محمد الفيتوري.. شعرية الصرخة

تنوعت في شعره وارتبطت بحرية الإنسان

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري
TT

محمد الفيتوري.. شعرية الصرخة

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري

تشكل شعرية النشيد المدار الفني لتجربة الشاعر محمد الفيتوري الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي، وتتوثق علائقها بشكل لافت في فضاء الصرخة الإنسانية، وقد عانق شعره تجليات هذه الصرخة، في مستويات هبوطها وصعودها من السطح إلى القاع، وتحتها تراكمت خبرته، وتنوعت في سياقات معرفية جمة، مكنته من الاحتفاظ دوما بمقدرة العودة إلى الجذور لرحم الصرخة.
في نشيده الأول، والذي يشكل مدار طفولته الشعرية، اتسمت الصرخة بدفقة ثورية بكر، بدت وكأنها نابعة من أزمنة سحيقة، لكن ظل اللعب الفني على السطح، سطح اللغة والحالة والرؤية، هو الشكل الملائم لغواية فتى، كان كلما نظر إلى المرآة تحولت سمرته، أو بمعنى أدق «زنجيته» إلى قيود وسياط تلاحق خطواته وتتربص له في الخيال والحلم، وهو ما جعل دواوينه الأولى المبكرة «أغاني أفريقيا» و«عاشق من أفريقيا» و«اذكريني يا أفريقيا» بمثابة شلال من الصرخات الموجوعة بنضال إنسان القارة السمراء في التحرر من الاستعمار، ونيل حقوقه في الحرية والكرامة والعدل.
ولأن شعرية النشيد تتميز بإيقاع مجلجل وجرس موسيقي له رنين جذاب على الأذن، أذكر وأنا صغير أحبو فوق شطوط الشعر واللغة، أنني كنت مشغوفا بهذا النمط من الشعرية، بل أحيانا كنت أتصبب عرقا وأنا أقرأ نماذج منها، كنت أحبس نفسي بين جدران الغرفة، حتى يمكنني القراءة بصوت عال، والاستمتاع بصدى الصوت، وهو يرتد إليّ، وينزلق فوق صدري كرذاذ شفيف.. إنها شعرية تلامس الحنجرة دوما، وقد ساعدتني هذه القراءة في هضم الكثير من تراث الشعر العربي، لكن في حالة الفيتوري، كنت أشعر دائما أنني إزاء صرخة تدوي في أفق بعيد، إزاء منشد شعبي، يستطيع أن يهز الناس جسدا وروحا، لذلك بقي الفيتوري في ذاكرة الشعرية العربية، بقوة الصرخة والنشيد معا، فتحت مظلتيهما هتف: «يا أخي في الشرق، في كل سكن / يا أخي في الأرض، في كل وطن / أنا أدعوكَ.. فهل تعرفني؟ / يا أخا أعرفه.. رغم المحن / إنني مزقت أكفانَ الدجى / إنني هدمت جدران الوهن / لم أعد مقبرة تحكي البلى / لم أعد ساقية تبكي الدمن / لم أعد عبد قيودي / لم أعد عبد ماض هرم عبد وثن / أنا حي خالد رغم الردى / أنا حر رغم قضبان الزمن / فاستمع لي.. استمع لي / إنما أذن الجيفة صماء الأذن».
لم يخفت نشيد الفيتوري، فبمرور السنين وتحولات مجرى الشعر والحياة، نضج سؤال الفتى الأفريقي الأسود، ومشت في قصيدته السمراء مياه ورياح كثيرة، نضجت الفكرة والمعرفة، واكتسبت حرقةُ الشك وجمرةُ اليقين حيرةَ الوجود ومتاهة الحلم، غادرت الصرخة السطح البكر، انخرط النشيد في دوائر أوسع، ارتدى قناع الأغنية، خلع الشاعر رداء المنشد العفوي التلقائي، ابتعد قليلا عن صوت الجماعة التي تلتف وتتحلق حوله، وانشغل الفيتوري بالهم العربي العام، بجراحات لا تندمل في مملكة الدم الواحد، وخطاب شعري، استحلب أقصى طاقات الغنائية والتحريض والهجاء السياسي. جسدت صرخة الفيتوري في هذا السياق محنة الإنسان العربي، فغني لأطفال الحجارة في فلسطين «ليس طفلا ذلك القادم في أزمنة الموتى إلهي البشارة / ليس طفلا وحجارة / ليس بوقا من نحاس ورماد / ليس طوقا حول أعناق الطواويس محلى بالسواد / إنه طقس حضارة». وغنى للشهداء في سيناء وبيروت، ورافقت قصيدته صعود المقاومة الوطنية ضد أنظمة تكرس للتسلط والقمع والتواطؤ على حساب مقدرات وأشواق وأحلام شعوبها.. هذا التسلط عبر عنه الفيتوري، موحدا بين الخاص والعام، باحثا عن براءة الحلم وسط ركام من صكوك الإدانة، وفي ظل مشهد مأساوي يساوي بين الجلاد والضحية، وكما يقول الشاعر نفسه:
