تباطؤ الحكومة اللبنانية في مسار التعافي يقلق المصارف

TT

تباطؤ الحكومة اللبنانية في مسار التعافي يقلق المصارف

ارتفع منسوب قلق القطاع المالي والجهاز المصرفي في لبنان، بسبب تباطؤ المسؤولين في إدارة ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بينما يتهيأ لبنان للانغماس في استحقاق الانتخابات النيابية المقررة منتصف شهر مايو (أيار) المقبل، ما يعني تلقائياً أن الوقت المتاح أمام الحكومة وفريقها الاقتصادي يصبح ضيقاً للغاية لبلوغ هدف عقد اتفاق برنامج تمويل متوسط الأمد بين 3 و5 سنوات.
ويلاحظ مسؤول مصرفي كبير، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الاجتماعات التمهيدية وجلسات المشاورات الافتراضية التي عقدها الفريق اللبناني مع فريق الصندوق «بينت أن التقدم المحقق لا يزال هامشياً، ويقتصر في مقارباته على تحديد حجم الفجوة المالية التي تعانيها البلاد بنحو 69 مليار دولار»، فيما تلح إدارة الصندوق على «أولوية استخلاص خطة متكاملة تحظى بتوافق سياسي عريض، وتشكل خريطة الطريق الموعودة للإنقاذ والتعافي».
ومن الثوابت، حسب المسؤول المصرفي، أن يتم إدراج بند الخسائر والمقاربات المقترحة لاستيعابها ضمن الخطة، إلى جانب حزمة الإصلاحات الهيكلية في أبعادها الاقتصادية والمالية والمصرفية، وذلك انطلاقاً من إعداد موازنة عامة أو برنامج مالي ملحق، يتعدى في مقارباته المضمون المحاسبي البحت، ليدخل في صلب مهمات إعادة هيكلة شاملة للنفقات والواردات وتحقيق فائض أولي مستدام يخدم هدف ديمومة الدين العام، ويطمئن مصادر التمويل المستهدفة، وبما يشمل برنامج الصندوق.
وتسبب تسريب «السيناريو» الحكومي لتوزيع الخسائر على الأطراف المعنية، بإرباك داخلي واسع النطاق في صفوف أصحاب الحسابات في البنوك اللبنانية من مقيمين وغير مقيمين، ووصلت أصداؤها إلى إدارة الصندوق، ما دفع فريقها إلى التأكيد مجدداً أن ما يطالب به هو «التوزيع العادل والمنطقي» للأعباء. فيما حمل الاقتراح المتداول خللاً صريحاً في توزيع الأعباء (المعروفة بالخسائر)، بحيث تم تحميل المودعين نسبة 55 في المائة من إجمالي الفجوة، أي نحو 38 مليار دولار عبر الاقتطاعات والتحويل إلى أسهم وسندات، وتحميل مالكي الأسهم المصرفية نسبة 19 في المائة أو نحو 13 مليار دولار، فيما تم تخصيص الدولة والبنك المركزي، وهو مؤسسة عامة مستقلة، بنحو 26 في المائة فقط.
ويقول المصرفي إن هذا التوزيع «ينأى تماماً عن العدالة المتوخاة»، موضحاً أنه «في واقع الحال أن الدولة هي المدين والبنك المركزي هو المؤتمن على توظيفات البنوك لديه التي خصص شرائح كبيرة منها لتمويل الدولة»، أما المصارف التي مولت الاقتصاد بما يماثل إجمالي الناتج المحلي، أي نحو 52 مليار دولار قبل انفجار الأزمات، فقد «استخدمت فوائض المدخرات المودعة لديها لتمويل جزء من الاحتياجات المالية للدولة من خلال سندات الخزينة بالليرة وسندات الدين الدولية، كما أودعت ووظفت أجزاء أكبر لدى مصرف لبنان». وسأل: «أي منطق يبرر معاقبة الدائن وتحميله الوزر الأكبر من الخسائر التي بددتها الحكومات المتعاقبة، في مقدمها الهدر والفساد في قطاع الكهرباء الذي يمثل وحده نحو 40 في المائة من ثقل الدين العام البالغ حالياً نحو 100 مليار دولار؟».
ويؤكد المصرفي أنه «بعدما ارتفع سقف تطلعاتنا عقب انطلاق الحكومة الجديدة في الخريف الماضي، لبدء مسيرة الخروج من قعر الأزمات التي تعانيها البلاد وقطاعاتها، عدنا لنقترب مجدداً من الوقوع في حال عدم اليقين جراء التمادي في تأخير بت الملفات الحيوية التي يمكن أن تضع البلاد على سكة الحل بعد تقويض كامل ركائز الاقتصاد والقطاع المالي على مدار 28 شهراً». وقال: «نخشى فعلاً من تضييع فرصة التلاقي والتفهم المتبادل مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بعدما عانينا الأمرين مع حكومة الرئيس حسان دياب، التي مارست خصاماً مفتوحاً وحاداً مع ركيزتي القطاع المالي، أي البنك المركزي والجهاز المصرفي».
ويوضح: «لدينا مهمة حيوية وشاقة تتطلب سنوات طويلة وعنوانها السمعة المالية للبلد التي تحدرت إلى الحضيض، وهي تتماهى في الأولوية مع تطلعاتنا». وأشار إلى أن الدولة «أصابت القطاع المالي بضرر فادح وخسائر جسيمة حين قررت الحكومة السابقة إخراج لبنان قسراً من الأسواق المالية الدولية عبر تعليق دفع كامل مستحقات سندات الدين الدولية (يوربوندز)، البالغة حالياً نحو 35 مليار دولار كأصول وفوائد، فيما أغفلت عمداً خيارات بديلة لإجراء عملية استبدال (سواب) والشروع فوراً في مفاوضة الدائنين والاستفادة من عامل حمل البنوك المحلية لنحو نصف هذه السندات، وهو ما كان سيسهل الاستجابة لجانب من مطالب المجتمع الدولي».
وتتضمن الاستحقاقات المتأخرة من قبل الحكومة أساساً ومجلس النواب لاحقاً، التوصل إلى إقرار صيغة نهائية لقانون تقييد الرساميل والتحويلات (كابيتال كونترول)، وهو مطلب رئيسي اعتمدته سريعاً الدول التي عانت من أزمة نقدية مفاجئة على غرار اليونان وقبرص. وقد جرى طرح هذا المشروع والتداول به منذ الأيام الأولى لتفجر المشكلات النقدية والمالية في لبنان، وما زالت صياغاته تخضع للاجتهادات في السلطتين التنفيذية والتشريعية، فيما تتراكم عشرات القضايا والشكاوى ضد المصارف في محاكم داخلية وخارجية.
وقال المسؤول المصرفي، إنه «ما من مخرج للتصويب سوى عبر المظلة القانونية المطلوبة، التي تشكل أيضاً أحد الشروط المسبقة لصندوق النقد، الذي يعتبر أن إقرار قانون لـ(الكابيتال كونترول) هو خطوة ضرورية وملحة، وإن متأخرة، كشرط أساسي لأي مسار إصلاحي».



نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
TT

نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)

شيّعت الجماعة الحوثية خلال الأسبوع الماضي أكثر من 15 قتيلاً من قيادييها العسكريين والأمنيين من دون إعلان ملابسات سقوطهم. ورغم توقف المعارك العسكرية مع القوات الحكومية اليمنية في مختلف الجبهات؛ فإن النزيف البشري المستمر لقياداتها وعناصرها يثير التساؤلات عن أسبابه، بالتزامن مع مقتل العديد من القادة في خلافات شخصية واعتداءات على السكان.

ولقي قيادي بارز في صفوف الجماعة مصرعه، الأحد، في محافظة الجوف شمال شرقي العاصمة صنعاء في كمين نصبه مسلحون محليون انتقاماً لمقتل أحد أقاربهم، وذلك بعد أيام من مقتل قيادي آخر في صنعاء الخاضعة لسيطرة الجماعة، في خلاف قضائي.

وذكرت مصادر قبلية في محافظة الجوف أن القيادي الحوثي البارز المُكنى أبو كمال الجبلي لقي مصرعه على يد أحد المسلحين القبليين، ثأراً لمقتل أحد أقاربه الذي قُتل في عملية مداهمة على أحد أحياء قبيلة آل نوف، التي ينتمي إليها المسلح، نفذها القيادي الحوثي منذ أشهر، بغرض إجبار الأهالي على دفع إتاوات.

من فعالية تشييع أحد قتلى الجماعة الحوثية في محافظة حجة دون الإعلان عن سبب مقتله (إعلام حوثي)

ويتهم سكان الجوف القيادي القتيل بممارسات خطيرة نتج عنها مقتل عدد من أهالي المحافظة والمسافرين وسائقي الشاحنات في طرقاتها الصحراوية واختطاف وتعذيب العديد منهم، حيث يتهمونه بأنه كان «يقود مسلحين تابعين للجماعة لمزاولة أعمال فرض الجبايات على المركبات المقبلة من المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة، وتضمنت ممارساته الاختطاف والتعذيب والابتزاز وطلب الفدية من أقارب المختطفين أو جهات أعمالهم».

وتقول المصادر إن الجبلي كان يعدّ مطلوباً من القوات الحكومية اليمنية نتيجة ممارساته، في حين كانت عدة قبائل تتوعد بالانتقام منه لما تسبب فيه من تضييق عليها.

وشهدت محافظة الجوف مطلع هذا الشهر اغتيال قيادي في الجماعة، يُكنى أبو علي، مع أحد مرافقيه، في سوق شعبي بعد هجوم مسلحين قبليين عليه، انتقاماً لأحد أقاربهم الذي قُتِل قبل ذلك في حادثة يُتهم أبو علي بالوقوف خلفها.

