إيطاليا تفك عزلتها بمئوية بازوليني

فعاليات تشمل مختلف المدن الإيطالية وعواصم أوروبية

بازوليني
بازوليني
TT

إيطاليا تفك عزلتها بمئوية بازوليني

بازوليني
بازوليني

بعد الانعكاسات التي خلقتها جائحة «كوفيد - 19» على الفعاليات والنشاطات الثقافية والفنية في عموم إيطاليا، أعلن عن افتتاح موسمها الثقافي والفني بإطلاق احتفالات تستمر طيلة هذا العام بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد بيير باولو بازوليني 1922 – 2022، إحدى أكثر الشخصيات الثقافية الإيطالية حضوراً في القرن العشرين، مخرجاً وشاعراً وروائياً ورساماً.
وستشمل الاحتفالات إقامة معرض له يضم 200 عمل فني من إنجازاته في فن الرسم، وعدة معارض للصور الفوتوغرافية، وعروض أفلامه السينمائية في أكثر من مائة قناة تلفزيونية، وطبعات شعبية جديدة لمؤلفاته، وبرامج تلفزيونية، نقاشات ثقافية، وأكثر من مهرجان تقيمه وزارة الكنوز الثقافية، بالاشتراك مع جمعيات رسمية وأهلية حملت اسمه في عموم المدن الإيطالية وعواصم أوروبية وغربية مثل باريس وبرلين وفرانكفورت وبروكسل ولاهاي، نيويورك، واشنطن وسان فرانشيسكو.
كانت حياة بازوليني تحمل طابعاً متناقضاً وغريباً، ولكنه كان أكثر التزاماً بالناس كما كان يقول. هو يساري، ماركسي، متدين وخارج كل تلك التصنيفات. وكان هدفه في الحياة التحرك عبر العمل الفكري، وعبر تحركه زاوج بين التزامه مع الشيوعيين، وإن اختلف معهم في العديد من المواقف، ومع حفاظه على الالتزام بالكاثوليكية، كما أنه ناضل ضد ما سماه بالبربرية الجديدة، وهو الأمر الذي جعل الروائي الكبير ألبيرتو مورافيا، يقول عنه «هو المثال الجيد على الفنان الذي يستطيع وعبر مختلف الطرق وعبر التجربة الوجودية أن يصل إلى النتائج نفسها التي وصل إليها علم الاجتماع الحديث».
لكن بازوليني دفع ثمناً بالتزامه بالإنسان والحياة بصورة مفجعة، وهو في قمة عطائه. ففي إحدى الصباحات الباكرة من يوم غائم، وفي شارع أورسكالو بمدينة أوستيا التاريخية التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن روما نحو 30 كيلومتراً، وجده الناس جثة هامدة، وكانت إحدى كتفيه مهشمة من أثر انسحاقها بدواليب سيارته الشخصية.
وقد بدت آثار التشويه، والتمثيل على تلك الجثة، وما هي إلا ساعات قليلة حتى أمكن التعرف على هوية هذه الضحية: الاسم بيير باولو بازوليني، والعمر 53 من مدينة بولونيا، والإقامة في مدينة روما، والحرفة كاتب وسينمائي. لقد كان ذلك الصباح هو الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) القارس البرد من عام 1975، لم يكن يوماً عادياً في حياة روما، وهي تفقد أحد أبنائها الكبار.
وبعد أيام قلائل، اعتقلت الشرطة شاباً اسمه بينو بيلوزي توجه لدهس بازوليني، وحكمت المحكمة عليه مدة عشر سنوات، وأغلقت القضية بكون الجريمة تمت بدوافع انتقام شخصية لعلاقة جنسية ما بين المتهم والضحية. إلا أن الأحزاب اليسارية والمنظمات الثقافية، والعديد من الصحافيين والمثقفين، أشاروا إلى أن بازوليني ذهب ضحية جريمة منظمة سعى اليمين والفاشية والمافيا لتصفية كل العناصر اليسارية، ولقد طالبت العديد من الجمعيات في عموم إيطاليا بالكشف عن القتلة الحقيقيين، خصوصاً أن الطب العدلي الإيطالي أكد احتمال وجود أكثر من شخص مشارك في عملية القتل.
وقد انكشفت خلال السنوات الماضية الحقيقة، عندما اعترف بينو بيلوزي، قبل وفاته بعدة أشهر، وفي برنامج تلفزيوني، أن مرتكبي الجريمة الحقيقيين هم كوماندوس من عدة أشخاص ضربوا الشاعر الفنان حتى الموت، بعدما نعتوه بـ«الشيوعي الحقير»، وكان بيلوزي محض شاهد على الجريمة، فألصقوها به، بعد أن هددوه بالاعتداء عليه وعلى عائلته.
منذ كتابه الشهير «فتيان الحياة» الذي قدم فيه حيوات فتيان أحياء وضواحي روما الفقيرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أراد بازوليني أن يعكس الواقع الحقيقي لهؤلاء الذين يعيشون ما دون خط الفقر، ولا يملكون سوى الرغبة في العيش بكرامة. إنهم أبناء الضواحي المهمشة، التي يعيشون من دون حساب أو خطط للمستقبل. لم يكتب بازوليني روايته بلغة إيطالية تقليدية كلاسيكية، بل اعتمد اللهجة التي يستعملها الشبان في تلك الأحياء، وكانت هذه سابقة في الأدب الإيطالي. وقد استعان لتعلم لغة الشارع بصديقه الكاتب والمخرج الإيطالي سيرجيو تشيتي، المتخصص في اللهجات الإيطالية، خصوصاً لهجة سكان مدينة روما. بالطبع حراس الأدب واللغة، كذلك أجهزة النظام والرقابة، لم تعجبهم جرأة بازوليني في استعمال ألفاظ الشارع الصادمة والجريئة، واتهم بالبذاءة من مجموعات تنتمي إلى الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم آنذاك. وخلال خمس عشرة سنة هي عمر إنتاجه الغزير قدم بازوليني إلى المحاكمة ثلاثاً وثلاثين مرة واتهم بتهم مختلفة بسبب جرأته ومحاولته التي لم تتوقف عن تعرية السلطة وإدانتها. ولم يكن يمر أي عمل من أعماله من دون أن يخلق مزيداً من الانقسام، ليس في الرأي العام الثقافي والفكري فحسب، بل في مجتمع روما بشكل عام.
ثم كتب بازوليني آنذاك قصيدته الرائعة «رماد غرامشي». وفيها، وفي غيرها من القصائد الكثيرة، جعل بازوليني الشعر الحديث يتعايش مع اليوتوبيا الاشتراكية، شعر متمرد، ببنية إيقاعية وآفاق معرفية، من خلال قدرته على التقاط الأسئلة الإنسانية.
أما في السينما، فقد أثبت بازوليني أنها أداة للتعبير قادرة على إيصال الأفكار والأحاسيس، واعتبر أن السينما الشعرية بإمكانها أن تتعمق في الوضع الاجتماعي بطريقة تحليلية فلسفية نقدية، وأنها لا تعتمد بالضرورة على قواعد مكتوبة في الإخراج السينمائي.
المثقف بازوليني هو الشخص الذي «ينسق» حتى الحقائق البعيدة، والذي يجمع الأجزاء غير المنظمة والمجزأة من إطار سياسي كامل متماسك، يعيد ترسيخ المنطق في واقع إيطالي اتسم التخبط والغموض في عقد السبعينات من القرن الماضي.



بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)
بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)
TT

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)
بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»، بحسب وصفه. واتخذت هذه الحكايات الباذخة منعطفات يصعب التنبؤ بها أو حتى تحديدها.

دارت إحدى قصصه حول رجلين، يبنيان رابطة قوية بينهما، يطيلان النظر إلى امرأتين غائبتين عن الوعي، وفي قصته المعنونة «الجلد الذي أعيش فيه»، تناول قصة جراح تجميل يجري عملية جراحية لرجل أسير، ويحوله إلى امرأة ضد إرادته.

من بين أكثر من 20 فيلماً روائياً له، كتب ألمودوفار أو شارك في كتابة جميعها تقريباً. في الواقع، وربما أمضى أياماً على مكتب الكتابة، أكثر من وقته داخل مواقع التصوير.

وفي وقت لاحق، اتضح أنه كان يكتب أشياءً أخرى كثيرة - قصص قصيرة، ومذكرات يومية، وبضعة مقالات غير قابلة للتصنيف - على مدار فترة انهماكه في صناعة الأفلام. كانت القصص موجودة في عدة مجلدات زرقاء غامضة، جمعتها مساعدته لولا غارسيا على امتداد الفترة التي تنقل خلالها المخرج مرات عدة بين شقق مختلفة في مدريد.

غلاف الكتاب

وفي عام 2022. بناءً على إلحاح المحرر الأدبي الإسباني غاومي بونفيل، ألقى ألمودوفار نظرة على ما جرى حفظه من كتاباته على مر السنين.

