«نهاية الحب»: المجرم الأول هو الحرية الجنسية في المجتمعات الاستهلاكية

تبدو إيفا إيلوز شديدة التشاؤم من الحالة التي انتهت إليها العلاقات العاطفية

إيفا إيلوز
إيفا إيلوز
TT

«نهاية الحب»: المجرم الأول هو الحرية الجنسية في المجتمعات الاستهلاكية

إيفا إيلوز
إيفا إيلوز

التحرر الجنسي، تفكك العلاقات العائليّة، انتشار الطلاق، تضاعف أعداد الأفراد الذين يعيشون وحيدين، انتشار مواقع التعارف، العلاقات عبر الإنترنت، تجارة الأجساد... وغيرها من مظاهر الاضمحلال الأخلاقي في الغرب ليست سوى -وفق إيفا إيلوز في كتابها الذي صدرت للتوّ طبعته الورقيّة «انتهاء الحب: سوسيولوجيا العلاقات السلبيّة»- أعراض وانعكاس مباشر لتغوّل ثقافة الرأسماليّة المتأخرة وتفشى النزعات الاستهلاكية.
وتنطلق مقاربتها، وهي أستاذة علم الاجتماع البارزة ومؤلفة عدّة كتب تبحث في تأثير الثقافة الشعبية ووسائل التواصل الاجتماعي والعلاج النفسي وأيضاً الرأسمالية الاستهلاكية، على الأشكال (الجديدة) للحبّ، من موقف يرى أن كل محاولة لفهم المصاعب ومشاعر الاغتراب والحيرة والتشتت وغموض الهويات الجنسيّة وفقدان الإشباع وقِصر مدّة الارتباطات التي تغلب على العلاقات (الغراميّة) المعاصرة بالاعتماد حصراً على التحليلات السيكولوجية وعلم النفس، لن تكون كافية للقبض على أبعاد ظاهرة عريضة معقّدة أصبحت لا تهدد الصحة العقليّة للأفراد فحسب، وإنّما تؤثر سلباً على قدرة المجتمعات عموماً على تجديد ذاتها وتطوير اقتصاداتها وتوفير مستويات كريمة من رعاية الأجيال الأكبر سناً، وأنّه لا بدّ من مدخل سوسيولوجي أشمل ينقد شكل العلاقات العاطفيّة والجنسيّة في إطار نقد أعمّ للنظام الرأسمالي وديناميكيّاته.
وللحقيقة، فإن إيلوز تبدو في «نهاية الحبّ» شديدة التشاؤم من الحالة التي انتهت إليها العلاقات العاطفيّة في المجتمعات الغربيّة، أقلّه مقارنةً بكتبها الأولى مثل «استهلاك اليوتوبيا الرومانسيّة - 1997» عندما اعتبرت أن ثمة مكاناً لعاطفة الحبّ داخل مؤسسة الزواج التقليديّة للطبقة الوسطى –دون الطبقات الفقيرة- والارتباط الوثيق لذلك بالقدرة الماديّة على تبادل الهدايا والتشارك في الأنشطة الترفيهية، بحيث تصبح تلك المؤسسة نهاية حجر أساسٍ مهمٍّ للدّورة الاقتصادية في دول الغرب. أمّا في أحدث كتبها فهي ترى أن منظومة الاقتصاد الاستهلاكي قد تسربت إلى أعماق دواخل الذات الفرديّة المعاصرة وشوّهت المجال الخاص من خلال آيديولوجية «الحرية الشخصية المتطرفة». والنتيجة هي ما تسميه «العلاقات (الاجتماعية) السلبية» أو «اللّاحب»، حين تتلاشى العلاقات وتتفكك وتتبخر وتذوب، لتحل محلّ أشكال الحب النّاضجة والرّفقة المستقرّة. وتستعرض أمثلة للتدليل على هذا «اللّاحب» من النصوص الأدبيّة ووسائل الإعلام، ولكنّ الجزء الأكبر لبياناتها يأتي من مقابلات أجرتها مع نحو مائة شخص يقيمون في دول غربيّة مختلفة، صغاراً ومسنين، ذكوراً وإناثاً، أغلبهم يمكن تصنيفه كطبقة وسطى. وإذا كان الحب في عصر الحداثة قد تميز ذات يوم بحرية الدخول في روابط جنسية وعاطفية وفقاً لإرادة المرء واختياره، فإن الحب –دائماً وفق إيلوز– كما انتهى في عصر ما بعد الحداثة، أصبح مميزاً بتعميم حرية الانسحاب من العلاقات. وفي حين أن علم الاجتماع قد ركزّ كلاسيكياً على كيفيّة تشكيل الرّوابط الاجتماعية، فإن كتاب «نهاية الحب» يذهب إلى الجانب الآخر ليستقصي كيف ولماذا تنهار الروابط الاجتماعية وتتلاشى.
«الرّغبة»، تقول إيلوز «وُجهت خلال القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين عبر المعايير والنصوص والرموز التي أذن بها الدّين ومصالح مجتمع النخبة (البرجوازيّة)». ومن الجليّ أنّ تلك كانت نسقاً من سلطة أبوية بطريركيّة، ولكنها مع ذلك وفّرت للشباب مساراً في اتجاه ممارسات المغازلة والغراميّات ضمن نطاق الخيارات التي تؤدي غالباً إلى الزّواج وتكوين الأسرة، ناهيك بنوع من تعزيز التضامن الوطني بين أفراد المجتمع الواحد عبر المصاهرات بين العائلات. ولكن اليوم، فإن الرأسمالية الاستهلاكية، مع هيمنتها على العقول، دفعت الناس إلى التفكير في ذواتهم والجنس الآخر كسلع في سوق تصبح حتماً أقل ربحية مع مرور الوقت، ويجب استبدال أخرى جديدة بها. والأسوأ من ذلك، أصبحت الرغبة الجنسية تُعرف من خلال ما تسميه «نظام العمل البصري»: حيث تحالفت شركاء الأزياء ومستحضرات التجميل ووسائل الإعلام ومنتجو المواد الإباحية لتحويل (الرّغبة) إلى أداء مرئي مسطّح، وقد أصبح عرض الأجساد المثيرة -ولا سيما النساء- من أجل الربح أمراً شائعاً في مجال الإعلان وأماكن العمل، وغدت الصناعة المرتبطة بالرغبة الجنسية مكوناً أساسياً من هيكليّة الاقتصاد.
