارة التي تشهد تلك الانقلابات، ثمة عامل إضافي يساعد على انتشارها هو «العدوى»، كما يشير المحلل السياسي ألكسندر أونوكو، في موقع «كوارتز أفريكا» Quartz Africa، الذي أرجع انقلاب بوركينا فاسو الأخير إلى «تجرؤ الجنود الناتج عن رؤيتهم نجاح الانقلابات في دول أخرى مثل مالي وغينيا»، إلى جانب العوامل التقليدية لفشل الحكم. ويرى أونوكو أنه «نظراً لنجاح هذه الانقلابات، تولّد إحساس لدى الجنود الذين يفكرون في محاولات الانقلاب بأنهم مفوضون لفعل ذلك، وصحيح قد يساعد هذا في تفسير سبب جرأة جنود بوركينا فاسو على الإطاحة بكابوري، إلا أنه لا يلغى أن بوركينا فاسو لديها تاريخ من الانقلابات، بما في ذلك 4 على الأقل خلال سنوات الثمانينات وحدها، التي شهدت صعود وسقوط البطل القومي توماس سانكارا».
ثم يضيف أونوكو عنصراً عزز إمكانية انتشار «العدوى»، حسب اعتقاده، وهو أن اندلاع ما بات يعرف بـ«الربيع العربي» في شمال أفريقيا والشرق الأوسط أدى إلى هجرة جماعات متطرفة تجاه النيجر وتشاد ومالي، ما ساعد على تعزيز التمرد المسلح في هذه البلدان. وبدءاً من عام 2016، ساعد التنافس بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» في تفاقم الاضطرابات. وهنا يشير إلى أن انقلاب بوركينا فاسو حدث «في وقت خطير للغاية من الهجمات الإرهابية المتزايدة»؛ حيث أسفر هجوم واحد وقع في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن مقتل 53 شخصاً، من بينهم 49 من ضباط الشرطة العسكرية. وباختصار، ازدادت وتيرة الهجمات الإرهابية في عهد كابوري رغم تعهد الأخير، منذ توليه السلطة عام 2015، بتكثيف الجهود لمكافحة الإرهاب.

- نهج انقلابي تاريخي
أعادت الانقلابات الأفريقية المتتالية خلال الأشهر الأخيرة، في مالي وغينيا وتشاد وبوركينا فاسو، وكذلك السودان، التذكير بحقبة الاضطرابات التي عاشتها القارة في الماضي، بعدما شهدت تحسناً نسبياً في العقدين الأخيرين. فقد سجلت أفريقيا منذ عام 1950 نحو 222 محاولة لقادة بالجيش للإطاحة بالحكومات من إجمالي 494 محاولة في العالم، منها 21 محاولة منذ عام 2015، ولقد حقق نحو 38 في المائة من هذه المحاولات النجاح، فتمكنت من تغيير رأس السلطة، وكان السواد الأعظم منها في إقليمي الغرب والوسط الأفريقيين، وذلك بحسب «إنتر ريجونال للتحليلات الاستراتيجية».
ولعل عام 2020 كان بداية المرحلة الجديدة لعودة هذه الظاهرة إلى قارة أفريقيا؛ بعد غياب منذ عام 2017. ذلك أن 2020 شهد بمفرده 12 محاولة انقلابية من أصل 13 محاولة على مستوى العالم، كان آخرها الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الأسبق روبرت موغابي في زيمبابوي في نوفمبر 2017، بعدها شهدت الأنظمة السياسية في القارة «استقراراً نسبياً» حتى بداية النصف الثاني من عام 2020، الذي وقع فيه انقلاب عسكري في مالي يوم 18 أغسطس (آب) أدى إلى الإطاحة بالرئيس الأسبق إبراهيم أبو بكر كيتا.
بعد ذلك، جاء عام 2021 ليسجل أكبر عدد من المحاولات الانقلابية؛ بلغ عددها 6 محاولات، نجح منها 4، بدءاً من انقلاب تشاد يوم 20 أبريل (نيسان) حين أقدم المجلس العسكري الانتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي - الذي كان آنذاك قائداً للحرس الرئاسي – على حل الحكومة والجمعية الوطنية (البرلمان) بعد وفاة الرئيس الأسبق إدريس ديبي، ووعد بإقامة انتخابات حرة وديمقراطية في غضون سنة ونصف سنة.
أيضاً شهدت مالي انقلاباً عسكرياً بقيادة آسيمي غويتا في 24 مايو (أيار)، وتلتها غينيا (غينيا كوناكري) التي نالت حظها بانقلاب بقيادة العقيد مامادي دومبويا في سبتمبر (أيلول) أطاح بالرئيس الأسبق ألفا كوندي. وأخيراً، شهد السودان تحرّكاً في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بقياده الفريق أول عبد الفتاح البرهان - الذي يقود مجلس السيادة في إطار المرحلة الانتقالية – ونجم عن هذا التحرّك حل مجلس السيادة والحكومة برئاسة عبد الله حمدوك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السودان بوجه عام يعدّ أكثر دولة أفريقية شهدت محاولات استيلاء على السلطة وانقلابات، بلغت نحو 17 محاولة، نجح 6 منها.
