كتب السيرة الذاتية والرواية والتاريخ تتصدر مبيعات معرض القاهرة

الحدث الثقافي الأبرز في مصر لم يعد مليونياً

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

كتب السيرة الذاتية والرواية والتاريخ تتصدر مبيعات معرض القاهرة

جانب من المعرض
جانب من المعرض

وسط إجراءات احترازية مشددة بسبب جائحة فيروس «كورونا» المستجد، وموجات غير مسبوقة من الصقيع، تتواصل نهارات وليالي معرض القاهرة الدولي للكتاب بوصفه حدثاً ثقافياً بارزاً على المستوى العربي محمّلاً بخصوصية شديدة على المستوى المحلي، حيث إنه المناسبة الأهم التي تلتقي فيها مئات الآلاف من العائلات المصرية في طقوس احتفالية مبهجة تتجاوز مجرد شراء الكتب لتشمل مظاهر أخرى كالعروض الفنية والسيرك وأمسيات الشعر والقصة والرواية فضلاً عن الشاشات العملاقة المنصوبة في الهواء الطلق ليتمكن جمهور المعرض من متابعة منتخب الفراعنة في بطولة أمم أفريقيا!
تكفي جولة خفيفة في ساحات وردهات المعرض لتتأكد من أن الحدث الثقافي البارز الذي اشتهر بطابعه المليوني، حيث كان يصل عدد زواره إلى ما يقرب من نصف مليون زائر في اليوم الواحد قبل جائحة «كورونا»، قد فقد تلك الصفة، حيث يتراوح عدد زواره في الدورة الـ53 الحالية ما بين 45 و65 ألف زائر فقط في الأيام الأولى من بداية فعالياته، حسب إحصاءات رسمية. ومن بين رواد المعرض، يشير أسامة منسي –موظف– إلى أن المعرض يتزامن عقده هذا العام مع موجات من الصقيع والبرد غير مسبوقة في مصر، حيث وصلت درجة الحرارة العظمى إلى خمس وست درجات فقط، ما جعل الإحساس بالبرودة طاغياً، مؤكداً أنه حرص رغم ذلك على اصطحاب أسرته لمتابعة الطقوس المبهجة التي يقدمها المعرض مجاناً مثل عروض المسرح والسيرك والأكروبات وكذلك الأمسيات الشعرية والموسيقى.
وتوضح سارة عزيز –ربة منزل- أنها مشجعة متعصبة للمنتخب المصري الوطني لكرة القدم، وحرصت على الحضور للمعرض كي تشتري قائمة من الكتب بالتزامن مع مباريات المنتخب في الأدوار الإقصائية لا سيما مباراتي المغرب والكاميرون، حيث تتحول الساحة الرئيسية للمعرض إلى استاد مفتوح تمتزج فيه الثقافة بالرياضة على نحو مبهج ويصبح التشجيع في أرقى صوره، فهؤلاء ليسوا جمهور المقاهي والكافيهات بل جمهور الكتب والندوات الأدبية!
وترى منى سعد –مديرة مدرسة سابقة- أن الارتفاع الجنوني في أسعار الكتب يأتي بمثابة حفنة من الأتربة أُلقيت على لوحة جميلة، فكثير من المؤلفات التي أرادت اقتناءها كسر سعرها حاجز المائة جنيه، لافتة إلى أن هناك أجنحة حكومية مثل الهيئة العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة والمركز القومي للترجمة تعرض كتباً قيّمة بأسعار في المتناول لكن يعيبها الزحام الشديد على تلك الأجنحة، كما أن الطباعة ليست بالجودة المطلوبة ما يجعل الكتاب عُرضة للتلف سريعاً.
