داريوش شايغان... الوجه الآخر لإيران

كان يرى أن التضاد بين الغرب والآخرين لم يعد صالحاً في عصر العولمة الكونية

داريوش شايغان
داريوش شايغان
TT

داريوش شايغان... الوجه الآخر لإيران

داريوش شايغان
داريوش شايغان

لا أعرف مثقفاً عربياً ولا مسلماً واحداً أكثر انهماكاً في مسألة العلاقة بين التراث والحداثة من داريوش شايغان. لقد كانت شغله الشاغل على مدار خمسين سنة متواصلة؛ أي حتى رحيله عن هذا العالم عام 2018، مخلفاً وراءه العديد من الكتب المرجعية.
وهنا منذ البداية أقول: لحسن الحظ، فإن الفكر لا يموت بموت صاحبه، وإنما يظل حياً متألقاً بعده، إذا كان فكراً حقيقياً مضيئاً للإشكاليات العويصة. ما دام المثقف يخلِّف وراءه أعمالاً كبرى تخلده، وتضيء للأجيال القادمة الطريق، فإنه لا يموت. المفكر الكبير -بهذا المعنى- يظل يعيش معنا، بيننا، يظل يرافقنا. يكفي أن نفتح كتبه لكي نسمع صوته، لكي نستفيد من إضاءاته وإرشاداته. وهذا هو عزاؤنا الوحيد في الواقع بعد رحيله. هل مات ابن سينا؟ هل مات المعري؟ هل مات المتنبي؟ أين هو انتصارك يا موت؟ العباقرة لا يموتون!
نذكر من بين مؤلفاته: «ما الثورة الدينية؟»، وفيه ينتقد أدلجة الدين بعد الفورة الأصولية الخمينية عام 1979. والمقصود بالأدلجة هنا نزع القداسة عن الدين، وتحويله إلى مجرد آيديولوجيا سياسية مربحة جداً، على صعيد التجييش الشعبي، أو بالأحرى: الشعبوي و«الانتخابات الديمقراطية»! وحدها المتاجرة بالدين تبدو فعالة وفتاكة وقادرة على إنزال الجماهير إلى الشارع بالملايين. شيخ صغير واحد يعادل كل المثقفين العرب دفعة واحدة!
ثم كتاب: «النظرة المبتورة. البلدان التقليدية في مواجهة الحداثة»، وفيه يدرس ظاهرة الانفصام السيكولوجي أو «الشيزوفرينيا» التي نعاني منها نحن أبناء العالم الإسلامي، بين الانكفاء على التراث من جهة، والانبهار بالحداثة الغربية من جهة أخرى. فنحن نتذبذب بين قطبين. نحن في منزلة بين المنزلتين. فلا القدامة انتهت بعد، ولا الحداثة انتصرت بعد. من هنا قلقنا وعذابنا وعدم استقرارنا على «خازوق» محدد؛ إذا جاز التعبير. نحن في منزلة بين المنزلتين. نحن نعيش مرحلة انتقالية مترجرجة، مليئة بالمخاضات والعذابات. ولا ننسى كتاب المقابلات الشخصية الحميمية الذي أجاب فيه على أسئلة أحد الباحثين، بعنوان شاعري جميل جداً: «تحت سماوات العالم». ولا ننسى كتابه: «النور يأتي من الغرب». ولا ننسى، ولا ننسى...
لو لم يغادر داريوش شايغان إيران بعد انتصار الظلامية الخمينية، لما استطاع إتحافنا بكل هذه الروائع والمراجع. كيف يمكن التفلسف والتعمق والتحرر في مثل هذا الجو الخانق لرجال الدين؟! لولا استقراره في باريس، عاصمة الحضارة والأنوار، لما بقي منه شيء يذكر.
ما هي النظرية الأساسية لداريوش شايغان؟ يمكن تلخيصها على النحو التالي:
على الرغم من كل نواقص الغرب وانحرافاته العدمية المقلقة، فإن داريوش شايغان يعتقد بأن النور -أي الحل والخلاص- سوف يأتي من جهة الغرب لا محالة. لماذا؟ لأن الغرب على عكس الشرق هو الذي شهد عصر التنوير الكبير في القرن الثامن عشر. ويرى أن هذا العصر يشكل منعطفاً حاسماً في تاريخ البشرية كلها، وليس فقط في تاريخ أوروبا الغربية. فالإنسان في تلك الفترة الذهبية من عمر الحضارة البشرية، أدرك لأول مرة معنى حريته وحقوقه، وأراد نفض الغبار عن نفسه، والتحرر من وصايتين اثنتين مرهقتين فوق رأسه، هما: وصاية السلطة السياسية القمعية ورهبتها، ووصاية الجلالة المقدسة لرجال الدين القمعيين أيضاً. لقد كبر الإنسان، لقد شب عن الطوق، لقد انتقل من مرحلة القصور الشرعي إلى مرحلة سن الرشد، كما يقول كانط في تعريفه للأنوار. باختصار شديد لقد تحرر من وصاية الكاهن المسيحي، وأصبح يفكر بنفسه، ويتجرأ على استخدام عقله.