«عربات الموتى المذهبة الصفراء
تدوس على قلبي المخضوضر
تغرس في حوافرها
ذات الوهج السوداء
والقتلى يبتهلون بأوجههم
يبكون.
هذه المدائن الخرساء، لم تخذل الفيتوري، انتصرت لصرخته الأولى «أصبح الصبح، فلا السجن ولا السجان باق». وانتفضت لصرخته، حين مسها اليأس والحبوط، ورفضت أن تتحول هذه الصرخة إلى مرثية، أو أن ترتد إلى صدر الشاعر نفسه حين جرب اللعب مع السلطة وابتلى بأقنعتها، ورأى كيف تحاك خيوط المؤامرات والتواطؤات في دهاليزها: «كان الدجى عباءة. صلوا على الجلاد والضحية / وقالت الحرية / أولهم آخرهم. صلوا على الإنسان والحرية. وقالت القضية / يا فقراء استيقظوا / صلوا على الخائن والقضية.‏
تحصنت الصرخة بيقينها البكر، تقلصت المسافة بين الحلم وبين الذاكرة، بين شطح البصر ووعي البصيرة، أصبحت القصيدة تمتلك القدرة على النفي والإثبات، وأصبح النشيد معجونا بالأمل، متشبثا بإرادة الحياة، أصبح شاهدا على غد آخر سوف يأتي.. ومن ثم:
«فهذا هو الدم العربي
الذي يتدفق عطشان
من فجوات الجراح
إلى فجوات الشوارع».
اغترب الفيتوري وتنقل بين عدد من العواصم العربية والمدن الأوروبية، وواجه خلال ذلك الترحال الكثير من العثرات والصعاب، لكنه استطاع بإعادة القراءة والتأمل أن يحيِّد فكرة الشعور بالمنفى، معتزا بقصيدته باعتبارها سكنه الأول، ونقطة الضوء في النفق المعتم.
في هذا المناخ مسك الفيتوري بخيوط الصوفية، والتي تمثل أجلى وأعمق مراتب صرخته الشعرية، فهي اللحظة التي يتوحد فيها السطح بالعمق وينكشفان بمحبة خالصة تحت فضاء القصيدة، هي اللحظة التي تنصهر فيها الذات بموضوعها، وتتلبسه ككقناع شفيف، تنحل تحته ثنائيات الوجود، والفواصل العميقة للزمن في العناصر. وفي رأيي أن هذه الصوفية، بكل تموجاتها، تمثل استراحة شاعر، عارك الشعر، ووضعه على محك الجرح الإنساني العام، لكنه ظل طفلا يغمغم فوق سرير اللغة والإيقاع. وكان لافتا أن تتشرب هذه الصوفية بنفس سوريالي، يمنح القصيدة كمعطى روحي قواما ماديا وفنيا، حينئذ تصبح الصرخة معولا لتفكيك أدغال الأفكار والرؤى والكلمات، ومن ثم، يتحول الهم الصوفي إلى فعل تمرد، على القصيدة والذات والوجود.. فهكذا من تحت عباءته الصوفية يحلم الفيتوري قائلا:
«لو أن الجسد الملقي على كرسيه
مال قليلا
لاستيقظت من نومها مدينة النحاس
واستغرق الحراس في البكاء والضحك
فزائر الموت الذي زار سليمان الملك
كان ثقيلا
وسليمان الملك
مات طويلا».
لقد ولد الفيتوري بقوة الشعر، وحين تفتحت عيناه واشتد عوده ووعيه بالدنيا، كان محيطه الأفريقي، مسقط رأسه ومرتع صباه ينزف في براثن الظلام والاستعمار والقمع والاستبداد. وكان عليه حينذاك أن يوحد بين صرخته الطفولية الغضة، وبين صرخة أخرى لا تعرف الهدوء أو المساومة، أكثر عمقا واتساعا ودويا، وهي صرخة الشاعر الثائر، الذي يتخذ من قصيدته سلاحا ضد الظلم والطغيان ورفيق درب في النضال، حتى صار الشعر صديقا حميما يبثه نجواه وهمومه، ويرى فيه مرآته الحقيقية، من دون تزييف أو رتوش.