ويشيد محمد شعير -الكاتب الصحافي والباحث الأدبي- بتقنية الهولوغرام وتقنيات الذكاء الصناعي بوصفهما من الملامح المميزة والجديدة للمعرض في دورته الحالية، وكذلك استحداث أول منصة رقمية لبيع الكتب إلكترونياً، فضلاً عن تخصيص ساحات مفتوحة عامة لشعراء العامية وليس لقاعات مغلقة بعيدة.
ويرى د.علاء الجابري -الناقد الأدبي ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة قناة السويس– أن القائمين على المعرض كانوا موفّقين للغاية في اختيار شعار الدورة الحالية «هوية مصر - الثقافة وسؤال المستقبل» نظراً لما شهدته البلاد وبعض الأقطار العربية من محاولات للعبث بمكونات هويتها لصالح تيارات ظلامية بعينها تحتكر الحقيقة وترفض الآخر وتعادي التنوع والتسامح، مؤكداً أن اختيار الكاتب الكبير يحيى حقي شخصية المعرض لهذا العام كان اختياراً جيداً في سياق إلقاء الضوء على رواد الثقافة الذين كاد يتهددهم خطر النسيان والسقوط من ذاكرة الأجيال الجديدة، لافتاً إلى أنه شَرُف بمشاركته في الحديث عن هذا الرائد الكبير «مؤرخاً وناقداً للأدب» حيث ألقى الضوء على مفارقة أن حقي كان من أصول تركية ومع ذلك استطاع هضم اللغة العربية والتجديد فيها وتطعيمها بمفردات من العامية الفصيحة أو «اللغة الثالثة» التي تقف في مكانة وسطى بين الفصحى والدارجة.
ويضيف الجابري: «من الملامح المهمة لمعرض الكتاب في هذه الدورة عدم انفراد الأكاديميين والأدباء بالمشهد، فهناك حضور ملحوظ لشخصيات سياسية وفنية وأخرى ذات اهتمام وثيق بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يعطي المعرض رونقه تاريخياً، فبدا بمثابة جلسة عصف ذهني عملاقة تضم مختلف العقول في شتى التخصصات».
ومن جانبه يرى الكاتب الروائي والباحث الأدبي مصطفى عبيد، أن القائمين على الدورة الحالية جانَبَهم الصواب في اختيار توقيت المعرض والذي تزامن مع امتحانات منتصف العام في مرحلتي التعليم الثانوي والجامعي، ما أفقد المعرض نحو 70% من قوته الضاربة، موضحاً أنه كان يمكن تلافي تلك المشكلة بتقديم موعد المعرض عدة أيام حتى يتسنى لهؤلاء المشاركة وإعطاء هذا الحدث زخمه المعتاد.
ويشير عبيد إلى أنه من الظواهر اللافتة عند استعراض عناوين الإصدارات الجديدة في المعرض هذا الاهتمام الشديد بالتاريخ ومراجعة الماضي واستعادة السيرة الذاتية لكثير من شخصيات الأزمنة الفائتة، وهي ظاهرة إيجابية حيث لم تعد الرواية فقط هي المهيمنة على المطابع، بل أصبح هناك شيء من التنوع يثري المشهد الفكري العام.