ولذا يرى شايغان أنه لكي تتفتح شخصية الإنسان وتزدهر؛ بل ولكي تتفتح الروحانيات الدينية ذاتها، فإنه -ويا للمفارقة الكبرى- لا ينبغي أن يعيش في مجتمع ديني شرقي، وإنما في مجتمع غربي علماني حديث، محرَّر كلياً من اللاهوت والكهنوت. ينبغي أن تعيش في ظل حماية دولة القانون المضادة لدولة الاستبداد والتعسف والاعتباط. ينبغي أن تعيش في ظل مؤسسات عقلانية ديمقراطية، إذا ما أردت أن تكتب وتبدع. وهي المؤسسات السائدة في دول الغرب المتقدم في أوروبا وأميركا الشمالية.
ولهذا السبب، فإن معظم المثقفين العرب والمسلمين يحلمون بالهجرة إلى جامعات أوروبا وأميركا؛ حيث يستطيعون مواصلة أبحاثهم بكل حرية. لو أن فضل الرحمن لم يغادر باكستان على وجه السرعة، ولم يستقر في جامعة شيكاغو، هل كان سيتجرأ على كتابة ما كتب عن التراث؟ لو أن محمد أركون لم يبقَ في باريس وعاد إلى الجزائر بعد تخرجه في جامعة «السوربون»، هل كان سيتجرأ على إتحافنا بأكبر مشروع فكري في هذا العصر: «نقد العقل الإسلامي»؟ بالمعنى الفلسفي العميق لكلمة نقد، وليس بمعنى التجريح.
بهذا المعنى، يعتقد داريوش شايغان أن مغامرة الحداثة الكبرى كانت بمثابة حركة تحريرية ضخمة، هادفة إلى تحرير الإنسان من كل الضغوط التراثية التي تجثم على قلبه. هنا يكمن إنجاز الحداثة الأعظم.
ولذلك يقول المفكر الإيراني الشهير ما فحواه: عندما ننظر إلى أوضاع العالم الإسلامي، ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أن رجال الدين يتعدون أو يتطاولون على الحياة الشخصية للفرد أكثر فأكثر ويقمعونها. إنهم يراقبونك في كل حركاتك وسكناتك. فكيف يمكن للفكر أن ينتعش في مثل هذه الأجواء؟ كيف يمكن أن يبدع؟ ولذا نقول: من دون الفصل الحقيقي بين التدين التقليدي المتزمت، والمعرفة الفلسفية النقدية، فإننا لن نتوصل أبداً إلى مجتمع حر أو متحرر من السلفيات الموروثة؛ أياً تكن سنية أم شيعية.
كل هذا يدل على أنه لولا أربعة قرون من الفلسفة والعلمنة، لما استطاعت أوروبا التخلص من القمع اللاهوتي المسيحي، والتوصل إلى المفهوم الحديث والعلماني للحرية والديمقراطية. هذه أصبحت بدهيات، ولكن ينبغي التذكير بها.
وعندما تسأله: هل التضاد بين الغرب والآخرين لا يزال صالحاً؟ يجيبك قائلاً: لم يعد له أي معنى في عصر العولمة الكونية. وهنا يكمن النقص الأساسي في نظرية صموئيل هانتنغتون عن صدام الحضارات. لماذا نقول بأن صدام الحضارات لن يحصل؟ لأنه لم تعد توجد حضارة صافية أو خالصة على وجه الأرض. كلنا أصبحنا مزيجاً، خليطاً من القديم التراثي والحديث الأوروبي. لم تعد توجد كتلة واحدة في مواجهة كتل أخرى. وذلك لأن الحداثة الغربية اخترقت خلال القرنين الماضيين جميع الحضارات البشرية، بما فيها الحضارة الإسلامية، عربية كانت أم فارسية أم تركية أم أفغانية باكستانية... إلخ. وبالتالي فنحن نعيش جميعاً في حالة من الخليط الحضاري، من التمازج والتفاعل المشترك والمتبادل. من هنا كتابه المهم: «الوعي الخليط أو الهجين»، باريس، 2012.
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أننا أصبحنا جميعاً نعيش داخل حضارة كونية واحدة؛ سواء أكنا شرقيين أم غربيين، صينيين أم يابانيين أم إيرانيين أم عرباً أم فرنسيين... إلخ.