يعلق بونفيل على الأمر بقوله: «كان الأمر أشبه برؤية جانب من شخصية بيدرو لم أكن أعرفه»، مضيفاً أن «المخطوطات التي تولوا فرزها تحتوي على كتابات كتبها المخرج عندما كان مراهقاً، بجانب قطع أخرى يبدو أن ألمودوفار كتبها بعد عقود»، ونشرت مجموعة كتاباته تحت عنوان «الحلم الأخير»، باللغة الإنجليزية، في 24 سبتمبر (أيلول)، الماضي.

يحيط الغموض بمحتوى هذه المجموعة: هل هي مذكرات؟ (كانت إحدى القطع عبارة عن فقرة كتبها في دفتر يوميات قبل عامين)، أم هي محض خيال، أم مجرد مسودات لأفكار يمكن أن تكون إلى قصص خيالية - أم قصص غير مكتملة لم يحولها المخرج إلى فيلم؟ (هناك قصة عن انضمام الكونت دراكولا إلى دير في إسبانيا).

ومثلما الحال مع أفلامه، لا يشعر ألمودوفار بالحاجة إلى وضع إنتاجه في خانة أي نوع أدبي محدد.

في مقدمة الكتاب، ذكر ألمودوفار أنه: «طُلب مني كتابة سيرتي الذاتية أكثر من مرة، ولطالما رفضت ذلك. ويمثل هذا الكتاب شيئاً من المفارقة. وربما يكون من الأفضل وصفه بأنه سيرة ذاتية مجزأة، غير مكتملة وغامضة بعض الشيء».

وربما يكمن اللغز الأكبر في «الحلم الأخير»، وفي السبب الذي دفع ألمودوفار إلى اختيار نشر أي شيء من كتاباته من الأساس. المعروف أن الكثير من الفنانين المشهورين يعمدون إلى حرق أعمالهم التي أبدعوها في فترات الشباب، بدلاً من أن ترى النور. أما ألمودوفار، فقد اختار النهج المعاكس، ونشر المجموعة دون أدنى تحرير تقريباً.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا، بعد سنوات من إبقاء هذه الحكايات بعيداً عن الأنظار، اختار ألمودوفار كاتب القصص الخيالية، إطلاقها للعالم؟

اليوم، في سن الرابعة والسبعين، يتمتع ألمودوفار بحضور نادر لرجل قلما يحمل بداخله ندماً. وقد ولد ألمودوفار في ظل حكم الجنرال فرانشيسكو فرانكو، لكنه بلغ سن الرشد بعد وفاة الديكتاتور، وفي وقت أصبح من الممكن إنتاج أفلام عن الجنس والمخدرات في إسبانيا.

عام 1986. أسس هو وشقيقه أغوستين، شركة إنتاج خاصة بهما، حملت اسم «إل ديسيو»، مما منح المخرج نوعاً من السيطرة الفنية على أفلامه، قلما تمتع بها أحد من قبله. وفي مقابلة أجريت معه في مكتبه، هذا الصيف، قال بنبرة عكست شعوراً بالفخر والدهشة معاً: «الآن، يدرس الناس أفلامي في أقسام الجامعة».

ورغم ادعاء ألمودوفار بأن كتابه سيرة ذاتية، لن يشعر سوى القليل من القراء أن «الحلم الأخير» مذكرات شخصية. ومع ذلك، فإن المجموعة، قصة تلو الأخرى، تستعيد ذكريات الماضي، وتعكس مراحل مختلفة من حياة ألمودوفار، وتحمل كل قطعة مفتاحاً يسلط الضوء على مجمل أعمال ألمودوفار.

وباستطاعة أي متابع لألمودوفار أن يتعرف على الفور على حبكة فيلمه المثير «التعليم الرديء» ــ وقد ظلت القصة حبيسة مجلد أزرق لسنوات، قبل أن يحولها ألمودوفار أخيراً إلى فيلم عام 2004. وعبر القراءة، لا تملك سوى أن تتساءل أحياناً: هل القصة التي أطالعها الآن، ذات المخطوطة التي شاهدتها على الشاشة قبل عشرين عاماً؟

والآن، من هو ألمودوفار؟ أجاب عن ذلك بقوله: «في هذا القرن الجديد أصبحت أكثر كآبة، وأكثر تقشفاً، وأكثر حزناً، وأقل ثقة، وأكثر افتقاداً للأمان، وأشد خوفاً».

وخلال المقابلة، بدا وكأنه يقول إنه رغم إنتاجه المستمر للأفلام، فإن ثمة جزءاً منه يتباطأ: «هناك مهارات معينة تتلاشى تدريجياً بمرور الوقت. أتذكر أنني على مدار شهر واحد، كنت أفكر في 10 قصص يمكنني كتابتها وتحويلها إلى أفلام. اليوم، اختفت هذه القصص».