ويضيف عبيد: «تبقى دوماً هناك سلبيات ونواقص يشهدها المعرض هذا العام وتتكرر في كثير من الدورات، أهمها في تصوري ظاهرة قرصنة الكتب أو السماح بعرض وبيع كتب مزورة تم تصويرها وإعادة طبعها وبيعها للجمهور لتحقيق ربح أعلى من المشروع. وهي ظاهرة مستشرية في سوق الكتاب المصرية، وتبدو واضحة في أجنحة بعض الدور الصغيرة وفَرْشَات الكتب الخاصة بـ(سور الأزبكية) داخل المعرض. وفيها يتم تزوير كتب رائجة وبيعها للجمهور بالسعر ذاته أو بأقل من السعر الرسمي. وفي الغالب فإن كثيراً من القراء لا يستطيعون التفرقة بين الكتاب المطبوع شرعياً والمزور». ويؤكد، أن هناك بلاغات قدمها بعض الناشرين ضد قراصنة الكتب خلال المعرض وتفاعلت معها إدارة المعرض لكن حجم المضبوط دوماً أقل من 10% من الكتب المقرصنة المتداولة. ومثل هذه الظاهرة تضرب سوق النشر في مقتل وتمثل عدواناً على حقوق المؤلف وكل صناع الكتاب، بخلاف ذلك، فإن المعرض جاء زاخراً وعامراً بالإبداعات الجديدة.
وتشير الناشرة نورا رشاد –المدير التنفيذي للدار المصرية اللبنانية- إلى أنه من الظواهر الجديدة في هذه الدورة انتعاش سوق الكتب الإلكترونية والصوتية على نحو ملحوظ، وهو الأمر الذي تزامن مع جائحة «كورونا» بالإضافة إلى انخفاض سعر تلك الكتب مقارنةً بنظيرتها الورقية وسهولة تخزينها وعدم وجود مشكلات تتعلق بالشحن أو النقل، مؤكدةً أنه ليست هناك أرقام أو إحصائيات محددة توثق لحجم انتشار تلك الكتب الإلكترونية والصوتية.
ويلفت محمود عبد النبي، مدير دار «إبيدي»، إلى أنه حتى في حالة الكتاب الورقي، فإنه الظاهرة المتنامية بقوة تتمثل في بيعه عبر المنصات الإلكترونية «أون لاين»، حيث يكفي أن يتصفح القارئ موقع هذه الدار أو تلك ثم يطلب الكتاب ويصل إليه حتى منزله متضمناً فارقاً بسيطاً في الشحن، موضحاً أن كل ذلك يصب في النهاية في خدمة الناشر والقارئ معاً.
ويشدد حسين عثمان -رئيس مجلس إدارة دار «ريشة» للنشر والتوزيع- على أن للكتاب الورقي قيمة لا يمكن أن تزول، وهذا ما تؤكده أرقام المبيعات على مستوى العالم ومعارض الكتب مصرياً وعربياً، مؤكداً أنه فيما يتعلق بمبيعات المعرض في دورته الحالية فالأمر ليس أفضل من الدورة الماضية التي أُقيمت في موعد استثنائي، ويضيف: «الحضور أقل من المعتاد أو المتوقع، ولعل ارتفاع موجة فيروس كورونا أو أوميكرون والتقلبات الجوية وموجة التضخم العالمية واستمرار امتحانات إجازة منتصف العام الدراسي حتى الآن، كلها أسباب ساهمت في انخفاض معدل إقبال الجمهور وبالتالي قلة المبيعات».
وفيما يتعلق بالكتب الأكثر مبيعاً لا تزال الرواية تتصدر المشهد ومعها الكتب المتعلقة بالنوستالجيا وإعادة قراءة التاريخ وأيضاً كتب السيرة الذاتية والمذكرات.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات
TT