أما على مستوى العام الحالي، الذي لم يمضِ منه سوى شهر ونصف شهر، فقد شهدت القارة محاولتين انقلابيتين في دولتين من دول غرب أفريقيا؛ الأولى كانت ناجحة في بوركينا فاسو، التي تمتلك بدورها إرثاً من الانقلابات العسكرية، إذ شهدت 8 انقلابات ناجحة، ومحاولة واحدة فاشلة منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. أما الثانية، في جمهورية غينيا بيساو، وهنا لم تنجح محاولة الانقلاب العسكري. وفي هذا الشأن، نشير إلى أن غينيا بيساو (غينيا البرتغالية سابقاً)، تعد أيضاً من أكثر البلدان عرضةً للخضّات السياسية والعسكرية، إذ إنها شهدت 4 انقلابات ناجحة و16 محاولة فاشلة منذ استقلالها عن البرتغال خلال عام 1974.

- إدانات غير مجدية
الواضح أن مدبّري الانقلابات، في معظم الحالات، كانوا يستبعدون مسبقاً إمكانية أن يدين المجتمع الدولي أفعالهم بأيّ طريقة ذات مغزى. بل إنهم كانوا يدركون أن الأمر سيتوقف في نهاية المطاف عند حدود الإدانة، وربما فرض عقوبات.
«ولكن في النظام الدولي، الذي يعيش حالة حرب باردة ثانية، سيجد هؤلاء سنداً وحماية من بعض القوى الدولية الصاعدة»، كما يشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة حمدي عبد الرحمن. وهنا يلفت الأكاديمي المصري إلى «صعوبات عدة تواجه إدانة الانقلاب في الجانب الأميركي مثلاً؛ حيث تنص المادة 508 من قانون المساعدة الخارجية على أن الولايات المتحدة مُطالَبة بتعليق مساعداتها للدول التي تشهد انقلاباً عسكريّاً. إلا أن الإدارة الأميركية تتردد كثيراً في استخدام وصف الانقلاب خوفاً من اتجاه هذه الدول نحو المنافسين الدوليين مثل روسيا والصين، وكلاهما يمكن أن يعرقل تحرك مجلس الأمن الدولي من خلال استخدام حق النقض».
هذا، وكان الاتحاد الأفريقي قد أعرب خلال قمته الأخيرة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عن إدانته «بلا لَبْس» ما وصفه بـ«موجة الانقلابات العسكرية» التي حدثت أخيراً في القارة. وقال المفوض بانكولي أديويي: «أدان كل قيادي أفريقي في المجموعة بلا لبس (...) موجة تغيير الحكومات بصورة مخالفة للدستور». وأردف: «لن يتسامح الاتحاد الأفريقي مع أي انقلاب عسكري بأي شكل كان»، مذكّراً أن مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي علّق عضوية الدول التي شهدت انقلابات.
كذلك، قال أديويي معلقاً على «مبادرة إسكات البنادق»، إنه بعد نقاشها من طرف القادة الأفارقة تبين أنه «لا يمكن إسكات البنادق وتحقيق السلام في القارة من دون حكم رشيد». وأشار في السياق ذاته إلى أن الحكم الرشيد مرتبط بشكل وثيق بتكريس الديمقراطية ومنع الانقلابات العسكرية، فقال: «سنعمل ما في وسعنا كمفوضية مع القادة الأفارقة لمنع هذه الانقلابات وتعزيز الهياكل الأمنية بدول القارة»، وحذّر في الوقت عينه من أن تتحول منطقة غرب أفريقيا إلى «بؤرة» للانقلابات العسكرية.
من جهة ثانية، درج الاتحاد الأفريقي منذ فترة على أن يبني مواقفه من الانقلابات العسكرية والصراعات السياسية، على المواقف التي تتخذها المنظمات الإقليمية في القارة؛ حيث تتكتل دول القارة الأفريقية ضمن عدة مجموعات اقتصادية في غرب ووسط وشرق وجنوب القارة. وتلعب هذه التكتلات أدواراً مهمة في تسيير الأزمات الداخلية للدول، وتحظى بدعم قوي من الاتحاد الأفريقي، بصفتها «أداة أفريقية لتقديم حلول أفريقية لمشكلات أفريقية»، ولكن، كما ترى الدكتورة إيمان زهران فإن «فكرة التقويض ومحاصرة حركة الانقلابات القائمة أمر غير مُجدٍ في ظل غياب آليات رادعة لمثل تلك التحولات السياسية، فضلاً عن ضعف وتراخى المنظمات الإقليمية أمام تلك الأحداث، وفي مقدمتها الاتحاد الأفريقي».
أخيراً، كان قد صدر ميثاق أفريقي عام 2014، بشأن قيم ومبادئ اللامركزية والحكم المحلي والتنمية المحلية، ووقّعت عليه 17 دولة فقط، في حين صدقت عليه 6 دول فقط. ولعل ذلك ما «يجعل القِيَم الأساسية التي يؤكّد عليها مثل الاستجابة والشفافية والمساءلة والمسؤولية المدنية مجرد حبراً على ورق»، وفق زهران، التي تتوقع أن «تشهد الانقلابات العسكرية – على الأخص في منطقة غرب أفريقيا – مزيداً من التوسع لتشمل دولاً أخرى تتشابه أوضاعها الداخلية الهشة، مثل النيجر وكوت ديفوار وغامبيا وتوغو».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.