ومع أنّ هذه الحالة التي انتهينا إليها نتجت أساساً عن الرأسماليّة المتأخرّة بنزعتها الاستهلاكيّة، فإن المجرم الذي كلّفته الرأسمالية بمهمّة القضاء على «الحب» هي الحرية الجنسية، مع قبولها لمبدأ «الحق بالمتعة» المتبادلة دون قيود، لتفصل الحياة الجنسيّة للأفراد عن مؤسسة الزواج والحميمية المتأتيّة من تبادل مشاعر الحبّ عبر الأيّام. وتتهم إيلوز الحرية الجنسية بقتل الطقوس الاجتماعية للتودد بين الجنسين -الحسابات الأهلية طويلة المدى، والآداب السليمة، وتوقعات الشفافية العاطفية- واستبدلتها بها مفهوم «الموافقة» المرتبطة بفهم محض ذاتيٍّ للرغبة. وحتى علاقات المساكنة الشائعة في المجتمعات الغربيّة والتي قد يقول البعض بأنها شكل من أشكال العلاقة التعاقديّة حيث يدخل العشاق طوعاً في علاقة جنسيّة مستقرة بهدف تبادل المتعة مع الحفاظ على الاستقلالية من خلال الإصرار على عدم وجود التزامات طويلة المدى أو مترتبات على الانفصال، يقول الواقع الموضوعي -وكما تؤكد إيلوز- إن هذا الشكل التعاقدي غالباً ما يفشل بتحقيق توافق متبادل في الآراء لأن الطرفين قد تكونت لديهما أهداف وتوقعات مختلفة من العلاقة، وغالباً ما تنتهي عند نقص المتعة بمرور الأيّام لافتقادها روح الحميميّة والتشارك، وهو ما يكون مؤلماً على الصعيد العاطفي أقلّه بالنسبة للنساء اللواتي يَمِلْن عادةً إلى تأسيس علاقات قائمة على التقدير الشخصيّ، بينما يرغب شركاؤهن الذّكور –على العموم– في التمتع بعلاقات جنسيّة متعددة ومتغيّرة، ناهيك بأن طبيعة أجساد النساء تمرّ بتحولات تتعلق بعمر الإخصاب والحمل والولادة، فيما تبدو أجساد الرّجال أقلّ تغيّراً بالمقارنة.
تقارن إيلوز الأشكال الكلاسيكية من التعارف، حيث يبدأ الناس بممارسة الجنس بعد وقوعهم في الحبّ، ويبذلون جهداً لتقديم أنفسهم على أفضل صورة للطرف الآخر في إطار سعي لا يكلّ لتحقيق نوع من تطابق الخلفيّات الاجتماعيّة والطبقيّة للطرفين لتقليل فرص الطلاق لاحقاً، مقابل الصيغ الجديدة التي تم فيها استبدال بالإطار الاجتماعي للعلاقة اتصالات فرديّة كثيراً ما تبدأ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وبتقييمات ثنائية فورية للآخر على أساس الجاذبيّة الجنسيّة بشكل أساس. وفي هذا المزاج الجديد يبدو التعارف أقرب لتسوق المواد الاستهلاكيّة سريعة الدّوران، ويخلق جواً من عدم الالتزام وغياب الاستقرار والخيانة، يؤدي إلى الاستغلال الجنسي للنساء، وتشييئهن، وإذلال الأقل حظاً جمالياّ وطَبَقيّاً منهن في سوق العرض والطلب هذه.
تَخلص إيلوز إلى أن «الحب» كي يزهر فإنه بحاجة إلى معايير وتوافقات أكثر من الجاذبيّة الجنسيّة المحضة. ولكنّها بعد ذلك، تنفي أن كتابها يدعو لـ«العودة إلى القيم الأسرية التقليديّة أو ثقافة المجتمعات البطريركية، أو الحد من حريّة ممارسة الجنس العابر»، الأمر الذي قد يُوقِع القارئ في حيرة كبيرة، فهي تنتقد الممارسات الحاليّة بتكوين العلاقات، لكنها تعادي الأشكال التقليديّة منها دون تقديم أي تصورات عن بدائل يتعيّن النظر فيها كمخارج محتملّة من الكارثة التي أخذتنا إليها الرأسماليّة المتأخرة. لكنّ ذلك لا يقلل بأي شكل من قيمة الكتاب والجدّل النّقدي الذي يطرحه في صلب مستقبل المجتمعات الغربيّة والإنسانيّة عموماً، وبشأن التفلسف حول معنى الحريّات الشخصيّة، لا سيما أن مجتمعات شرقيّة كثيرة –ومنها عالمنا العربي– في موقع التلقي للثقافات المهيمنة، واخترقت وجدانها ممارسات استهلاكيّة مستوردة، ومنها دون شك بعض الظواهر التي رصدتها إيلوز.



الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ
TT

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

الفن بوصفه وسيلة للتعريف بقضايا المناخ

يعد التغير المناخي من المواضيع المُقلقة والمهمة عالمياً، وهو من الملفات الرئيسية التي توليها الدول أهمية كبرى، حيث تظهر حاجة عالمية وشاملة واتفاق شبه كُلِّي من دول العالم على أهمية الالتزام بقضايا التغير المناخي والاستدامة لحماية كوكبنا للأجيال القادمة.

هذه القضية المهمة عبَّر عنها بعض الفنانين الذين استخدموا الفن لرفع الوعي بالقضايا البيئية. حيث كان الفن إحدى وسائل نشطاء البيئة للتعريف والتأثير في قضايا المناخ والاحتباس الحراري، لاعتقادهم أن الحقائق العلمية وحدها قد تكون غير كافية، ولأهمية التأثير في العاطفة، وهو ما يمكن للفن عمله.

ومن فناني البيئة العالميين الفنان الدنماركي أولافور إيلياسون، الذي عيَّنه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سفيراً للنوايا الحسنة للطاقة المتجددة والعمل المناخي عام 2019م، حيث تركز أعماله المعاصرة والتفاعلية على التعبير عن ظواهر الاحتباس الحراري، وكان أحد أشهر أعماله «مشروع الطقس» الذي عُرض في متحف «تيت مودرن» في لندن، وجذب أعداداً هائلة من الجماهير، إذ هدف هذا العمل التفاعلي إلى الإيحاء للمشاهدين باقترابهم من الشمس، ولتعزيز الرسالة البيئية لهذا العمل ضمِّن كتالوج المعرض مقالات وتقارير عن أحداث الطقس المتغيرة.

المناخ والبيئة

إن التعبير عن قضايا المناخ والبيئة نجده كذلك في الفن التشكيلي السعودي، وهو ليس بمستغرب، حيث يعد هذا الاهتمام البيئي انعكاساً لحرص واهتمام حكومة المملكة بهذه القضية، والتزامها الراسخ في مواجهة مشكلة التغير المناخي، حيث صادقت المملكة على اتفاقية باريس لتغير المناخ في عام 2016، وهو أول اتفاق عالمي بشأن المناخ. كما أطلقت المملكة مبادرتَي «السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر»، لتسريع العمل المناخي وحماية البيئة وتعزيز التنمية المستدامة. وهو ما يجعل الفرصة مواتية للفنانين السعوديين للمشاركة بشكل أكبر في التعبير عن القضايا البيئية، مما يسهم في عكس جهود المملكة تجاه هذه القضايا ومشاركة الجمهور في الحوار حولها.