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر، وتصفية الخصوم، وعدم السقوط في براثن الثورات المضادة، من هنا تضحى المذكرات والسير المرافقة لوقائع التحول، داخل الأنظمة والدول، سردية لوعي الضحايا والهاربين والمنتصرين على حد سواء. ولا جرم بعد ذلك تتجلى تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي، وجوه متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، عن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة. إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، بعد الانتهاء من كتاب «قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران» (دار الساقي، بيروت، 2023) لبهروز قمري المؤرخ وعالم الاجتماع الإيراني وأستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون.

حمل الكتاب في الطبعة الإنجليزية (الأصل) عنوان «في تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية»، ولم يكن «أكبر» إلا الاسم الذي سعت السيرة إلى استعادة ملامحه الممحوة من شاشة الذاكرة، استنباته في تربة أخرى، لطالب الجامعة والمناضل الشيوعي، والحالم المشارك في يوميات الثورة الإيرانية، ثم المعتقل السياسي، المحكوم بالإعدام، ضمن المئات من المحكومين الآخرين، المنتظرين تنفيذ العقوبة في سجن إيفين الرهيب، الذي خصصه «الملالي» لتصفية خصومهم الآيديولوجيين، بعد تسلمهم الحكم.

لقد درج عدد كبير من الأكاديميين الإيرانيين على التأريخ للثورة، وتحولات المجتمع الإيراني في تلك السنوات المفصلية، من لحظة سقوط الملكية إلى استحواذ نظام الولي الفقيه على السلطة، على نموذج السيرة الروائية، فمن كتاب «آذر نفيسي» المعنون بـ«أن تقرأ لوليتا في طهران»، إلى كتاب «بردة النبي» لـ«روي متحدة»، تواترت نصوص سردية عديدة عن السنوات الثلاث الأولى للثورة الإيرانية، وما تخللها من صراع نكد بين فرقائها، من الشيوعيين إلى الليبراليين الديمقراطيين، ومن الاشتراكيين إلى القوميين والأقليات الإثنية، ومن رجال الدين إلى طلاب الجامعة الراديكاليين، ومن الملالي إلى «اليساريين الإسلاميين»، وغيرهم ممن انتهى بهم الحال إلى الدفاع عن قناعة امتلاكهم وحدهم «المعنى الحقيقي للثورة»؛ ومن ثم ستسعى تلك التخاييل السردية إلى محاولة فهم ما جرى من انقلاب في الاصطفافات النضالية، ومن صدام دامٍ، ومن تمزقات، وتحولات في المشهد، تكاد لا تستند لمنطق، وتحتاج للتعبير الروائي لتصوير مفارقاتها والتباساتها، ذلك ما سعى إليه مجدداً بهروز قمري في كتابه «قافلة الإعدام».

في الأسطر الأولى من السيرة يقول السارد ما يلي: «متُّ في السابعة والنصف من صباح 31 ديسمبر (كانون الثاني) 1984. لا أقول ذلك مجازاً، وإنما بالمعنى الحقيقي للوجود. في تلك اللحظة تماماً، وضعت قدماً في العالم الآخر مع توقيع متردد ذيل قرار الإفراج... هكذا متُّ، بالخروج من عالم لا يمكن تصوره، ودخول عالم مرتبك من التفاهات، تركت نفسي السابقة في مكان يوجد فقط في شروط مستحيلة» ص9-13. وعبر فصول الكتاب الـ26 تتخايل تدريجياً الحياة المنتهية للشخص الملتبس بالاسم الحركي: «أكبر»، الذي كان قبل أزيد من 4 عقود معتقلاً سياسياً أصيب بالسرطان، عالم جحيمي يركب مفصلاً عابراً في حياة لا تتجاوز 3 سنوات، داخل سجن سياسي بطهران، استضاف «أعداء الثورة» لاستراحة ما قبل الإعدام.

على هذا النحو تقدم لنا السيرة الروائية تفاصيل عودة «أكبر» (الاسم الحركي لبهروز)، من تجربة تنفيذ حكم الإعدام، بعد مضي عقود على خروجه من المعتقل «لأسباب صحية»، كان السرطان الذي تفاقم في جسم المعتقل اليافع، سبباً في الإفراج عنه، فقد كان شخصاً ميتاً، بحكم وضعه الصحي، ولا يحتاج لأن يحال على المشنقة. بعد خروجه وإثر مصادفات شتى انتهت به إلى الولايات المتحدة، وإلى علاج كيميائي قاسٍ، كلل بشفائه التام، وعودته من تجربة موت محقق. فتحول تاريخ خروجه في 31 ديسمبر من سنة 1984، إلى لحظة لاستعادة تفاصيل ما جرى في معتقل إيفين، وإلى استرجاع ملامح وأسماء وحيوات رفاقه في الزنازين، وفي تجربة الانتظار؛ انتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي يختصر في جملة يطلقها الحارس على حين غرة، منادياً اسماً معيناً، طالباً منه: «جمع أغراضه»، وعبر مساحات الاستعادة المرمّمة للوقائع والأحاسيس، والمتخيلة للكلام المنسي، تنبت تأملات في تحولات البلد والناس، كما تستدرج للسيرة سير أشخاص عاديين ممن واكبوا منعرجات الثورة في الشوارع والمصانع والجامعات والمقاهي والحانات، من حكاية الكحول والعمل النقابي وصناعة الأحذية، إلى حكاية الهروب من حظر التجول، إلى صور مناضلين ركبت أحلامهم الثورية على شغف بأشعار حافظ والموسيقى الأذربيجانية... على ذلك النحو انتسجت ملامح شخصيات: «علي» و«شاهين» و«غُلام» و«داوود» و«منصور» و«برهام» و«أصغر» و«صلاح»، ممن شيعهم «أكبر» مع بقج متاعهم الصغيرة إلى باب المغادرة النهائية.