في الآونة الأخيرة تتجنب الجماعة الحوثية نشر صور فعاليات تشييع قتلاها في العاصمة صنعاء (إعلام حوثي)

وتلفت مصادر محلية في المحافظة إلى أن المسلحين الذين اغتالوا أبو علي يوالون الجماعة الحوثية التي لم تتخذ إجراءات بحقهم، مرجحة أن تكون عملية الاغتيال جزءاً من أعمال تصفية الحسابات داخلياً.

قتل داخل السجن

وفي العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها الجماعة الحوثية منذ أكثر من 10 سنوات، كشفت مصادر محلية مطلعة عن مقتل القيادي الحوثي البارز عبد الله الحسني، داخل أحد السجون التابعة للجماعة على يد أحد السكان المسلحين الذي اقتحم السجن الذي يديره الحسني بعد خلاف معه.

وتشير المصادر إلى أن الحسني استغل نفوذه للإفراج عن سجين كان محتجزاً على ذمة خلاف ينظره قضاة حوثيون، مع المتهم بقتل الحسني بعد مشادة بينهما إثر الإفراج عن السجين.

وكان الحسني يشغل منصب مساعد قائد ما يسمى بـ«الأمن المركزي» التابع للجماعة الحوثية التي ألقت القبض على قاتله، ويرجح أن تجري معاقبته قريباً.

وأعلنت الجماعة، السبت الماضي، تشييع سبعة من قياداتها دفعة واحدة، إلى جانب ثمانية آخرين جرى تشييعهم في أيام متفرقة خلال أسبوع، وقالت إنهم جميعاً قتلوا خلال اشتباكات مسلحة مع القوات الحكومية، دون الإشارة إلى أماكن مقتلهم، وتجنبت نشر صور لفعاليات التشييع الجماعية.

جانب من سور أكبر المستشفيات في العاصمة صنعاء وقد حولته الجماعة الحوثية معرضاً لصور قتلاها (الشرق الأوسط)

ويزيد عدد القادة الذين أعلنت الجماعة الحوثية عن تشييعهم خلال الشهر الجاري عن 25 قيادياً، في الوقت الذي تشهد مختلف جبهات المواجهة بينها وبين القوات الحكومية هدوءاً مستمراً منذ أكثر من عامين ونصف.

ورعت الأمم المتحدة هدنة بين الطرفين في أبريل (نيسان) من العام قبل الماضي، ورغم أنها انتهت بعد ستة أشهر بسبب رفض الجماعة الحوثية تمديدها؛ فإن الهدوء استمر في مختلف مناطق التماس طوال الأشهر الماضية، سوى بعض الاشتباكات المحدودة على فترات متقطعة دون حدوث أي تقدم لطرف على حساب الآخر.

قتلى بلا حرب

وأقدمت الجماعة الحوثية، أخيراً، على تحويل جدران سور مستشفى الثورة العام بصنعاء، وهو أكبر مستشفيات البلاد، إلى معرض لصور قتلاها في الحرب، ومنعت المرور من جوار السور للحفاظ على الصور من الطمس، في إجراء أثار حفيظة وتذمر السكان.

وتسبب المعرض في التضييق على مرور المشاة والسيارات، وحدوث زحام غير معتاد بجوار المستشفى، ويشكو المرضى من صعوبة وصولهم إلى المستشفى منذ افتتاح المعرض.

ويتوقع مراقبون لأحوال الجماعة الحوثية أن يكون هذا العدد الكبير من القيادات التي يجري تشييعها راجعاً إلى عدة عوامل، منها مقتل عدد منهم في أعمال الجباية وفرض النفوذ داخل مناطق سيطرة الجماعة، حيث يضطر العديد من السكان إلى مواجهة تلك الأعمال بالسلاح، ولا يكاد يمرّ أسبوع دون حدوث مثل هذه المواجهات.

ترجيحات سقوط عدد كبير من القادة الحوثيين بغارات الطيران الأميركي والبريطاني (رويترز)

ويرجح أن يكون عدد من هؤلاء القادة سقطوا بقصف الطيران الحربي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتين شكلتا منذ قرابة عام تحالفاً عسكرياً للرد على استهداف الجماعة الحوثية للسفن التجارية وطرق الملاحة في البحر الأحمر، وتنفذان منذ ذلك الحين غارات جوية متقطعة على مواقع الجماعة.

كما تذهب بعض الترجيحات إلى تصاعد أعمال تصفية الحسابات ضمن صراع وتنافس الأجنحة الحوثية على النفوذ والثروات المنهوبة والفساد، خصوصاً مع توقف المعارك العسكرية، ما يغري عدداً كبيراً من القيادات العسكرية الميدانية بالالتفات إلى ممارسات نظيرتها داخل مناطق السيطرة والمكاسب الشخصية التي تحققها من خلال سيطرتها على أجهزة ومؤسسات الدولة.

وبدأت الجماعة الحوثية خلال الأسابيع الماضية إجراءات دمج وتقليص عدد من مؤسسات وأجهزة الدولة الخاضعة لسيطرتها، في مساعِ لمزيد من النفوذ والسيطرة عليها، والتخفيف من التزاماتها تجاه السكان بحسب المراقبين.