يقول داريوش شايغان في أحد اعترافاته: «لقد دهشت كثيراً عندما عدت إلى إيران بعد طول غياب في الخارج. فوجئت بمدى نجاح كتبي المترجمة من الفرنسية إلى الفارسية، فوجئت بمدى إقبال الشباب الإيراني عليها. وعرفت عندئذ أن الشباب تواقون فعلاً إلى الخروج من الأصولية الخمينية، من الظلامية الدينية. الشباب يريدون الانفتاح على العالم، على أفضل ما أعطته الحضارة العالمية؛ وخصوصاً الحضارة الأوروبية والأميركية». ثم يضيف المفكر الإيراني الكبير قائلاً: «سوف أفاجئكم -وربما أصدمكم- إذا قلت لكم إننا أصبحنا جميعاً غربيين! بمعنى أن الحداثة الغربية وصلت إلى كل الثقافات والحضارات الأخرى. لقد دخلت فيها، تغلغلت إلى أعماقها». ثم يضيف شايغان: «أنا في أعماقي أشعر عاطفياً وشعورياً بأني شرقي. على المستوى الشخصي عواطفي شرقية من دون شك. ولكن فيما يخص وعيي الفكري وروحي النقدية الفلسفية، أشعر بأني فرنسي أو أوروبي أو غربي. أنا مشكَّل من ثلاث هويات متراتبة، بعضها فوق بعض: الهوية الفارسية، والهوية الإسلامية، والهوية الحداثية الأوروبية. وكل هذا يشعرني بغنى الشخصية، ولا يسبب لي أي مشكلة. على العكس».
ثم يردف الفيلسوف الإيراني الشهير قائلاً: «اعلموا أن الحضارة الغربية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الكونية. لقد عُمِّمت على جميع شعوب الأرض. فالعلم والفلسفة والروح النقدية والمخترعات التكنولوجية كلها أشياء غربية في الأساس. ولكنها صُدِّرت إلى شتى أنحاء العالم. وبالتالي فإن أي أمة ترفض التنوير الفلسفي بحجة الحفاظ على خصوصيتها وأصالتها، تعاقب نفسها بنفسها، وتحكم على ذاتها بالتقوقع التراثي والتأخر عن ركب الحضارة والعصر. كل مقاومة لمنجزات عصر الأنوار ومكتسباته هي عبارة عن محاولة يائسة تعيدنا إلى عصر الظلامية. لقد تشربنا الحداثة الغربية على غير وعي منا تقريباً. وهذه الهوية الجديدة التي اكتسبناها في جامعات أوروبا وأميركا هي وحدها المسلحة بالملكة النقدية، بالروح الفلسفية الحرة».
لكن داريوش شايغان يقول مستدركاً: «صحيح أن الغرب اخترع ما هو أفضل في هذا العالم: (الديمقراطية)، أي حل الصراعات عن طريق الحوار لا عن طريق العنف والضرب. صحيح أنه اخترع دولة القانون، والروح الفلسفية، والتقدم العلمي والتكنولوجي. ولكنه اخترع أيضاً الأسوأ للأسف الشديد: لقد اخترع الاستعمار، والاستعباد، والتوتاليتارية الفاشية أو النازية، والانحرافات الشذوذية. وبالتالي فهناك الوجه والقفا، هناك الأبيض والأسود. هناك الجوانب التحريرية الإيجابية للحضارة الغربية، وهناك الجوانب السلبية القمعية».
وعندما تطرح عليه السؤال التالي: لماذا يكره العالم الإسلامي الغرب؟ فإنه يجيبك قائلاً ما معناه: إذا ما وضعنا ظاهرة الاستعمار جانباً، فإن هذا الكُره ناتج عن الفشل التاريخي الذريع للعالم الإسلامي. فهو يشعر بالمهانة والذل والنقمة العارمة على هذا الغرب الذي نجح نجاحاً صارخاً، في حين أننا بقينا في مؤخرة الأمم والشعوب. هذا الشيء لا يستطيع أن يتحمله المسلم المعاصر. فهو يقول في قرارة نفسه ما يلي: أنا أنتمي إلى أعظم دين على وجه الأرض، أنا أنتمي إلى الدين الذي ختم الأديان الإبراهيمية أو السماوية كلها، أنا أنتمي إلى الدين الذي يتفوق ميتافيزيقياً وأنطولوجياً وإلهياً على الأديان كلها، فكيف حصل أن سبقني هؤلاء الغربيون المسيحيون؟ هذا شيء لا يُحتمل ولا يُطاق بالنسبة للعربي أو المسلم.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!