«نصر الله»، «الخال حسين»، «ما العمل؟»، «المنزل الآمن»، «سيمفونية ميلر الأولى»، «التروتسكي»، على هذا المنوال صيغت عناوين فصول السيرة، المنطوية على حكايات لحظات وصفات وسجايا، وطرائف، سكبت في فجوات زمن التحقيق والتعذيب والمحاكمة، ومعايشة برودة زنازين المعتقل، وانتظار نداءات مدعي عام الثورة «أسد الله لاجوردي»، لتعيد الفصول تركيب صور حياة يومية مأخوذة من مفارقات الصخب الثوري، داخل فضاءات مغلقة تملأ بنقاشات الأسرى واسترجاعاتهم، في تلك الحكايات نتعرف على حكايات صناع الأحذية مع النقابات الممنوعة، والأدبيات الماركسية المتنقلة عبر الأيدي في نسخ صغيرة، مخبأة ككنوز مهربة، نكتشف مواسم القراءة تحت اللحاف في الليل بمصابيح عمال المناجم، كما نصاحب النقاشات السياسية المحمومة بين الخصوم/ الشركاء في الثورة، عن فائض القيمة والعنف الثوري، كما نلتقط شذرات الشعر الطليعي جنباً إلى جنب مع الأشعار الكلاسيكية، مع تخايلات موسيقية ومسرحية، وطبعاً حكايات الصمود أمام آلة التحقيق الجهنمية، ونوازع الانتقام البارد، وفناء الذوات في الحشود، والمواهب في الشعارات.

لكن ما يوحد مقامات تلك الفصول في الغالب الأعم هو انتظامها على إيقاع التحقيق والمحاكمة وانتظار دعوة الحارس للخروج النهائي، فعبر تلك الفواصل يكتشف القارئ أمزجة وطبائع بشرية شتى، وقدرات خارقة على الصمود، وضعف بديهي يفضي إلى التراجع والتنكر للقناعات وطلب العفو. بين تلك المدارات تتكشف قدرات تحويل المأساة إلى طاقة للهزل، والتخفف من رهاب الموت والتصالح مع قرار الذهاب إلى الإعدام، ذلك ما يفسر تلك القدرة على استنبات السخرية في فجوات الصمت والألم والعلة: «كانت الغرفة مليئة بدخان السجائر، نحن نصنع غرفة إعدام بالغاز، قال السيد الصالحي بمحاولة باهتة للمزاح».

كانت التفاصيل المفعمة حماساً وعمقاً وتشبثاً بالمعنى، واستحضاراً للأشعار والموسيقى، تُطل لتبديد سطوة الحراس والمحققين، وجعل الخروج النهائي مجرد إجراء عابر، مفرغ من الفجائعية، لهذا كانت محاولات الإقناع المتبادلة بين المعتقلين ليست عن الموت وإنما عن الحياة، عن السياسة والثورة والماركسية والفكر الإسلامي والعمال والحركة الطلابية وانتظارات الإيرانيين منهم، ومدى أخلاقية التراجع تحت وطأة التعذيب، ومصداقية التحولات الفكرية الأخيرة. كان النقاش بصدد ضمائر منذورة للحياة، لا بين أجساد ذاهبة لموت محتوم، يقول السارد في الأسطر الأخيرة من فصل يحمل عنوان «اعتراف»: «أعدمت منية هدائي بعد شهرين من رفضها سحب إنكارها لتراجعها. ألقى حسين روحاني اثني عشر خطاباً آخر، ظهر في ثلاثة منها كماركسي ولد من جديد يدافع عن سنواته في (بيكار)، وفي ثلاثة أخرى كماركسي رفض أجندة (بيكار) السياسية، لكنه دافع عن آيديولوجيتها الثورية. وظهر خلال محاضراته الستة الأخيرة كناقد إسلامي للماركسية وأعلن أنه أخيراً وجد الله بصدق. أعدم بعد وقت قصير من ذلك». (ص168)