عاد مبنى في وسط برلين الشرقية بمنطقة ألديرسهوف، ليتحوّل إلى مركز «صراع إعلامي» بين الغرب وروسيا، تماماً كما كان الحال أيام «الحرب الباردة». هذا المبنى كان مقراً للقناة الرسمية التابعة لـ«جمهورية ألمانيا الديمقراطية (أي الشرقية)» التي أسسها الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، وظلت تبث الدعاية السوفياتية حتى ما بعد سقوط جدار برلين قبل 33 سنة، إلى أن توقفت عن البث عام 1991.
اليوم، تحوّل المبنى إلى مقر قناة «آر تي - دي إي» - أي «روسيا اليوم - دي إي» - التي عُرفت في البداية بـ«رابتلي دويتش»، وهي قناة روسية ناطقة بالألمانية ومموّلة من الدولة الروسية. بيد أن القناة التي باشرت البث كمحطة إخبارية على مدار اليوم، من مركزها في برلين الشرقية خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لم تصمد لأكثر من أشهر قليلة. ذلك أنه بعد أيام على بدء البث على قناة «يوتيوب»، أغلق «يوتيوب» القناة لأسباب تتعلق بنشر أخبار كاذبة حول فيروس «كوفيد - 19». وتبعتها السلطات الألمانية المتخصّصة بمنح تراخيص بث، بإطلاق إجراءات قانونية ضد القناة لوقف بثها عبر القمر الصناعي «يوتلسات» وعلى منصاتها الأخرى. ثم يوم الأربعاء الماضي، صدر القرار أخيراً بوقف بث القناة الروسية الناطقة بالألمانية «لكونها لا تستوفي شروط البث من ألمانيا».
القرار أثار غضباً كبيراً في موسكو، ودفع الكرملين إلى الرد بإغلاق مكتب قناة «دويتشه فيله» الألمانية في موسكو، مع أن القناة الألمانية مموّلة من أموال دافعي الضرائب في ألمانيا وليس من الحكومة الألمانية، كما الحال مع القناة الروسية. ومن ثم، على الرغم من «الصرخة» الإعلامية والسياسية العالية في ألمانيا ضد الرد الروسي «غير المتوازن»، فإن مكتب القناة الألمانية في موسكو أغلق أبوابه، وعاد الموظفون الذين هم بمعظمهم من الروس، إلى منازلهم.
موقف وزارة الخارجية الألمانية
وزارة الخارجية الألمانية، التي تقودها زعيمة حزب «الخضر» السابقة أنالينا بيربوك، انتقدت قرار السلطات الروسية، معتبرة أن «لا أساس له، ويزيد من العبء على العلاقات الألمانية - الروسية». ورأت في بيان لها، أن القرار «سيقلص بشكل كبير عمل الصحافيين المستقلين في روسيا، وهو أمر بالغ الأهمية في حقبة زمنية يسودها التوتر السياسي». وشدّد بيان الخارجية الألمانية على «رفض مقارنة (دويتشه فيله) بقناة (روسيا اليوم - دي إي)»، مشدداً على أن القناة الألمانية «تعمل كقناة مستقلة» ولديها التراخيص اللازمة للعمل من موسكو، في حين تبث القناة الروسية «من دون ترخيص، ولم تتقدم للحصول على ذلك رغم أنه شرط أساسي للبث». وأيضاً نفت وزارة الخارجية أن يكون للقرار أي ارتباط سياسي، مشيرة إلى أن سلطات البث المخوّلة هي التي اتخذت قرار حظر القناة الروسية الناطقة بالألمانية، وأن الحكومة «لا تأثير لها» على القرار.
الجدير بالذكر، يطلب القانون الألماني التقدم للحصول على رخصة بث للقنوات التي تريد البث من داخل الأراضي الألمانية، كما أنه يحظر القنوات المرتبطة بحكومات ودول. وبالفعل، فإن القناة الروسية لم تتقدم للحصول على طلب بث كهذا، كان سيرفض أصلاً لكون تمويلها يأتي مباشرة من الدولة الروسية. ولكن القناة المذكورة تزعم أن الرخصة التي حصلت عليها للبث من صربيا، المعروفة بقربها من الكرملين، تسمح لها بالبث في أوروبا على القمر الصناعي «يوتلسات».
في المقابل، رفضت هيئة منح التراخيص الألمانية ذلك، متحججة بأن المقر الرئيسي للقناة يقع في العاصمة الألمانية برلين، وليس في موسكو، ما يعني أن عليها التقدم للحصول على طلب بث من برلين. وللعلم، حاول القيّمون على المحطة الروسية الحصول على ترخيص للبث في أوروبا من لوكسمبورغ في صيف العام الماضي، لكن الدولة الأوروبية الصغيرة رفضت الطلب، وقالت صراحةً إن منح هكذا ترخيص هو من اختصاص برلين؛ حيث المقر الرئيسي للمحطة.
من ناحية ثانية، رغم أن الجدل دخل في تفاصيل القوانين الألمانية والأوروبية، ومدى قانونية منعها المحطة من البث، فإن البعد السياسي لا شك يلقي بظلاله على القضية. فالاستخبارات الألمانية وصفت في عام 2019 محتوى قناة «روسيا اليوم - دي إي» بأنه «أداة للبروباغاندا (الدعاية) الروسية». ووفق تقرير الاستخبارات، فإن هدف الموقع «التأثير على الشعب الألماني بما يخدم روسيا». وهنا نذكر، أن موقع القناة الروسية الناطق بالألمانية بدأ النشر عام 2014، ثم تطوّر ليبث محتوى فيديوهات على الصفحة نفسها وعلى «يوتيوب»، إلى أن أصبح قناة إخبارية متواصلة البث في نهاية العام الماضي.