بعد ذلك، بدا وكأنه يريد التراجع عن هذا الاعتراف. وقال: «لحسن الحظ، الأدب والسينما مهنتان تتمتعان بطول العمر. الأمر ليس مثل لاعب التنس الذي ينهي مسيرته المهنية في سن الـ35».

يتناول فيلم «الغرفة المجاورة»، الذي عُرض للمرة الأولى في مهرجان البندقية السينمائي الأخير، «مشكلة الموت» التي يعاني منها ألمودوفار، على نحو أكثر صراحة من أي من أعماله السابقة، كما أنه أول فيلم له باللغة الإنجليزية. السيناريو، يدور حول مراسلة حربية سابقة تخطط للانتحار، بعد رفضها العلاج من مرض عضال. وتنضم إليها صديقة كاتبة تخشى كل ما يتعلق بالموت، ولكنها توافق على مرافقتها خلال أيامها الأخيرة.

يقول ألمودوفار: «يدور أحدث فيلم أخرجته عن الموت، لكنه يتحدث كذلك عن محاولة التعايش مع الموت». (نال الفيلم، الذي تقوم ببطولته تيلدا سوينتون وجوليان مور، تصفيقاً حاراً استمر لمدة 20 دقيقة في مهرجان البندقية، وفاز بجائزة الأسد الذهبي لأفضل فيلم).

يطل الموت برأسه مرة أخرى في القصة التي يحمل كتابه، «الحلم الأخير»، عنوانها، وتعتبر بمثابة تكريم لوالدته، فرانشيسكا كاباليرو، التي توفيت عام 1999. في هذا الصدد، يقول ألمودوفار إن والدته كاباليرو هي التي عرفته للمرة الأولى على أسلوب «القصص الخيالية» داخل قريتهم، عندما كانت تقرأ الرسائل لجيرانها الأميين. وفي كثير من الأحيان، كانت تزين مضمون الرسائل بخيالات، قال ألمودوفار إنها غالباً ما كانت تأتي أبهى من الحقيقة.

في قصة ألمودوفار، كانت كاباليرو في المستشفى، في لحظاتها الأخيرة على الأرض، بينما كان أفراد أسرتها ملتفين حولها، ثم سقطت فجأة في سبات عميق. وعندما استيقظت، سألت عما إذا كانت هناك عاصفة، وفي غضون فترة وجيزة ماتت. وعن ذلك، كتب ألمودوفار: «كان الجمعة يوماً مشمساً، بينما تسللت بعض أشعة الشمس تتدفق عبر النافذة. يا ترى ما العاصفة التي كانت والدتي تشير إليها في حلمها الأخير؟»

من الحديث عن موت والدته، عاد ألمودوفار إلى موته. وفي حديثه معي، قال: «إنها مسألة بيولوجية، لكن عندما يتعلق الأمر بالموت لا أعتقد أنني تطورت حقاً ذهنياً على نحو يجعلني أتقبله ـ فقط لقبول أنه جزء من طبيعة الحياة. الحقيقة، لم أبلغ هذه النقطة بعد».

ومع ذلك، عندما عاد إلى قصته عن الكونت دراكولا - في القصة، يتعلم مصاص الدماء الخالد خداع الموت بشرب الدم من صليب - كان من الواضح أن جزءاً من المخرج قد تقبل أنه يقترب من نهاية حياته المهنية. وقال إنه لطالما راودته الرغبة في تحويل القصة إلى فيلم، لكنه كان يعلم أن القصة ربما لن تُروى بأي شكل آخر.

آخر قطعة لألمودوفار في المجموعة - أحدث قطعة جرى سحبها من المجلدات الزرقاء - مقال بعنوان «رواية رديئة»، ويتحدث فيها عن آراء الآخرين به ككاتب.

يقول: «في وقت مبكر، عندما كنت صغيراً، كان حلمي أن أصبح كاتباً، وأن أكتب رواية عظيمة. بمرور الوقت، أثبت الواقع أن ما كتبته سيصبح أفلاماً حتماً. أدركت أن كتاباتي لم تكن قصصاً أدبية، بل كانت مسودات أولية لسيناريوهات».

ويختتم ألمودوفار حديثه قائلاً إن الحياة غالباً ما تدور حول تغيير المسار نحو ما تجيده، ويقول إنه كان محظوظاً في هذا الصدد.

* خدمة «نيويورك تايمز»