فعلى سبيل المثال، عبَّرت الفنانة التشكيلية منال الضويان عن البيئة في عمل شهير أنتجته عام 2020م، في معرض DESERT-X في مدينة العلا، بعنوان «يا تُرى هل تراني؟»، حيث كان العمل عبارة عن منصات تفاعلية للقفز في صحراء العلا، في إيحاء غير مباشر بالواحات الصحراوية والبِرَك المائية التي تتكون في الصحراء بعد موسم الأمطار، لكنها اختفت نتيجة للتغير المناخي والري غير المسؤول، وتأثيره البيئي في الطبيعة من خلال شح المياه واختفاء الواحات في المملكة.

الفن البيئي

كما نجد الفن البيئي بشكل واضح في أعمال الفنانة التشكيلية زهرة الغامدي التي ركزت في تعبيرها الفني على المواضيع البيئية من خلال خامات الأرض المستمدة من البيئة المحلية؛ مثل الرمال والأحجار والجلود والنباتات المأخوذة من البيئة الصحراوية كالشوك والطلح، وكيفية تحولها نتيجة العوامل المؤثرة فيها كالجفاف والتصحر والتلوث البيئي، كما في عملها «كوكب يختنق؟» الذي استخدمت فيه أغصان الأشجار المتيبسة وبقايا خامات بلاستيكية، لمواجهة المتلقي والمشاهد بما يمكن أن تُحدثه ممارسات الإنسان من تأثير بيئي سلبي، وللتذكير بالمسؤولية المشتركة لحماية كوكب الأرض للأجيال القادمة.

إن الفن البيئي لدى زهرة الغامدي يتمثل في نقل المكونات الطبيعية للأرض والبيئة المحلية وإعادة تشكيلها في قاعة العرض بأسلوب شاعري يستدعي المتلقي للانغماس في العمل الفني والطبيعة والشعور بها والتفاعل معها لتعزيز الارتباط بالأرض، فمن خلال إعادة تشكيل هذه الخامات البيئية يتأكد التجذر بالأرض والوطن والارتباط به.

وقد نجد التعبير عن المواضيع البيئية أكثر لدى التشكيليات السعوديات من زملائهن من الرجال، وقد يكون ذلك طبيعياً نتيجة حساسية المرأة واهتمامها بمثل هذه القضايا. وهو ما يثبته بعض الدراسات العلمية؛ إذ حسب دراسة من برنامج «ييل» للتواصل بشأن التغير المناخي، بعنوان «اختلافات الجنسين في فهم التغير المناخي» تظهر المرأة أكثر ميلاً إلى الاهتمام بالبيئة، كما أن للنساء آراء ومعتقدات أقوى مؤيدة للمناخ وتصورات أعلى للمخاطر الناتجة عن التغيرات المناخية، وقد فسر الباحثون هذه الاختلافات بأنها نتيجة اختلافات التنشئة الاجتماعية بين الجنسين، والقيم الناتجة عن ذلك كالإيثار والرحمة وإدراك المخاطر.

ومع أن الفن استُخدم كثيراً للتوعية بالقضايا البيئية، إلا أن بعض نشطاء البيئة حول العالم استخدموه بطريقة مختلفة للفت النظر حول مطالبهم، مثل أعمال الشغب والتخريب لأهم الأعمال الفنية في المتاحف العالمية، وقد استهدف بعض هؤلاء الناشطين أشهر الأعمال الفنية التي تعد أيقونات عالمية كلوحة «دوار الشمس» لفان غوخ، ولوحتي «الموناليزا» و«العشاء الأخير» لدافنشي. تخريب هذه الأعمال ليس لأنها مناهضة للبيئة بقدر ما هي محاولة لفت النظر نحو قضاياهم، لكن لتحقيق التغيير المطلوب، أيهما أجدى، التعبير الإيجابي من خلال الفن، أم السلبي من خلال تخريبه؟

إن الفن التشكيلي ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل له دور حاسم ومؤثر في تشكيل الوعي بالقضايا البيئية، فهو يدعو لإعادة التفكير في علاقتنا بها، والعمل معاً لمستقبل أكثر استدامة. إضافةً إلى دوره بصفته موروثاً ثقافياً للأجيال المقبلة، إذ يسجل تجربتنا في مواجهة هذا التحدي العالمي.

* كاتبة وناقدة سعودية