انحاز الفيتوري لأفريقيا لأحلامها وأشواق شعوبها في العدل والحرية، وظلت أفريقيا كأسطورة وحلم، وأغنية، وصرخة، ومعجزة، تلازمه كظله، في تجواله وترحاله في صخبه وصمته، ظلت تخطف الروح والجسد معا، وتهزهما في طقوس واحتفالات وعادات وتقاليد حية، نابعة من ثقافة عريقة شديدة الخصوصية والندرة، تنفك فيها العقد والفواصل السميكة في الزمن والعناصر والأشياء. فلا فرق، بل لا فواصل، لا مسافة في شعره بين أفريقيا وبين الحبيبة العشيقة، أو بينها وبين شمس الطهر والطهارة، أو بينها وبين إشراقة الصبح حين تخب من تحت ركام الظلام. أفريقيا كراسة النور والأمل، لا تشع فقط من شقوق الأرض وفجوات السنين، وإنما تنصهر وتعرج بمحبة الحياة إلى قدسية السماء، إنها محراب الناسك، وعباءة العراف، وورد الصوفي.. وعلى حد قول الفيتوري نفسه: «من أجلكِ يا أفريقيا يا ذاتَ الشمسِ الزنجيّة / يا أرض الأيام الحيَّة / يا أغنيةً في شفتيَّ.. / صوتُك هذا؟ إنني أكادُ أن ألمسُهُ / أكادُ أن أنشُق من غصونه رائحةَ الأرض وعرقَ الجباه / صوتُكِ يا أفريقيا صوتُ الإله».
في ظل كل هذا، تفرد قاموس الفيتوري الشعري، وأضاف إلى لغة الشعر الكثير من المفردات الطازجة الخاصة، كان من أبرزها مفردات الأبيض والأسود، أو الأبيض والزنجي، وما يرشح تحتهما من تدرجات الظل واللون والرائحة، لقد توحدت هذه المفردات في قصيدة الفيتوري وتزاوجت وانصهرت مع بعضها بعضا ليس فقط باعتبارهما متوالية فنية تحرر اللوحة التشكيلية من نمطيتها وفراغها الرخو، وإنما باعتبارهما سلاحا لهتك الثنائيات الضدية العقيمة في لوحة الوجود والعدم، ولدحض سياسة القمع والتعسف والتمييز العنصري ضد إنسان أفريقيا، صاحب الأرض والتاريخ والحلم.
وقبل أن يصرخ محمود درويش بأعوام طويلة في قصيدته الشهيرة «سجل أنا عربي / ورقم بطاقتي خمسون ألف»، كان الفيتوري يصرخ في قصائده صرخة لا تكتفي بالتحريض والتمرد على قيد العبودية، وإنما صرخة هوية واحتجاج ضد الوجود، وسياسة الإزاحة والتهميش قائلا: «أنا زنجي وأبي زنجي الجَدِّ / أنا أسودُ... لكني أمتلكُ الحرّية / أرضي الأبيض دنَّسَها / فلأمضِ شهيدًا وليمضوا مثلي شهداءَ أولادي / لأن وجهي أسودُ ولأن وجهك أبيض سمَّيْتني عبدا / ووطئت إنسانيِّتي فصنعت لي قيدا».
ومثلما انحاز الفيتوري لأنشودته الأفريقية، كنقطة للخلاص والأمل انحاز أيضا لأقنعته ورموزه، غمر في مياهها روحه، ليمنح جسده ومضا من الدفء والحيوية، ويكسب جسد القصيدة معنى التواصل مع الماضي في لحظاته الحميمة الخلاقة، فلا بأس وهو الشاعر أسمر البشرة، أن يلبس في لحظة استثنائية على المستوى النفسي والتاريخي قناع الفارس الشاعر عنتر بن شداد. لكنه يحتفظ بمسافة فنية بينه وبينه، حتى يستطيع أن يخلع القناع في الوقت المناسب، حريصا على ألا يقع في أسر الشخصية. الأمر نفسه مع المغني الأميركي الزنجي «بول روبنسون»، باعتباره أحد المناضلين ضد العنصرية، لقد اتخذ الفيتوري من هؤلاء مجرد غلالة لتكثيف طبقات المعنى والدلالة في القصيدة، وأيضا كنافذة يطل منها على نفسه، في مرآة الآخر، صاحب الحلم والمعاناة المشتركة.
إن منجز الفيتوري، الشعري لا يزال بحاجة إلى الاهتمام النقدي الحقيقي من الحركة النقدية العربية، بعيدا عن النظرة الإنشائية التقليدية، والتي راجت في الكثير من الدراسات النقدية عنه، سواء في موطن مولده السودان، أو في ليبيا التي شكلت المدار الطويل لرحلته في العمل على الصعيدين الثقافي والدبلوماسي، أو في مصر التي تشكل فيها جزء حميم من وعيه الثقافي والمعرفي والتعليمي، وجعلته يردد بأسى في الكثير من حواراته الصحافية «أنا في الحقيقة شاعر أنتمي إلى الفكر والثقافة المصريين وكذلك التراث المصري، ولا أعلم لماذا يتجاهلون هذا». وهو ما تجسد في شعره، وكأنه وصيته الأخيرة في الحياة:
«سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي ليس يسكن قبرا».



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.