وتصف الاستخبارات الألمانية عمل قناة «آر تي دويتش» - كما كان اسم الموقع آنذاك - بأنه «بالغ الأهمية» بالنسبة لروسيا في عملها بالتأثير في عدة مواضيع. ومن بين هذه المواضيع تعدد الاستخبارات الألمانية «إحداث ضرر في سمعة الناتو وتصويره على أنه أداة مغتصبة للسلطة»، إضافة إلى تصوير روسيا على أنها «مسالمة» بينما الولايات المتحدة هي «المعتدية». وتضيف في هذا السياق أمثلة حول شبه جزيرة القرم التي تحاول القناة الروسية تصويرها على أنها جزء من روسيا وليست أرضاً مقتطعة من أوكرانيا. كذلك، في السنوات التي تلت، تحدثت الاستخبارات الألمانية عن «مساعي» القناة الروسية «لتقليص الثقة بالمؤسسات الديمقراطية بالإضافة الى ترويج نظريات المؤامرة»، وكل هذا كجزء من حملة منظمة تديرها الدولة الروسية.
تقرير «دير شبيغل»
وبالتوازي مع هذا الأمر، نشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية تقريراً مطولاً خلال العام الماضي عن القناة الروسية وعملها داخل ألمانيا ومدى ارتباطها بالكرملين. وادعت المجلة أن القناة توظف لديها وتستضيف من هم بشكل أساسي من المنتمين للحزب الشيوعي السابق في ألمانيا. وهو الحزب الذي تحول اليوم إلى حزب «دي لينكه» اليساري المتطرف. وبالمناسبة، فإن المنتمين لهذا الحزب من أعضاء وسياسيين يحملون عادة أفكاراً إيجابية عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويدافعون عن سياساته.
وأيضاً، ذكرت المجلة الألمانية التي تتخذ من مدينة هامبورغ مقراً لها، في تقريرها، أن سياسيين من اليمين المتطرف هم أيضاً من ضيوفها المفضلين، مثل السياسي بيورغ هوكي، المتهم بأنه من «النازيين الجدد»، وكان قد أثار جدلاً كبيراً في الماضي بتشكيكه بالهولوكست (أي المحرقة النازية). واتهمت المجلة القناة الروسية بأنها «تروّج للأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة وتقوّض الحقائق».
وبحسب «دير شبيغل»، فإن نسبة مشاهدي القناة الروسية ارتفعت منذ جائحة «كوفيد - 19»، خصوصاً بين المؤمنين بـ«نظريات المؤامرة» لترويجها مثل هذه النظريات. كذلك اعتبرت المجلة الألمانية أن موقع القناة الروسية الناطق بالألمانية «تحوّل إلى أهم مصدر أخبار» بالنسبة لمجموعات ألمانية تضم مشككين بحقيقة الجائحة ويعارض أفرادها إجراءات الحكومة لاحتواء نفشي الفيروس. ولقد أفادت في هذا الإطار بأن القناة تغطي التظاهرات الدورية المعارضة لإجراءات «كوفيد - 19» في ألمانيا «بدرجة أكبر» من القنوات الألمانية الأخرى، مشيرة كذلك إلى أن وكالة أنباء «رابتلي» للخدمات التلفزيونية المرتبطة أيضاً بالدولة الروسية، تبث بثاً حياً من التظاهرات.
«دير شبيغل» نقلت أيضاً عن مصدر في الاستخبارات الألمانية الداخلية قوله إن «روسيا اليوم - دي إي» ووكالة «رابتلي» وشركة الإنتاج «ريد فيش» التابعة أيضاً للدولة الروسية، «تشكّل خطراً على الديمقراطية»... ولقد استنتجت الدولة الروسية أن بإمكانها استخدام هذه المنصات لتحقيق «تأثير ووصول»، وقوله صراحةً إن المنصات تستخدم «في مضاعفة الحملات التضليلية».
آراء الأحزاب الألمانية
وفي حين ما لا تجد القناة صعوبة في استضافة السياسيين الأقرب لوجهة نطر الكرملين، كالمنتمين للحزبين المتطرفين اليساري «دي لينكه» واليميني «البديل لألمانيا»، فإن مقاربتها للسياسيين من الأحزاب الوسطية أكثر حذراً. ومع أن القناة الروسية استضافت سياسيين من مختلف الأحزاب الألمانية، كانت نسبة هؤلاء أقل بكثير من ضيوفها من الحزبين المتطرفين. ولقد نقلت «دير شبيغل» عن متحدث باسم الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي)، الذي يشارك اليوم في الحكومة الائتلافية، قوله إن الحزب لم يقرر بعد ما إذا كان سيردّ على طلبات مقابلات يتلقاها من القناة، بل إن هناك خشية من الظهور في محطة «تروّج لدولة تحت شعار الحيادية... وهذا أمر يشكل خطراً على جودة وصحة الخطاب السياسي».
أما حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي تنتمي إليه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، فقال متحدث منه إنه «يرد على كل طلبات المقابلات، لكنه لا يعتبر القناة الروسية محطة إخبارية»، مضيفاً في تصريحات للمجلة الألمانية، أن هدف المحطة بوضوح هو «التغطية من طرف واحد والتضليل الإعلامي». وفي حين نفى الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الحاكم أن يكون لأعضائه أي تجاوب مع طلبات المحطة، قال حزب «الخضر» إنه يتعاطى مع الطلبات التي يتلقاها من القناة الروسية «بحذر».